قال ابن إسحق: وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه. أما الأحبار من
يهود والرهبان من النصارى، فلما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه. وأما الكهان من العرب، فجاءهم به الشياطين فيما تسترق به من السمع، إذ كانت لا تحجب عن ذلك كما حجبت عند الولادة والمبعث، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره، ولا تلقي العرب لذلك بالا حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرونها فعرفوها. وهذا فيه تصريح بأن الملائكة كانت تذكره صلى الله عليه وسلم في السماء قبل وجوده.
فأما أخبار الأحبار من اليهود فمنها ما تقدم ذكره. ومنها ما جاء عن سلمة بن سلامة وكان من أصحاب بدر قال: كان لنا جار من يهود بني عبد الأشهل، فذكر أي عند قوم أصحاب أوثان القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، فقالوا له:
ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال نعم، والذي يحلف به، وليودّ أي الشخص أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، بأن ينجو من تلك النار غدا، فقالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبيّ يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن، قالوا ومن يراه؟ فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنا، فقال:
إن يستنفد: أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو: أي ذلك اليهودي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر بغيا وحسدا فقلنا له: ويحك يا فلان، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به.
ومن ذلك ما جاء عن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله تعالى عنه قال: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية: أي ترك عبادتها، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء: أي وهي قرية بين المدينة والشام فقلت: إني امرؤ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار، فيعين ثلاثة لقذره أي يستنجي بها، ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه شكلا قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره وإذا نزل منزلا سواه ورأى ما هو أحسن منه تركه وأخذ ذلك الأحسن، فرأيت أنه إله باطل لا ينفع ولا يضر، فدلني على خير من هذا، قال: يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها. فإذا رأيت ذلك فاتبعه، فإنه يأتي بأفضل الدين، فلم يكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة، آتي فأسأل هل حدث حدث؟ فيقال لا، ثم قدمت مرة فسألت، فقيل لي: حدث، رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، فشددت راحلتي ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله بمكة، فسألت عنه فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا عليه أشداء، فتلطفت له حتى دخلت عليه، فسألته: أي شيء أنت؟ قال نبي. قلت: من نبأك؟ قال الله.
قلت: وبم أرسلك؟ قال «بعبادة الله وحده لا شريك له، وبحقن الدماء، وبكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأمان السبيل» فقلت: نعم ما أرسلت به، قد آمنت بك وصدقتك، أتأمرني أن أمكث معك أو أنصرف؟ فقال: ألا ترى كراهة الناس ما جئت به، فلا تستطيع أن تمكث، كن في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني، فكنت في أهلي حتى خرج صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فسرت إليه، فقدمت المدينة، فقلت يا نبي الله أتعرفني؟ قال: «نعم أنت السلمي الذي أتيتني بمكة» .
ومن ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهداه ما كنا نسمع من أحبار يهود. كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وإرم: أي يستأصلكم بالقتل فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله عز وجل وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا ففي ذلك نزلت هذه الآيات في البقرة وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) [البقرة: الآية 89] .
ومن ذلك ما حدث به شيخ من بني قريظة قال: إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان أي الجبان، قدم إلينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه: أي لا أظن أحدا من غير المسلمين، لأن المسلمين يصلون الخمس فلا أصلية لا زائدة، فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر: أي احتبس قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي نجواكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول صاعا من تمر ومدين من شعير فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا فو الله ما يبرح من محله حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة: أي لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا بل أكثر من ذلك، ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت، قال: يا معشر يهود ما ترينه أخرجني من أهل الخمر- بالتحريك وبإسكان الميم: الشجر الملتف والخمير- إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم، قال: فإنما قدمت هذه الأرض أتوكف: أي أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه: أي أقبل وقرب كأنه لقربه أظلهم: أي ألقى عليهم ظله وهذا البلد مهاجره، وكنت أرجو أن يبعث فاتبعه، فقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة، قال لهم نفر من هدل- بفتح الهاء وفتح الدال المهملة- وقيل بسكونها إخوة بني
قريظة، وهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية، ويقال أسيد بالتصغير وأسد بن عبيد وكانوا شبانا أحداثا، يا بني قريظة والله إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم كما سيأتي.
قال: ومن ذلك خبر العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال:
خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب فيه أبو سفيان بن حرب، فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان: إن محمدا قائم في أبطح مكة يقول: أنا رسول الله أدعوكم إلى الله، ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال: بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال. قال العباس: فقلت نعم، قال نشدتك الله هل كان لابن أخيك صبوة؟ قلت: لا والله ولا كذب ولا خان، وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين. قال: هل كتب بيده؟ فأردت أن أقول نعم، فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد عليّ، فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود، قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن يهود تفزع من ابن أخيك فقلت: قد رأيت لعلك أن تؤمن به، قال: لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء: أي بالمد. قلت ما تقول: قال كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع على كداء، قال العباس: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونظر أبو سفيان إلى الخيل قد طلعت من كداء. قلت: يا أبا سفيان تذكر تلك الكلمة قال: إي والله إني لأذكرها انتهى.
أي ومن ذلك ما جاء عن أمية بن أبي الصلت الثقفي قال لأبي سفيان: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن أني هو، وكنت أتحدث بذلك، ثم ظهري لي أنه من بني عبد مناف، فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه إلا عتبة بن ربيعة، إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوح إليه، فعرفت أنه غيره.
قال أبو سفيان: فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قلت لأمية، فقال أمية: أما إنه حق فاتبعه.
فقلت له: فأنت ما يمنعك قال: الحياء من نساء ثقيف، إني كنت أخبرهن أني هو، ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف، وسيأتي ذلك بأبسط مما هنا.
وأما أخبار الرهبان من النصارى، فمنها ما تقدم ذكره. قال: ومنها خبر طلحة بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل فيكم أحد من أهل الحرم؟ فقلت نعم أنا، قال هل ظهر أحمد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، أي الذي يبعث فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخلة وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة، فوقع في قلبي ما قال الراهب، فلما قدمت مكة حدثت أبا بكر بذلك، فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبره، فسر بذلك وأسلم طلحة. فأخذ نوفل بن العدوية أبا بكر وطلحة رضي الله تعالى عنهما فشدهما في حبل واحد، فلذلك سميا القرينين اهـ.
أقول: يحتمل أن هذا الراهب هو بحيرا، ويحتمل أن يكون نسطورا، لأن كلا منهما كان ببصرى كما تقدم في سفره. ويحتمل أن يكون غيرهما، وهو أولى، لما تقدم أن كلا من بحيرا ونسطورا لم يدرك البعثة والله أعلم.
أي ومنها ما حدث به سعيد بن العاص بن سعيد، قال: لما قتل أبي العاص يوم بدر كنت في حجر عمي أبان بن سعيد، وكان يكثر السب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج تاجرا إلى الشام فمكث سنة ثم قدم، فأول شيء سأل عنه قال: ما فعل محمد؟ قال له عمي عبد الله بن سعيد: هو والله أعز ما كان وأعلاه، فسكت ولم يسبه كما كان يسبه، ثم صنع طعاما وأرسل إلى سراة بني أمية أي أشرافهم، فقال لهم: إني كنت بقرية فرأيت بها راهبا يقال له بكاء لمن ينزل إلى الأرض منذ أربعين سنة: أي من صومعته، فنزل يوما، فاجتمعوا ينظرون إليه، فجئت فقلت: إن لي حاجة، فقال: ممن الرجل؟ فقلت: إني من قريش، وإن رجلا هناك خرج يزعم أن الله أرسله، قال: ما اسمه؟ فقلت محمد، قال: منذ كم خرج؟ فقلت عشرين سنة، قال: ألا أصفه لك؟ قلت بلى فوصفه، فما أخطأ في صفته شيئا، ثم قال لي: هو والله نبي هذه الأمة، والله ليظهرن، ثم دخل صومعته وقال لي اقرأ عليه السلام، وكان ذلك في زمن الحديبية: أي والحديبية سيأتي أنها كانت سنة ست فالعشرون تقريب.
أي ومنها ما حدث به حكيم بن حزام بالزاي رضي الله تعالى عنه قال: دخلنا الشام لتجارة قبل أن أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأرسل إلينا ملك الروم فجئناه، فقال: من أي العرب أنتم؟ من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال حكيم: فقلت يجمعني وإياه الأب الخامس، فقال: هل أنتم صادقيّ فيما أسألكم عنه؟ فقلنا نعم، فقال: أنتم ممن اتبعه أم ممن رد عليه؟ فقلنا: ممن رد عليه وعاداه، فسألنا عن أشياء مما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، ثم نهض واستنهضنا معه، فأتى محلا في قصره وأمر بفتحه، وجاء إلى ستر فأمر بكشفه فإذا صورة رجل، فقال أتعرفون من هذه صورته؟ قلنا لا، قال: هذه صورة آدم، ثم تتبع أبوابها ففتحها ويكشف عن صور الأنبياء ويقول: أما هذا صاحبكم؟ فنقول لا، فيقول لنا هذه صورة فلان، حتى فتح بابا وكشف عن صورة، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا نعم، هذا صورة محمد بن عبد الله صاحبنا، قال: أتدرون متى صورت هذه الصور؟ قلنا لا، قال: منذ أكثر من ألف سنة، وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه، ولوددت أني عبده فأشرب ما يغسل من قدميه.
ووقع نظير ذلك لجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه، وأنه رأى صورة أبي بكر آخذه بعقب تلك الصورة، وإذا صورة عمر آخذة بعقب صورة أبي بكر، فقال: من ذا الذي آخذ بعقبه؟ قلنا نعم هو ابن أبي قحافة، قال: فهل تعرف الذي آخذ بعقبه؟
قلت نعم هو عمر بن الخطاب. قال: أشهد أن هذا رسول الله، وأن هذا هو الخليفة بعده، وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا.
ومنها ما حدّث به سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ بفتح الجيم وتشديد الياء: أي وفي لفظ: من قرية من قرى الأهواز يقال لها رامهرمز، وفي لفظ: ولدت برامهرمز وبها نشأت، وأما أبي فمن أصبهان، وكان أبي دهقان قريته: أي كبير أهل قريته: أي وفي لفظ:
كنت من أبناء أساوة فارس، وكنت أحب خلق الله تعالى إلى أبي، لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار بفتح القاف وكسر الطاء المهملة ويروى بفتحها بمعنى قاطن: أي خادمها الذي يوقدها، لا يتركها تخبأ: أي تطفأ ساعة. وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي: يا بنيّ إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم، فاذهب إليها وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، إن احتبست عني كنت أهمّ إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري، فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون؟ فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: والله هذا خير من الذي نحن عليه، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أهل هذا الدين؟ قالوا بالشام، فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بنيّ أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فو الله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بنيّ ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا، والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافني أي خاف مني أن أهرب، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته، وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم، فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة فأخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي، ثم قدمت معهم إلى الشام، فلما قدمتها قلت من أجلّ هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، والأسقف بتخفيف الفاء وتشديدها: هو عالم النصارى ورئيسهم في الدين، فجئته فقلت له: إني
قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه أشياء منها اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات، فاجتمعت النصارى ليدفنوه. فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا، فقالوا لي: وما أعلمك بذلك؟ فقلت: أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا. وفي رواية: وجدوا ثلاثة قماقم فيها نحو نصف أردب فضة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة: أي ولم يصلوا عليه صلاتهم مع أن هذا الراهب كان يصوم الدهر، وكان تقيا عن الشهوات. ومن ثم قال في الفتوحات المكية: أجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب. وقالوا:
إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفا على نفسه من الفتنة التي حذرنا الله تعالى منها بقوله: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[الأنفال: الآية 28] هذا كلامه.
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه: ومن فوائد الرهبان أنهم لا يدّخرون قوت الغد، ولا يكنزون فضة ولا ذهبا.
قال: ورأيت شخصا قال لراهب: انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي الملوك؟ فلم يرض، وقال: النظر إلى الدنيا منهيّ عنه عندنا.
قال: ورأيت الرهبان مرة، وهم يسحبون شخصا ويخرجونه من الكنيسة، ويقولون له: أتلفت علينا الرهبان، فسألت عن ذلك، فقالوا رأوا على عاتقه نصفا مربوطا. فقلت لهم: ربط الدرهم مذموم؟ فقالوا: نعم عندنا وعند نبيكم صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه.
وعند ذلك جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه: أي لا أظن أحدا غير المسلمين أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، فأحببته حبا شديدا لم أحبه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا حتى حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصني؟ قال: أي بنيّ، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فلما مات وغيب: أي دفن لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل. فلما احتضر، قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق
بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: يا بنيّ والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فو الله ما لبث أن نزل به الموت، فلما احتضر: أي حضرته الملائكة لقبض روحه، قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان، ثم إن فلانا أوصى بي إليك، فإلى من توصي بي وإلى من تأمرني؟ قال: يا بنيّ والله ما أعلم بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. فلما مات وغيب: أي دفن لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، فاكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله تعالى. فلما احتضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: أي بنيّ، والله ما أعلم أصبح ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل: أي أقبل وقرب زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات.
يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ثم مات وغيب.
أقول: وهذا السياق يدل على أن الذين اجتمع بهم من النصارى على دين عيسى أربعة. وفي كلام السهيلي أنهم ثلاثون، وفي النور أنهم بضعة عشر، وأن هذا أظهر، والله أعلم.
قال سلمان: ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذه، فقالوا نعم، فأعطيتهموها: أي أعطيتهم إياها، وحملوني معهم حتى إذا بلغوا بي وادي القرى: وهو محل من أعمال المدينة المنوّرة ظلموني، فباعوني إلى رجل يهودي. فمكثت عنده، فرأيت النخل، فرجوت أن تكون البلدة التي وصف لي صاحبي ولم يحق عندي: أي لم أتحقق ذلك. فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عمّ له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة. فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها: أي تحققتها بصفة صاحبي، فأقمت بها.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة، فو الله إني لفي رأس عذق: أي نخل لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عمّ له حتى وقف عليه. فقال:
يا فلان، قاتل الله بني قيلة: أي وهم الأوس والخزرج، لأن قيلة أمهما. فقد جاء
«إن الله أمدّني بأشد العرب ألسنا وأدرعا، بابني قيلة الأوس والخزرج» والله إنهم الآن لمجتمعون بقبا بالمد والقصر، وربما قيل قباة- بتاء التأنيث والقصر- على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، فلما سمعتها أخذتني العرواء: وهي الحمى النافض:
أي الرعدة، والبرحاء: الحمى الصالب حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ما تقول؟ فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك، فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أثبته فيما قال وقد كان عندي شيء جمعته: أي وهو محتمل لأن يكون تمرا، ولأن يكون رطبا. فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه، فقلت له: إني قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقرّبته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كلوا وأمسك يده، فلم يأكل. فقلت في نفسي هذه واحدة:
أي ومن ثم لما أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وهو طفل تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة» رواه مسلم.
وروي أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» ووجد صلى الله عليه وسلم تمرة فقال:
«لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» وقال: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» وفي رواية «إن هذه الصدقات، إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» والراجح من مذهبنا حرمة الصدقتين عليه صلى الله عليه وسلم وحرمة صدقة الفرض دون النفل على آله. وقال الثوري: لا تحل الصدقة لآل محمد لا فرضها ولا نفلها ولا لمواليهم، لأن مولى القوم منهم، بذلك جاء الحديث.
قال سلمان: ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا هو أيضا يحتمل أن يكون تمرا ولأن يكون رطبا.
وتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان ثنتان: أي ومن ثم روى مسلم «كان إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قيل هدية أكل منها، وإن قيل صدقة لم يأكل منها» .
قال سلمان: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد، وقد تبع جنازة رجل من أصحابه: أي وهو كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء لما قدم المدينة.
وقيل هو أول من دفن به، وقيل أول من دفن به أسعد بن زرارة، وقيل أوّل
من دفن به عثمان بن مظعون.
وجمع بأن أوّل من دفن به من المهاجرين عثمان: أي وقد مات في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة. وأول من دفن به من الأنصار كلثوم أو أسعد: أي وفي الوفيات لابن زيد: مات كلثوم، ثم من بعده أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوّال من السنة الأولى من الهجرة، ودفن بالبقيع هذا كلامه، ولم يذكر الوقت الذي مات فيه كلثوم. وفي النور عن الطبري أنه مات بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بأيام قليلة. وأوّل من مات من الأنصار البراء بن معرور، مات قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا بشهر. ولما حضره الموت أوصى بأن يدفن ويستقبل به الكعبة ففعلوا به ذلك، ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى على قبره هو وأصحابه وكبر أربعا، ولم أقف على محل دفنه.
وقولهم إن أول من دفن بالبقيع كلثوم يدل على أن البراء لم يدفن بالبقيع إلا أن يراد الأولية بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة. والظاهر أن هذه أول صلاة صليت على القبر.
قال سلمان: وكان عليه الصلاة والسلام عليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه، ثم ابتدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي؟ فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه: أي وفي شواهد النبوة لما جاء سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فطلب ترجمانا فأتى بتاجر من اليهود كان يعرف الفارسية والعربية، فمدح سلمان النبي صلى الله عليه وسلم وذم اليهود بالفارسية فغضب اليهودي وحرف الترجمة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إن سلمان يشتمك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الفارسي جاء ليؤذينا فنزل جبريل وترجم عن كلام سلمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: أي الذي ترجمه له جبريل لليهودي، فقال اليهودي: يا محمد إن كنت تعرف الفارسية فما حاجتك إلي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما كنت أعلمها من قبل والآن علمني جبريل أو كما قال. فقال اليهودي: يا محمد قد كنت قبل هذا أتهمك والآن تحقق عندي أنك رسول الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: علم سلمان العربية. فقال: قل له ليغمض عينيه ويفتح فاه ففعل سلمان، فتفل جبريل في فيه فشرع سلمان يتكلم بالعربي الفصيح، وهذا السياق يدل على أن ذلك كان عند مجيئه في المرة الثالثة. وحينئذ يشكل مجيئه أولا وثانيا وقوله ما تقدم بالعربية إلا أن يقال ذاك لقلته سهل عليه أن يعبر عنه بالعربية، بخلاف حكاية حاله لكثرته لم يحسن أن يعبر عنه بالعربية.
قال: وقد اختلفت الروايات عن سلمان في الشيء الذي جاء به للنبي صلى الله عليه وسلم أولا
وثانيا، فالرواية الأولى المتقدمة ظاهرها يقتضي أنه تمر اهـ: أي وفيه من أين أن ظاهرها ذلك: بل هي محتملة، وقد جاء التصريح بكونه تمرا في الأولى والثانية.
ففي بعض الروايات: فسألت سيدي أن يهب لي يوما ففعل، فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر وجئت به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته لا يأكل الصدقة سألت سيدي أن يهب لي يوما آخر فعملت فيه على ذلك: أي على صاع أو صاعين من تمر، ثم جئت به النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وأكله منه.
أي والذي في كلام السهيلي قال سلمان: كنت عبدا لامرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما، الحديث.
وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عني بسيدته زوجة سيده، لأنه يقال لها سيدة في المتعارف بين الناس، أو أن المرأة هي التي اشترته، ويؤيده ما يأتي، وزوج تلك المرأة يقال له في المتعارف بين الناس سيد. قال: وقيل إن الذي جاء به أولا وثانيا رطب.
وفي رواية: احتطبت حطبا فبعته واشتريت بذلك طعاما والطعام خبز ولحم.
وفي رواية جئت بمائدة عليها بط. وفي رواية عليها رطب. وجمع بأنه أولا قدم الخبز واللحم الذي هو البط والتمر، ثم قدم الرطب فلم يتحد المقدم. وفي مسند الإمام أحمد أن المرات ثلاث، وأن المقدم فيها متحد اهـ.
أقول: تقديم الرطب في المرة الثانية يخالفه ما تقدم أنه في المرة الثانية كان تمرا، والله أعلم.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، فكان أول مشاهده الخندق كما سيأتي، وكان بعد ذلك يقال له سلمان الخير، وكان معدودا من أخصائه صلى الله عليه وسلم. قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أي ودية، على وزن فعيلة: وهي النخلة الصغيرة التي يقال لها الفسيلة أحييها له، بالتفقير بالفاء ثم القاف: أي الحفر؟ أي ومن ثم قيل للبئر الفقير: أي احفر لها واغرسها بتلك الحفرة وتصير حية بتلك الحفرة: أي وأتعهدها إلى أن تثمر. والودية والفسيلة: هي النخلة الصغيرة التي جرت العادة بأن تنقل من المحل الذي تنبت فيه إلى محل آخر، لكن في كلام بعضهم: إذا خرجت النخلة من النواة قيل لها غريسة ثم يقال لها ودية، ثم فسيلة، ثم إشاءة، فإذا فاتت اليد فهي جبارة ويقال للنخلة الطويلة عوانة بلغة عمان.
وفي الحديث «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها» وعلى أربعين أوقية أي من ذهب كما سيأتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل الرجل بستين، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل يعين بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية» قال: وفي رواية «أنه كوتب على أن يغرس لهم خمسمائة فسيلة» : أي يحفر لها ويغرسها أي ويتعهدها إلى أن تثمر وعلى أربعين أوقية.
قال سلمان: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب يا سلمان ففقر: أي بالفاء. وفي رواية فنقر أي بالنون: أي احفر لها، فإذا فرغت فائتني أنا أضعها بيدي ففقرت. وفي رواية فنقرتها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، فيضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي عليّ المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة: أي وفي رواية مثل بيضة الحمامة من ذهب من بعض المعادن، ولعل هذه البيضة كانت مترددة بين بيضة الدجاجة وبين بيضة الحمامة: أي أكبر من بيضة الحمامة وأصغر من بيضة الدجاجة، فاختلف فيها التشبيه، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» فدعيت له.
فقال: «خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان: أي تكون بعضا مما عليك» .
وحينئذ قد يتوقف في جواب سلمان بقوله قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليّ لأن النبي يؤدي بعضه وإن قل ذلك البعض. إلا أن يقال العادة قاضية بأن ذلك البعض لا يقبل إلا إذا كان له وقع بالنسبة لكله.
وقد أشار صلى الله عليه وسلم للرد على سلمان بأن هذا الذي قلت فيه إنه لا يحسن أن يكون بعضا مما عليك يوفي به الله عنك جميع ما عليك، حيث قال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك، فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم: أي وبقي عندي مثل ما أعطيتهم. قال: وهذا أي سؤال سلمان وجوابه صلى الله عليه وسلم كالصريح في أن الأواقي التي كاتب عليها كانت ذهبا لا فضة.
وقد جاء أي مما يدل على ذلك في بعض الروايات أن سلمان لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وأين تقع هذه مما عليّ؟ فقلبها صلى الله عليه وسلم على لسانه ثم قال: «خذها فأوفهم منها» .
وأيضا أي مما يدل على ذلك أيضا أن المعلوم أن قدر بيضة الدجاجة من الذهب يعدل أكثر من أربعين أوقية من الفضة اهـ: أي فلا يحسن قول سلمان وأين تقع هذه مما عليّ وقد صرح بذلك أي بكونها ذهبا البلاذري والقاضي عياض في الشفاء، فقالا: على. أربعين أوقية من ذهب، وإلى القصة أشار صاحب الهمزية بقوله:
ووفى قدر بيضة من نضار ... دين سلمان حين حان الوفاء
كان يدعى قنا فأعتق لما ... أينعت من نخيله الأقناء
أفلا تعذرون سلمان لما ... أن عرته من ذكره العرواء
أي ووفى قدر بيضة من بيض الدجاج أو الحمام من ذهب دين سلمان، وهو أربعون أوقية من ذهب حين قرب حلول الدين، وتقدم أنه وفي دينه منها وبقي عنده منها قدر ما أعطاهم.
وسبب هذا الدين على سلمان أنه كان يدعى قنا، أي أرقّ بالباطل كما تقدم، فكوتب على ذلك وعلى أن يغرس تلك النخيل ويتعهدها إلى أن تثمر، وأعتق بأداء هذا الدين حين أينعت العراجين من نخيله التي غرسها: أي غرست له، أفلا ترون لسلمان عذرا يمنعكم من إيذائه حين أن غشيته قوة الحمى من أجل سماع ذكره صلى الله عليه وسلم.
قال سلمان: وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.
وعن بريدة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى سلمان أي كان سببا لشرائه أي مكاتبته من قوم اليهود بكذا وكذا درهما، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر رضي الله تعالى عنه، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرسها؟ قالوا عمر، فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فأطعمت من عامها» .
وذكر البخاري «أن سلمان رضي الله تعالى عنه غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرها فعاشت كلها إلا التي غرسها سلمان» قال: ويجوز أن يكون كل من سلمان وعمر غرس هذه النخلة أحدهما قبل الآخر انتهى.
أقول: وهذا الحائط الذي غرس فيه سلمان من حوائط بني النضير وكان يقال له المنبت، وقد آل إليه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
ولا يخفى أن قول صاحب الهمزية كان يدعى قنا أنه لم يرقّ حقيقة، وقد تقدم ذلك. وفيه أنه لو لم يرق حقيقة لما أقره على الرق، وأمره صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة وأدى عنه وكونه فعل ذلك تطييبا لخاطر ساداته بعيد فليتأمل.
فإن قيل: إذ رقّ حقيقة كيف جاز له صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه أن يأكلوا مما جاء به صدقة ويأكل هو وهم مما جاء به هدية والرقيق لا يملك وإن ملكه سيده على الأصح عندنا معاشر الشافعية، بل وعند باقي الأئمة؟
قلنا: يجوز أن يكون الرقيق كان في صدر الإسلام يملك ما ملكه له سيده ثم نسخ ذلك. على أن بعض أصحابنا ذهب إلى صحته، وفي كلام السهيلي: وذكر أبو عبيد أن حديث سلمان حجة على من قال إن العبد لا يملك هذا كلامه، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم رقه حينئذ، لأن الأصل في الناس الحرية، ولعدم تحقق رق سلمان وعدم مجيء مكاتبته على قواعد أئمتنا لم يستدلوا على مشروعية الكتابة بقصة سلمان.
وفي كلام السهيلي أن في خبر: سلمان من الفقه: قبول الهدية، وترك سؤال المهدي، وكذلك الصدقة. وفي الحديث «من قدم إليه الطعام فليأكل، ولا يسأل» والله أعلم.
وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بالقصة المتقدمة: زاد أن صاحب عمورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فاسأله عن هذا الدين فهو يخبرك به.
قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصفه لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه فلم أخلص حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخلها إلا منكبه فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إليّ فقلت: يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فإنه يحملك عليه، ثم دخل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كنت صدقتني لقد لقيت عيسى ابن مريم.
والغيضة: الشجر الملتف.
قال السهيلي: هذا الحديث مقطوع، وفيه رجل مجهول. ويقال إن الرجل هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف بإجماع منهم، وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه.
فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه الصلاة والسلام نزل بعد ما رفع وأمه وامرأة أخرى أي كانت مجنونة فأبرأها المسيح عند الجذع الذي فيه الصليب يبكيان، فأهبط إليهما فكلمهما وقال لهما علام تبكيان؟ فقالا عليك، فقال: إني لم أقتل ولم أصلب، ولكن الله رفعني وأكرمني، وأخبرهما أن الله أوقع شبهه على الذي صلب وأرسل إلى الحواريين: أي قال لأمه ولتلك المرأة أبلغا الحواريين أمري أن يلقوني في موضع كذا ليلا، فجاء الحواريون ذلك الموضع فإذا الجبل قد اشتعل نورا لنزوله فيه، ثم أمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وعبادة ربهم ووجههم إلى الأمم. وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا لكن لا نعلم أنه هو: أي حقيقة حتى ينزل النزول الظاهر «فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير» كما جاء في الصحيح هذا كلامه.
ويروى «أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام قبيلة باليمن. ويولد له ولدان يسمى أحدهما محمدا والآخر موسى، يمكث أربعين سنة، وقيل خمسا وأربعين، وقيل سبع سنين» كما في مسلم، وقيل ثمان سنين وقيل تسعا، وقيل خمسا: أي وجمع بين كون مدة مكثه أربعين سنة أو خمسا وأربعين سنة وبين كونها سبع سنين: أي وما بعد ذلك بأن المراد بالأول مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده والسبعة: أي وما
بعدها من الأقوال يكون بعد نزوله ويدفن إذا مات في روضة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وقيل في حجرته صلى الله عليه وسلم: أي عند قبره الشريف، وقيل في بيت المقدس انتهى. أي وقيل يدفن معه صلى الله عليه وسلم في قبره، ويؤيده ما ورد «ويدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر» .
أقول: وكما قتل عيسى عليه الصلاة والسلام الخنزير يقتل الدجال. فقد جاء «ينزل عيسى حكما مقسطا يحكم بشرعنا يقتل الدجال، ونزوله يكون عند صلاة الفجر، فيصلي خلف المهدي بعد أن يقول له المهدي تقدم يا روح الله، فيقول له تقدم فقد أقيمت لك» وفي رواية «ينزل بعد شروع المهدي في الصلاة، فيرجع المهدي القهقرى ليتقدم عيسى فيضع يده بين كتفيه ويقول له تقدم، فإذا فرغ من الصلاة أخذ حربته وخرج خلف الدجال فيقتله عند باب لدّ الشرقي» وورد أن المهدي يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال. وقد جاء أن المهدي من عترة النبي صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة. قيل من ولد الحسين، وقيل من ولد الحسن، وقيل من ولد عمه العباس.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن أمه أم الفضل مرت به صلى الله عليه وسلم، فقال:
إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتيني به قالت: فلما ولدته أتيته به، فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وألبأه. أي أسقاه اللبأ من ريقه- وسماه عبد الله، وقال اذهبي بأبي الخلفاء، فأخبرت العباس، فأتاه فذكر له فقال: هو ما أخبرتك هذا أبو الخلفاء، حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي أي الخليفة» وهو أبو الرشيد بدليل قوله: «حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم: أي وهو المهدي الذي يأتي آخر الزمان اسمه محمد بن عبد الله، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد» وفي رواية «إلا ليلة واحدة يطول الله ذلك حتى يبعث، وظهوره يكون بعد أن يكسف القمر في أول ليلة من رمضان، وتكسف الشمس في النصف منه مثل ذلك لم يوجد منذ خلق الله السموات والأرض عمره عشرون سنة، وقيل أربعون سنة، ووجهه كوكب دري على خده الأيمن خال أسود، يخرج في زمان الدجال، وينزل في زمانه عيسى ابن مريم» وأما ما ورد «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم» فلا ينافي ذلك لجواز أن يكون المراد لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
فقد جاء «لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها، والمهدي من أهل بيتي في وسطها» وعن العباس رضي الله تعالى عنه قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال انظر هل ترى في السماء من شيء؟ قلت نعم، قال ما ترى؟ قلت الثريا، قال: أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك» أي وقد اختلف الناس في عددها المرئي فقيل سبعة أنجم، وقيل تسعة.
وجمعنا بينهما بأن الأول يكون هو المرئي لغالب الناس ولو غير حديد البصر والثاني لمن يكون حديد البصر منهم، وأما المرئي له صلى الله عليه وسلم، فقيل كان يرى أحد عشر نجما. وقيل اثني عشر نجما.
وجمعنا بينهما بحمل الأول على ما إذا لم يمعن النظر. والثاني على ما إذا أمعن النظر، وحينئذ يقتضي هذا أن تكون الخلفاء من بني العباس اثني عشر.
وعن سعيد بن جبير: سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: يكون منا ثلاثة أهل البيت السفاح والمنصور والمهدي. ورواه الضحاك عن ابن عباس مرفوعا. والمهدي في هذه الرواية يحتمل أن المراد به أبو الرشيد، ويحتمل أن يكون المنتظر.
وروى أبو نعيم بسند ضعيف «أنه صلى الله عليه وسلم خرج فتلقاه العباس، فقال: ألا أسرك يا أبا الفضل؟ قال بلى يا رسول الله، قال: إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه» وفي رواية «ويختمه بولدك» .
وقد أفردت ترجمة المهدي المنتظر بالتأليف في مجلد حافل سماه مؤلفه «الفواصم عن الفتن القواصم» .
وقد رويت قصة سلمان رضي الله تعالى عنه على غير هذا الوجه الذي تقدم.
فعنه قال: كان لي أخ أكبر مني، وكان يتقنع بثوبه ويصعد الجبل يفعل ذلك غير ما مرة متنكرا، فقلت له: أما إنك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك؟ قال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء. قلت: لا تخف، قال: إن في هذا الجبل قوما لهم عبادة وصلاح يذكرون الله ويذكرون الآخرة ويزعمون أنا على غير دين. قلت:
فاذهب بي معك إليهم قال: حتى استأمرهم فاستأمرهم، فقالوا جيء به فذهبت معه فانتهيت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا فصعدنا إليهم، فحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم.
قالوا: ولد بغير ذكر، وبعثه الله رسولا، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى، وخلق الطير، وإبراء الأعمى والأبرص؟ فكفر به قوم وتبعه قوم. ثم قالوا: يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا، وإن بين ذلك جنة ونارا لهما تصير وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة،