فلما مروا بحي من مدلج مصعدين من قديد. بصر بهم رجل فوقف على الحي. فقال لقد رأيت آنفا بالساحل أسودة، وما أراها إلا محمدا وأصحابه.
ففطن بالأمر سراقة بن مالك، فأراد أن يكون الظفر له. وقد سبق له
من الظفر ما لم يكن في حسابه. فقال: بل هما فلان وفلان خرجا في طلب حاجة لهما. ثم مكث قليلا. ثم قام فدخل خباءه وقال لجاريته: أخرجي بالفرس من وراء الخباء وموعدك وراء الأكمة. ثم أخذ رمحه وخفض عاليه يخط به الأرض حتى ركب فرسه. فلما قرب منهم وسمع قراءة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - وأبو بكر يكثر الالتفات ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - لا يلتفت - قال أبو بكر: يا رسول اللَّه هذا سراقة بن مالك قد رهقنا. فدعا عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - فساخت يدا فرسه في الأرض.
فقال قد علمت أن الذي أصابني بدعائكما. فادعوا اللَّه لي، ولكما أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - فخلصت يدا فرسه. فانطلق. وسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - أن يكتب له كتابا، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم. وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة. فجاء به فوفى له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -.
فرجع. فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر وقد كفيتم ما هاهنا. فكان أول النهار جاهدا عليهما. وكان آخره حارسا لهما.
[قصة أم معبد]
,
من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك. قال «أتأذنين لي أن أحلبها؟» قالت: نعم - بأبي أنت وأمي - إن رأيت بها حليبا فاحلبها.
فمسح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - بيده ضرعها، وسمى اللَّه ودعا، فتفاجت عليه ودرت. فدعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه حتى علته الرغوة فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا. ثم شرب هو. وحلب فيه ثانيا فملأ الإناء. ثم غادره عندها وارتحلوا.
فقل ما لبثت أن جاء زوجها يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزالا. فلما رأى اللبن قال: من أين هذا؟ والشاء عازب. ولا حلوبة في البيت؟ . قالت: لا واللَّه إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حديثه كيت وكيت، قال: واللَّه إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه. صفيه لي يا أم معبد.
قالت: ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي صورته صحل وفي عنقه سطع. وفي لحيته كثاثة أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر إذا صمت علاه الوقار وإذا تكلم علاه البهاء أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحسنه وأحلاه من قريب. حلو المنطق، فصل: لا نذر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ربعة لا تقتحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول. غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا. له رفقاء يحفون به. إذا قال استمعوا لقوله. وإذا أمر تبادروا إلى أمره محفود محشود. لا عابس ولا مفند (1) .
_________
(1) هو الذي لا فند ولا ضعف في كلامه ولا يرد عليه في أي شأن لكمال قوته وحكمته.
قال أبو معبد: هذا - واللَّه - صاحب قريش الذي تطلبه. ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن، إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
وأصبح صوت عال بمكة يسمعونه ولا يرون القائل يقول:
جزى اللَّه رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيالقصي ما زوى اللَّه عنكمو ... به من فخار لا يحاذى وسؤدد
وقد غادرت وهنا لديها بحالب ... يرد بها في مصدر ثم مورد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها؟ ... فإنكموا إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليه ويغتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به - بعد الضلالة - ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى , حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد اللَّه يسعد
ويهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت أسماء بنت أبي بكر. مكثنا ثلاث ليال لا ندري: أين توجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -؟ إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات غناء العرب، والناس يتبعونه ويسمعون منه ولا يرونه حتى خرج من أعلى مكة فعرفنا أين توجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -.
قالت ولما خرج أبو بكر احتمل معه ماله. فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره - فقال: إني واللَّه لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قلت: كلا واللَّه قد ترك لنا خيرا. وأخذت حجارة فوضعتها في كوة البيت. وقلت: ضع يدك على المال. فوضعها، وقال: لا بأس. إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، قالت: واللَّه ما ترك لنا شيئا وإنما أردت أن أسكت الشيخ.
[دخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة]
دخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة ولما بلغ الأنصار مخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - من مكة. كانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه. فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إلى منازلهم. فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من
نبوته. خرجوا على عادتهم. فلما حميت الشمس رجعوا، فصعد رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة. فرأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب. فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء هذا جدكم الذي تنتظرونه. فثار الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -.
وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف. وكبر المسلمون فرحا بقدومه. وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة. وأحدقوا به مطيفين حوله.
فلما أتى المدينة، عدل ذات اليمين حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، ونزل على كلثوم بن الهدم - أو على سعد بن خيثمة - فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة. وأسس مسجد قباء. وهو أول مسجد أسس بعد النبوة.
فلما كان يوم الجمعة ركب. فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف. فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي. ثم ركب. فأخذوا بخطام راحلته يقولون. هلم إلى القوة والمنعة والسلاح. فيقول «خلوا سبيلها. فإنها مأمورة» فلم تزل ناقته سائرة لا يمر بدار من دور الأنصار، إلا رغبوا إليه في النزول عليهم فيقول: «دعوها فإنها مأمورة» فسارت حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم فبركت ولم ينزل عنها، حتى نهضت وسارت قليلا. ثم رجعت وبركت في موضعها الأول. فنزل عنها.
وذلك في بني النجار، أخواله (1) -صلى اللَّه عليه وسلم -.
_________
(1) هم أخوال جده عبد المطلب.
وكان من توفيق اللَّه لها. فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم. فجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم. وبادر أبو أيوب خالد بن زيد إلى رحله فأدخله بيته. فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - يقول: «المرء مع رحله» وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بخطام ناقته. فكانت عنده. وأصبح كما قال قيس بن صرمة - وكان ابن عباس يختلف إليه ليحفظها عنه.
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقر به النوى ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن اللَّه لا رب غيره ... وأن كتاب اللَّه أصبح هاديا
وكما قال حسان بن ثابت رضي اللَّه عنه:
قومي الذين هموا آووا نبيهمو ... وصدقوه وأهل الأرض كفار
إلا خصائص أقوام همو تبع ... في الصالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم اللَّه. قولهمو ... لما أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا. ففي أمن وفي سعة ... نعم النبي. ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها ... من كان جارهمو. دار هي الدار
وقاسموه بها الأموال إذ قدموا ... مهاجرين. وقسم الجاحد النار
وكما قال:
نصرنا وآوينا النبي محمدا ... على أنف راض من معد وراغم
قال ابن عباس: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - بمكة فأمر بالهجرة. وأنزل اللَّه عليه، {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] (1) والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم - يعلم ألا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان. فسأل اللَّه سلطانا نصيرا، فأعطاه. قال البراء.: أول من قدم علينا: مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن. ثم جاء عمار بن ياسر، وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبا. ثم جاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -. فما رأيت الناس فرحوا بشيء فرحهم به حتى جعل النساء والصبيان
_________
(1) آية 80 سورة الإسراء.
والإماء يقلن قدم رسول اللَّه جاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -.
قال أنس شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من اليوم الذي دخل المدينة علينا. وشهدته يوم مات. فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات.
فأقام في بيت أبي أيوب حتى بنى حجره ومسجده.
وبعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - وهو في منزل أبي أيوب - زيد بن حارثة وأبا رافع. وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه. وسودة بنت زمعة زوجه وأسامة بن زيد، وأم أيمن. وأما زينب فلم يمكنها زوجها أبو العاص بن الربيع من الخروج وخرج عبد اللَّه بن أبي بكر بعيال أبي بكر. وفيهم عائشة.
[بناء المسجد]
,
فصل ولما استقر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - في المدينة، وأيده اللَّه بنصره وبالمؤمنين. وألف بين قلوبهم بعد العداوة، ومنعته أنصار اللَّه من الأحمر والأسود رمتهم العرب واليهود عن قوس واحد، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة.
واللَّه يأمر رسوله والمؤمنين بالكف والعفو والصفح حتى قويت الشوكة. فحينئذ أذن لهم في القتال ولم يفرضه عليهم فقال تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] (1) وهي أول آية نزلت في القتال.
ثم فرض عليهم قتال من قاتلهم فقال تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] الآية (2) . ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقال {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]- الآية (3) .
[بعض خصائص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم]
بعض خصائص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - يبايع أصحابه في الحرب على ألا يفروا، وربما بايعهم على الموت. وربما بايعهم على الجهاد. وربما بايعهم على الإسلام.
وبايعهم على الهجرة قبل الفتح.
وبايعهم على التوحيد والتزام طاعة اللَّه ورسوله.
_________
(1) آية 39 من سورة الحج.
(2) من الآية 190 من سورة البقرة.
(3) من الآية 36 من سورة براءة.
وبايع نفرا من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئا. فكان السوط يسقط من أحدهم. فينزل فيأخذه ولا يسأل أحدا أن يناوله إياه.
وكان يبعث البعوث يأتونه بخبر عدوه. ويطلع الطلائع ويبث الحرث والعيون حتى لا يخفى عليه من أمر عدوه شيء.
وكان إذا لقي عدوه دعا اللَّه واستنصر به وأكثر هو وأصحابه من ذكر اللَّه والتضرع له.
وكان كثير المشاورة لأصحابه في الجهاد.
وكان يتخلف في ساقتهم. فيزجي الضعيف ويردف المنقطع.
وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها.
وكان يرتب الجيش والمقاتلة ويجعل في كل جنبة كفؤا لها.
وكان يبارز بين يديه بأمره. وكان يلبس للحرب عدته. وربما ظاهر بين درعين كما فعل يوم بدر.
وكان له ألوية.
وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا ثم قفل.
وكان إذا أراد أن يغير ينتظر. فإذا سمع مؤذنا لم يغر وإلا أغار.
وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرة. وكان إذا اشتد البأس اتقوا به وكان أقربهم إلى العدو.
وكان يحب الخيلاء في الحرب. وينهى عن قتل النساء والولدان. وينهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو.
[أول لواء عقده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم]
أول لواء عقده رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - وأول لواء عقده رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - على قول موسى بن عقبة - لواء حمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان في السنة الأولى، بعثه في ثلاثين رجلا من المهاجرين خاصة يعترض عيرا لقريش جاءت من الشام، فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل حتى بلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فالتقوا واصطفوا للقتال فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني. وكان موادعا للفريقين. فلم يقتتلوا.
[سرية عبيدة بن الحارث]