سببها أن بقية من زعماء قريش ممن لم يقتلوا في غزوة بدر، اجتمع رأيهم على الثأر لقتلاهم في بدر، وأن يستعينوا بعير أبي سفيان وما فيها من أموال لتجهيز جيش قوي لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
فاجتمعت كلمة قريش على ذلك، وانضمّ إليهم غيرهم أيضا ممن يسمّون بالأحابيش، واستعانوا بعدد كبير من النسوة كي يمنعن الرجال من الفرار إذا أحدق بهم المسلمون. وخرجوا من مكة وقد بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل.
وسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخبر فاستشار أصحابه وخيّرهم بين الخروج لملاقاتهم وقتالهم، والبقاء في المدينة، فإن دخلوا عليهم فيها قاتلوهم، فكان رأي بعض شيوخ من المسلمين عدم الخروج من المدينة، وكان عبد الله بن أبي بن سلول من أصحاب هذا الرأي، غير أن كثيرا من الصحابة ممن لم يكن لهم شرف القتال في بدر رغبوا في الخروج، وقالوا: «يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنّا جبنّا عنهم وضعفنا» .. ولم يزل أصحاب هذا الرأي برسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى وافقهم على ما أرادوا، فدخل بيته فلبس درعه وأخذ سلاحه وظن الذين ألحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخروج أنهم قد استكرهوه على ما لا يريد فندموا على ما كان منهم، ولما خرج عليهم قالوا: استكرهناك يا رسول الله، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته (أي درعه) أن يضعها حتى يقاتل» «17» .
ثم إن النّبي صلّى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ألف من أصحابه، وذلك يوم السبت لسبع ليال خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من هجرته عليه الصلاة والسلام «18» ، حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش- وعامتهم من شيعته وأصحابه- وكرّ راجعا بهم وهو يقول: «عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي له، وما ندري علام نقتل أنفسنا؟» .
وتبعهم عبد الله بن حرام يناشدهم الله أن لا يخذلوا نبيهم، فلم يستجيبوا لندائه، وقال زعيمهم: «لو نعلم قتالا لا تّبعناكم» . وروى البخاري رضي الله عنه أن المسلمين اختلفوا في أمر هؤلاء الذين انخذلوا عن المسلمين، ففرقة منهم تقول نقاتلهم، وأخرى تقول دعوهم، فنزل في ذلك قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَ
__________
(17) رواه ابن إسحاق والإمام أحمد، وروى الطبري قريبا منه، وانظر سيرة ابن هشام: 2/ 62، وتاريخ الطبري: 2/ 500، وترتيب مسند الإمام أحمد: 22/ 52
(18) طبقات ابن سعد: 3/ 87، وسيرة ابن هشام: 2/ 62
اللَّهِ «19» [النساء 4/ 88] . واقترح بعض الصحابة الاستعانة باليهود، بناء على ما بينهم من ميثاق التناصر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» «20» .
وعسكر النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه- وهم لا يزيدون على سبع مئة مقاتل- في الشعب من أحد، فجعل ظهور المسلمين إلى أحد واستقبلوا المدينة، وجعل على الجبل خلف المسلمين خمسين راميا، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وأوعز إليهم قائلا: «قوموا على مصافّكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا» «21» .
وألحّ كل من رافع بن خديج وسمرة بن جندب أن يشتركا مع النّبي صلّى الله عليه وسلم في القتال، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فردّهما النّبي صلّى الله عليه وسلم لصغر سنّهما، فقيل له: «يا رسول الله إن رافعا رام، فأجازه، فجاء سمرة بن جندب يقول: فأنا والله أصرع رافعا، فأجازه هو أيضا» .
وأمسك النّبي صلّى الله عليه وسلم بسيف فقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأقبل أبو دجانة قائلا:
أنا آخذه بحقه، فأعطاه إياه، فأخرج أبو دجانة عصابة حمراء فعصب بها رأسه (وكان ذلك شأنه عند ما كان يريد أن يقاتل حتى الموت) ، ثم راح يتبختر بين الصفوف. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» «22» . ثم أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللواء لمصعب بن عمير رضي الله عنه. وكان الذي يقود ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وميسرتهم عكرمة بن أبي جهل.
فاقتتل الناس، وحميت الحرب، وراح المسلمون يحسون المشركين في اندفاع مذهل، وكان في مقدمة المبارزين والمقاتلين أبو دجانة، وحمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير.
وقتل مصعب بن عمير دون الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخذ اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما هو إلا أن أنزل الله نصره على المسلمين، فانكشف المشركون منهزمين لا يلوون على شيء ونساؤهم يدعون بالويل. وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون. فتكلم الرماة الذين كانوا على الجبل في النزول، واختلفوا فيما بينهم، فنزل كثير منهم ظنّا منهم بأن الحرب قد وضعت أوزارها، وراحوا يأخذون مع أصحابهم الغنائم، وثبت رئيسهم عبد الله بن جبير مع عدد يسير قائلا:
لا أجاوز أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلّة أهله، فكرّ راجعا
__________
(19) صحيح البخاري: 5/ 31
(20) طبقات ابن سعد: 3/ 80، وروى ابن إسحاق نحوه: 2/ 65
(21) ابن سعد: 3/ 80، وابن هشام بألفاظ قريبة من هذه. وروى نحوه البخاري: 5/ 29
(22) ابن هشام: 1/ 233. وروى نحوه مسلم عن طريق حماد بن سلمة، إلا أنه لم يرد في مسلم: أنها لمشية يبغضها الله.. (انظر صحيح مسلم: 7/ 15) .
بالخيل وتبعه عكرمة، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وأميرهم، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف «23» .
وحينئذ انكشف المسلمون وداخلهم الرعب، وأخذ المسلمون يقتتلون على غير شعار أو هدى، وأوجع المشركون في المسلمين قتالا ذريعا، حتى خلص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرمي بالحجارة حتى رمي لشقه، وأصيبت رباعيته (السّن المجاورة للنّاب) وشجّ في وجهه، وجعل الدم يسيل على وجهه فيمسحه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم؟» ، وجاءت فاطمة رضي الله عنها تغسل عنه الدم وعليّ يسكب الماء بالمجن، فلما رأت أن الماء لا يزيد الدم إلّا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك «24» .
وأثناء ذلك شاع في الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قتل، وكانت هذه الشائعة من أشدّ ما أدخل الرعب في قلوب بعض المسلمين، وهي التي جعلت ضعاف الإيمان يقولون: «فما مقامنا هنا إذا كان قد قتل الرسول؟» ، وذهبوا يولون الأدبار، وهي التي جعلت أنس بن النضر يقول: «بل ما فائدة حياتكم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى بعض المنافقين وإلى ضعاف الإيمان قائلا: اللهم إني أبرأ إليك مما يقول هؤلاء، وأعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وانطلق فشدّ بسيفه على المشركين حتى قتل» «25» .
وتجلّى في هذه الأثناء مظهر رائع للتضحية والفداء ممن كانوا حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الصحابة فراحوا يقدمون أرواحهم رخيصة دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قتل معظمهم.
روى البخاري أنه لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النّبي صلّى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النّبي صلّى الله عليه وسلم مجوّب عليه (مترّس بنفسه عليه) بجحفة له (ترس من جلد) ، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع. يشرف النّبي صلّى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: «بأبي أنت وأمي لا تشرف، يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك» «26» .
وترّس أبو دجانة نفسه دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والنّبل يتلاحق في ظهره وهو منحن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يتحول. وترّس زياد بن السكن نفسه دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قتل هو وخمسة من أصحابه، وكان آخرهم على ما رواه ابن هشام عمارة بن يزيد بن السكن، فقاتل دونه
__________
(23) طبقات ابن سعد: 3/ 83. ورواه البخاري عن البراء في كتاب الجهاد: 5/ 28
(24) متفق عليه بألفاظ متقاربة.
(25) متفق عليه.
(26) البخاري: 5/ 33
عليه الصلاة والسلام حتى أثبتته الجراح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أدنوه مني، فوسّده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» .
ثم إن الحرب هدأت بين الطرفين وانحسر المشركون منصرفين، وقد زهوا بالنصر الذي أحرزوه، وفزع الناس لقتلاهم، وكان فيهم حمزة بن عبد المطلب، واليمان، وأنس بن النضر، ومصعب بن عمير وعدد كبير غيرهم، وقد تأثر النّبي صلّى الله عليه وسلم لمقتل عمه تأثرا كبيرا، وقد مثّل به فبقر بطنه وجدع أنفه وأذناه. وأخذ النّبي صلّى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من القتلى في ثوب واحد ثم يقول:
«أيّهما أكثر أخذا للقرآن؟» ، فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا» «27» .
وأخذ اليهود والمنافقون يظهرون الشماتة بالمسلمين، وراح عبد الله بن أبي بن سلول يقول هو وأصحابه للمسلمين: «لو أطعتمونا ما قتل منكم من قتل» ، وأخذوا يتساءلون عن النصر الذي كانوا يتوهمونه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى آيات من سورة آل عمران تعليقا على إرجاف اليهود والمنافقين وبيانا لحكمة ما حصل في غزوة أحد، وهي تبدأ بقوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إلى قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران 3/ 149- 168] .
وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحد مساء السبت، فبات تلك الليلة في المدينة هو وأصحابه، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم. فلما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصبح يوم الأحد، أمر بلالا أن ينادي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس.. ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل، فدفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخرج القوم وهم ما بين مجروح وموهون، ومشجوج حتى عسكروا بحمراء الأسد (مكان من المدينة على بعد عشرة أميال) فأوقد المسلمون هناك نيرانا عظيمة، حتى ترى من المكان البعيد وتوهم كثرة أصحابها.
ومرّ بهم معبد الخزاعي (وكان يومئذ من مشركي خزاعة) ثم تجاوزهم فمرّ على المشركين ولهم زجل ومرح وزهو بالنصر الذي لاقوه في أحد، وهم يأتمرون بالرجوع إلى المدينة للقضاء على المسلمين، وصفوان بن أمية ينهاهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: «ما وراءك يا معبد؟ فقال:
ويحكم! إن محمدا قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرّقا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط؟» .. فأدخل الله بذلك رعبا عظيما في قلوب المشركين،
__________
(27) البخاري: 5/ 49
وهبّو مسرعين عائدين إلى مكة. وأقام النّبي صلّى الله عليه وسلم في حمراء الأسد: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة» «28» .