وكان ذلك في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وسببها أن أناسا من بني بكر، كلموا أشراف قريش في أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح. (وخزاعة كانت قد دخلت في عهد المسلمين) ، فأجابوهم إلى ذلك، وخرج حشد من
قريش متنكرين متنقبين، فيهم صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فالتقوا مع بني بكر في مكان اسمه الوتير، وبيتوا خزاعة ليلا وهم مطمئنون آمنون، فقتلوا منهم عشرين رجلا. وعندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخبرونه بما أصابهم، فقام وهو يجر رداءه قائلا:
«لا نصرت إن لم أنصر بني كعب، مما أنصر منه نفسي» وقال: «إن هذا السحاب ليستهلّ بنصر بني كعب» «44» .
وندمت قريش على ما بدر منها، فأرسلت أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليجدد الهدنة ويماددها. وقدم أبو سفيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه فلم يردّ عليه شيئا، فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «ما أنا بفاعل» .
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: «أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به (والذر صغار النمل) » .
وانطلق أبو سفيان عائدا إلى مكة خائبا، لم يأت بشيء!.
وتجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أخفى أمره، وقال: «اللهم خذ على أبصار فريش فلا يروني إلا بغتة» «45» .
ولما أجمع النبي صلّى الله عليه وسلم المسير، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يحذرهم من غارة عليهم من المسلمين. قال علي رضي الله عنه: «فبعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد. فقال:
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب فخذوه منها. قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة. قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت:
ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرءا ملصقا في قريش- أي كنت حليفا لهم ولست منهم- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال:
__________
(44) روى ذلك ابن سعد وابن إسحاق. وهذا النص من رواية ابن سعد. قال ابن حجر: ورواه البزار والطبراني وموسى بن عقبة، وغيرهم..
(45) رواه ابن إسحاق وابن سعد بألفاظ متقاربة.
إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم.
فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ... الآيات إلى قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «46» .
واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المدينة كلثوم بن حسين، وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، وأرسل صلّى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب: أسلم وغفار ومزينة، وجهينة وغيرهم، فالتقى كلهم في الظهران- مكان بين مكة والمدينة- وقد بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف.
ولم تكن الأنباء قد وصلت قريشا بعد، ولكنهم كانوا يتوقعون أمرا بسبب فشل أبي سفيان فيما جاء به إلى المدينة، فأرسلوا أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء ليلتمسوا الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون، حتى دنوا إلى مر الظهران فإذا هم بنيران عظيمة، فبينما هم يتساءلون فيما بينهم عن هذه النيران، إذ رآهم أناس من حرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتوا بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان» «47» .
قال ابن إسحاق يروي عن العباس تفصيل إيمان أبي سفيان: «فلما أصبح، غدوت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! .. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد. وقال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله، فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك! .. أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
قال العباس: فقلت يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال:
نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسير مقبلا إلى مكة، قال للعباس: احبس أبا سفيان بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال: فخرجت فحبسته عند مضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أحبسه، ومرت القبائل عليها راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من
__________
(46) متفق عليه واللفظ للبخاري.
(47) إلى هنا من رواية البخاري، وليس فيها كما ترى إشارة إلى إسلام صاحبيه أيضا. والذي ذكره علماء السيرة، وفي مقدمتهم موسى بن عقبة، أن بديلا وحكيما أسلما بمجرد دخولهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. فلذلك عنيت رواية البخاري بذكر أبي سفيان وأهملت ذكر صاحبيه.
هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ .. وهكذا، حتى مرّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كتيبة فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار! .. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! .. فقال: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذن» «48» .
ثم قال له العباس: «النجاة إلى قومك! .. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة قبل أن يصلها رسول الله، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فأقبلت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه وهي تقول: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبّح من طليعة قوم! .. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من نفوسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟
قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد» «49» .
وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة قال لأبي سفيان عندما رآه في مضيق الوادي:
«اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فلم يرض عليه الصلاة والسلام بقوله هذا، وقال:
بل اليوم يوم الرحمة، اليوم يعظم الله الكعبة. وأمر قادة جيوشه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم» «50» إلا ستة رجال وأربعة نسوة، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، وهم: عكرمة بن أبي جهل، وهبّار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نقيد، وعبد الله بن هلال، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتنى وقرينة (وكانتا جاريتين تتغنيان دائما بهجاء النبي صلّى الله عليه وسلم) «51» .
ودخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة من أعلاها (كداء) وأمر خالد بن الوليد أن يدخل بمن معه من أسفلها: (كدى) . فدخل المسلمون مكة من حيث أمرهم، ولم يجد أحد منهم مقاومة، إلا خالد بن الوليد، فقد لقيه جمع من المشركين فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية،
__________
(48) رواه ابن سعد، وابن إسحاق، وابن جرير، وروى نحوه البخاري، والألفاظ متقاربة.
(49) ابن إسحاق.
(50) رواه البخاري وابن إسحاق وغيرهما.
(51) رواه ابن سعد وابن إسحاق، قال ابن حجر: وقد جمعت أسماء هؤلاء الرجال الستة والنسوة الأربع من متفرقات الأخبار.
فقاتلهم خالد فقتل منهم أربعة وعشرين من قريش، وأربعة نفر من هذيل. ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بارقة السيوف من بعيد، فأنكر ذلك، فقيل له: إنه خالد قوتل فقاتل، فقال:
«قضاء الله خير» «52» .
روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر والحاكم عن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا (متعمما) بشقة برد حبرة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
وروى البخاري عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يرجّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجع.
ودخل صلّى الله عليه وسلم مكة متجها إلى البيت، وحوله ثلاث مئة وستون صنما، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده، وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» «53» . وكان في جوف البيت أيضا آلهة، فأبى أن يدخل وفيه الآلهة، وأمر بها فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبّر في نواحي البيت وخرج ولم يصل فيه» «54» .
وكان قد أمر صلّى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة (وهو من حجبة البيت) أن يأتيه بالمفتاح، فجاءه به، ففتح البيت، ثم دخل النبي صلّى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح، وقال له: خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم (أي حجابة البيت) ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم. يشير بقوله هذا إلى قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «55» [النساء 4/ 58] .
وأمر رسول الله بلالا فصعد فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة. وأقبل الناس كلهم يدخلون في دين الله أفواجا. قال ابن إسحاق: وأمسك النبي صلّى الله عليه وسلم بعضادتي باب الكعبة وقد اجتمع الناس من حوله ما يعلمون ماذا يفعل بهم، فخطب فيهم قائلا:
«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا
__________
(52) رواه ابن سعد في الطبقات، وروى ابن حجر عن موسى بن عقبة نحوه، وفي سيرة ابن هشام أن الذين قتلوا من المشركين ثلاثة عشر أو أربعة عشر. والحديث رواه البخاري باختصار، راجع فتح الباري: 8/ 8 و 9.
(53) متفق عليه.
(54) رواه البخاري. وروى مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى فيه، وسنذكر تحقيق ذلك في التعليق إن شاء الله.
(55) رواه الطبراني من مرسل الزهري، وابن أبي شيبة، وابن إسحاق. وانظر فتح الباري: 8/ 14
كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب، وتلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» «56» .
وروى الشيخان عن أبي شريح العدوي أنه صلّى الله عليه وسلم قال فيما خاطب به الناس يوم الفتح: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها أناس، لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له فيه ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» .
ثم إن الناس اجتمعوا بمكة لمبايعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ورسوله، فلما فرغ صلّى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، فيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة رضي الله عنها، فلما دنون منه ليبايعنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا، فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال، وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلّا لي أم لا؟ فقال أبو سفيان، وكان شاهدا لما تقول: أمّا ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل. فقال عليه الصلاة والسلام: وإنك لهند بنت عتبة؟ فقالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين، قالت:
وهل تزني الحرة!. قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا، فأنت وهم أعلم. فضحك عمر من قولها حتى استغرب. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
قال: ولا تعصينني في معروف. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن واستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تمسه، إلا امرأة أحلّها الله له» «57» .
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام، بهذه الآية: لا يشركن بالله شيئا، قالت: وما مست يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة
__________
(56) وروى نحوه ابن سعد أيضا في طبقاته.
(57) رواه ابن إسحاق وابن جرير.
يملكها» . وروى مسلم عن عائشة بنحوه «58» .
«وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، يوم الفتح، رجلا من المشركين، وكان علي رضي الله عنه يريد قتله، قالت: فجئت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، وفاطمة بنته تستره بثوب، قالت: فسلّمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب. فقال:
مرحبا بأم هانئ. فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، ثم انصرف.
فقلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجلا أجرته، فلان: ابن هبيرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» «59» .
وأما أولئك النفر الذين كان رسول الله قد هدر دمهم، فقد قتل بعضهم وأسلم الآخرون:
قتل الحويرث وعبد الله بن خطل ومقيس بن حبابة، وقتلت إحدى الجاريتين المغنيتين وأسلمت الأخرى. وشفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وحسن إسلامه، وأسلم عكرمة، وهبار، وهند بنت عتبة.
روى ابن هشام أن فضالة بن عمير الليثي «60» أراد قتل النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضالة؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال:
واذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه» .
ومرّ فضالة عائدا إلى بيته بامرأة كان يميل إليها ويتحدث معها، فقالت له: هلمّ إلى الحديث، فانبعث يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت: لا ... يأبى عليّ الله والإسلام
لو ما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام
وأقام النبي صلّى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري عن ابن عباس، تسعة عشر يوما يقصر فيها الصلاة:
يصلي ركعتين.
,
نأخذ منها ما يلي:
أولا: اشتراك المرأة مع الرجل- على أساس من المساواة التامة- في جميع المسؤوليات التي ينبغي أن ينهض بها المسلم. ولذلك كان على الخليفة أو الحاكم المسلم أن يأخذ عليهن العهد بالعمل على إقامة المجتمع الإسلامي بكل الوسائل المشروعة الممكنة، كما يأخذ العهد في ذلك على الرجال.
ليس بينهما فيه فرق ولا تفاوت.
ومن هنا كان على المرأة المسلمة أن تتعلم شؤون دينها، كما يتعلّم الرجل، وأن تسلك كل السّبل المشروعة الممكنة إلى التسلح بسلاح العلوم والوعي والتنبه إلى مكامن الكيد وأساليبه لدى أعداء الإسلام الذين يتربصون به، حتى تستطيع أن تنهض بالعهد الذي قطعته على نفسها وتنفذ عقد البيعة الذي في عنقها.
وواضح أن المرأة لا تستطيع أن تنهض بشيء من هذا إذا كانت جاهلة بحقائق دينها غير منتبهة إلى أساليب الكيد الأجنبي من حولها.
ثانيا: علمت مما ذكرناه من كيفية بيعة النّبي صلّى الله عليه وسلم للنساء، أن مبايعتهن إنما كانت بالكلام فقط من غير أخذ الكف، وذلك على خلاف بيعة الرجال، فدلّ ذلك على أنه لا يجوز ملامسة الرجل بشرة امرأة أجنبية عنه، ولا أعلم خلافا في ذلك عند علماء المسلمين، اللهم إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة كتطبيب وفصد وقلع ضرس ونحو ذلك.
وليس من الضرورة شيوع العرف بمصافحة النساء، كما قد يتوهم بعض الناس، فليس للعرف سلطان في تغيير الأحكام الثابتة بالكتاب أو السّنة إلّا حكم كان قيامه من أصله بناء على عرف شائع. فإن تبدل ذلك العرف من شأنه أن يؤثر في تغيير ذلك الحكم، إذ هو في أصله حكم شرطي مرهون بحالة معينة. وليس موضوع البحث من هذا في شيء.
ثالثا: دلّت أحاديث البيعة التي ذكرناها على أن كلام الأجنبية يباح سماعه لدى الحاجة، وأن صوتها ليس بعورة، وهو مذهب جمهور الفقهاء ومنهم الشافعية. وذهب بعض الحنفية إلى أن صوتها عورة للأجنبي. وهم محجوجون في ذلك بما صحّ من أحاديث بيعته صلّى الله عليه وسلم للنساء، وأحاديث كثيرة أخرى.
,
اختلف العلماء في ذلك، فذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وآخرون إلى أنه دخلها
صلحا، وكان الممثل لقريش في هذا الصلح هو أبو سفيان، وكان الاتفاق والشرط فيه على أنه:
من أغلق بابه فهو آمن، ومن أسلم فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، إلا ستة أنفس هدر دمهم.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه دخلها عنوة، واستدلوا على ذلك بالطريقة التي دخل بها المسلمون مكة، وبما كانوا يحملونه من السلاح وعدة الحرب.
واتفق الكل على أنه صلّى الله عليه وسلم لم يغنم منها مالا ولم يسب فيها ذرية، فأما من ذهب إلى أنها فتحت صلحا فسبب ذلك واضح، وأما من ذهب إلى أنها فتحت عنوة فقد قالوا إن الذي منع الرسول صلّى الله عليه وسلم من قسمتها شيء آخر تمتاز به مكة عن بقية البلاد، فإنها دار النسك ومتعبّد الحق وحرم الرّب تعالى، فكأنه وقف من الله تعالى على العالمين، ولهذا ذهب بعض العلماء ومنهم أبو حنيفة إلى منع بيع أراضي ودور مكة المكرمة «71» .
هذه خلاصة عن بعض الأحكام والعبر التي تؤخذ من أحداث الفتح الكبير لمكة المكرمة، وحسبنا هذا القدر من ذلك والله أعلم.