فقال ذات يوم - وهو في جهازه - للجد بن قيس «هل لك في جلاد بني الأصفر؟ " فقال: يا رسول الله، أوتأذن لي ولا تفتني؛ فقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر، ألا أصبر، فقال: " قد أذنت لك» ففيه نزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] الآية (1) .
وقال قوم من المنافقين، بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، فنزل: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] الآية (2) .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة. فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا. وأنفق عثمان ثلاثمائة بعير بأحلاسها، وأقتابها وعدتها، وألف دينار عينا.
وجاء البكاءون - وهم سبعة - يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «لا
_________
(1) آية 49 من سورة التوبة.
(2) من الآية 81 من سورة التوبة.
أجد ما أحملكم عليه» تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.
وقام علبة بن يزيد، فصلى من الليل وبكى. ثم قال: «اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها: من مال، أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أين المتصدق هذه الليلة؟ فلم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق؟ فلم يقم. فقام إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشر، فوالذي نفس محمد بيده، لقد كتبت في الزكاة المتقبلة» ".
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم، فلم يعذرهم.
واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه، وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب، منهم الثلاثة - كعب بن مالك. وهلال بن أمية. ومرارة بن الربيع - وأبو خيثمة السالمي، وأبو ذر. . . ثم لحقاه. وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفا من الناس، والخيل عشرة آلاف فرس. وأقام بها عشرين ليلة يقصر الصلاة، وهرقل يومئذ بحمص.
قال ابن إسحاق: «ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عليا على أهله. فقال المنافقون: ما خلفه إلا استثقالا له، وتخففا منه، فأخذ سلاحه ولحق به بالجرف، فقال: يا نبي الله: زعم المنافقون: أنك ما خلفتني إلا استثقالا، فقال: " كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أولا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي
بعدي» فرجع.
ودخل أبو خيثمة إلى أهله في يوم حار، بعد ما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له ماء، وهيأت له طعاما. فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا. فقال: رسول الله في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء؟ ما هذا بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيئا لي زادا، ففعلتا. ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل تبوك.
وقد كان عمير بن وهب الجمحي أدرك أبا خيثمة، في الطريق فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة له: إن لي ذنبا. فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل. حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة " قالوا: يا رسول الله، هو والله، هو والله أبو خيثمة. فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: " أولى لك يا أبا خيثمة " فأخبره الخبر، فقال له خيرا، ودعا له.»
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما مر بالحجر - من ديار ثمود - قال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم مثل ما أصابهم» وقال: «لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا، وأمرهم أن يهرقوا الماء، وأن يستقوا من
البئر التي كانت تردها الناقة» .
وفي صحيح مسلم عن أبي حميد الساعدي قال: «انطلقنا حتى قدمنا تبوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة. فلا يقم أحد منكم. فمن كان له بعير فليشد عقاله. فهبت ريح شديدة، فقام رجل. فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ» .
قال ابن إسحاق: وأصبح الناس ولا ماء معهم. فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا الله. فأرسل الله سحابة. فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء.
ثم سار حتى إذا كان ببعض الطريق جعلوا يقولون: تخلف فلان، فيقول: «دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ".» .
وتلوم على أبي ذر بعيره. فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله. فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر " فلما تأملوه. قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر. فقال: " رحم الله أبا ذر. يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» .
وفي صحيح ابن حبان عن أم ذر قالت " لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: وما لي لا أبكي، وأنت تموت بفلاة من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفنا، ولا يدان لي في تغيبك؟ فقال: أبشري ولا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر - وأنا فيهم -: «ليموتن
رجل منكم بفلاة من الأرض، يشهده عصابة من المسلمين. وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة» ، فأنا ذلك الرجل، فوالله ما كذبت ولا كذبت. فأبصري الطريق. فكنت أشتد إلى الكثيب أتبصر، ثم أرجع فأمرضه. فبينا أنا وهو كذلك، إذا أنا برجال على رحالهم، كأنهم الرخم، تخب بهم رواحلهم، قالت: فأشرت إليهم. فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي. فقالوا: يا أمة الله، ما لك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه. قالوا: من هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه. فقال لهم: أبشروا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث - ثم قال: وإنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي ولامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي، أو لها. فإني أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا، أو بريدا أو نقيبا. وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال إلا فتى من الأنصار، قال: يا عم، أنا أكفنك في ردائي هذا. وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي، قال: فأنت تكفنني، فكفنه الأنصاري، وأقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان ".
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، أتاه صاحب أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جربا وأذرح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم كتابا. فهو عندهم.
ثم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، وقال لخالد: «إنك تجده يصيد البقر» فخرج خالد، حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة - وهو على سطح له - فبانت البقر تحك بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فمن يترك مثل
هذه؟ قال: لا أحد. ثم نزل فأمر بفرسه فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته. فلما خرجوا، تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته وقتلوا أخاه. وقدم به خالد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن له دمه. وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله. فرجع إلى قريته.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة. ثم انصرف إلى المدينة. قال: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي: أن ابن مسعود كان يحدث، قال: " قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر. وإذا عبد الله ذو البجادين - والبجاد الكساء الأسود - المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر، يدليانه إليه. وهو يقول: أدليا إلي أخاكما. فأدلياه إليه. فلما هيأه لشقه، قال: اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه، فارض عنه " قال: يقول عبد الله بن مسعود: " يا ليتني كنت صاحب الحفرة ".
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، حتى كان بينه وبين المدينة ساعة. وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه - وهو يتجهز إلى تبوك - فقالوا: «يا رسول الله، إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة. وإنا نحب أن تصلي فيه. فقال: " إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم ".
فلما نزل بذي أوان، جاءه خبر المسجد من السماء فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي. فقال: " انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله،
فاهدماه، وحرقاه " فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف - وهم رهط مالك بن الدخشم - فقال لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه، وفيه أهله، فحرقاه وهدماه» ، وأنزل الله سبحانه {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] إلى قوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 110] (1) .
قال ابن عباس في الآية: هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا، فقال لهم أبو عامر الفاسق: ابنوا مسجدكم، واستعدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح. فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآت بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه. فلما فرغوا من بنائه: أتوا النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا. ونحب أن تصلي فيه، وتدعو بالبركة. فأنزل الله عز وجل: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] إلى قوله: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110] يعني الشك {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] يعني بالموت.
ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، خرج الناس لتلقيه، والنساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
وكانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. وأنزل الله فيها سورة براءة.
_________
(1) الآيات 107 - 110 من سورة التوبة.
وكانت تسمى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده " المبعثرة " لما كشفت من سرائر المنافقين وخبايا قلوبهم.
وفي غزوة تبوك: كانت قصة تخلف كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. ممن شهدوا بدرا. ولم يكن لهم عذر في التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جاء المعذرون من الأعراب من المنافقين، يحلفون أنهم كانوا معذورين. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرجأ كعب بن مالك وصاحبيه حتى أنزل الله في شأنهم وفي توبتهم - وكانوا من خيار المؤمنين -: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ - وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 117 - 118] الآيتين (1) . خلفهم الله وأخر توبتهم ليمحصهم ويطهرهم من ذنب تأخرهم. لأنهم كانوا من الصادقين.
[وفود العرب إلى رسول الله]
[