_________
(1) آية 136 سورة الأنعام.
فَلَق، الصبح ثم حُبِّب إليه الخلاء. فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد. قبل أن يَنْزع إلى أهله. ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فاجأه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك. فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجَهْد. ثم أرسلني. فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني الثالثة فغطّني الثالثة. ثم أرسلني، فقال لي في الثالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3] (1) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، حتى دخل على خديجة بنت خويلد. فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتُكْسِب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان قد تنصر في الجاهلية. وكان يكتب الكتاب العبراني. فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك؟ قال: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي. وإن يُدْرِكْني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
_________
(1) سورة العلق، الآيات: 1-3.
ثم أنشد ورقة:
لججت , وكنت في الذكرى لجوجًا ... لهمّ طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثَك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قُس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدًا سيسود قومًا ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا
ولوجًا بالذي كرهت قريش ... ولو عَجّت بمكتها عجيجا
أرَجّي بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش -إن سفلوا- عروجا
وهل أمر السفالة غير كفر ... بمن يختار من سَمَك البروجا
فإن يبقوا وأبقَ تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خروجا
فلم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي. حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا. حتى كان يذهب إلى رءوس شواهق الجبال، يريد أن يلقي بنفسه منها، كلما أوفى بذروة جبل تَبَدَّى له جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا " فيسكن لذلك جأشه، وتَقَر نفسه،
فيرجع، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل، فيقول له ذلك.
فبينما هو يوما يمشي إذ سمع صوتا من السماء. قال: فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرُعبت منه، فرجعت إلى أهلي، فقلت: دثروني. دثروني. فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] (1) فحمي الوحي وتتابع.»
[أنواع الوحي]
,
أحدها: الرؤيا. قال عبيد بن عمر: " رؤيا الأنبياء وحي " ثم قرأ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] (2) .
الثاني: ما كان الملك يلقيه في رُوعه - أي قلبه - من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نَفَث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله. فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته» .
الثالث: أن الملك يتمثل له رجلا فيخاطبه. وفي هذه المرتبة: كان يراه الصحابة أحيانا.
الرابع: أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليه. فيلتبس به الملك. حتى إن جبينه ليتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد. وحتى إن
_________
(1) الآيتان 1، 2 سورة المدثر.
(2) من الآية 102 سورة الصافات.
راحلته لتبرك به إلى الأرض. وجاءه مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فكادت تُرَض.
الخامس: أن يأتيه الملك في الصورة التي خلق عليها. فيوحي إليه ما شاء الله. وهذا وقع مرتين، كما ذكر الله سبحانه في سورة النجم.
السادس: ما أوحاه الله له فوق السموات ليلة المعراج، من فرض الصلاة وغيرها.
قال ابن القيم رحمه الله: أول ما أوحى إليه ربه: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته صلى الله عليه وسلم. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره بالتبليغ. ثم أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] (1) فنبأه باقرأ، وأرسله ب: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ثم أمره: أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين.
فأقام بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة من غير قتال ولا جزية. ويأمره الله بالكف والصبر. ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن لم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين، حتى يكون الدين كله لله.
[أول من آمن]