قال ابن هشام: «ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء والرجال حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدّث به. فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه. ثم قال الله له: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر 15/ 94] .
وقال له: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 214 و 215] .
وحينئذ بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتنفيذ أمر ربه. فاستجاب لقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بأن صعد على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي، حتى اجتمعوا، فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر: ما هو؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم.. ألهذا جمعتنا؟» . فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «4» [المسد 111/ 1] .
ثم نزل الرسول فاستجاب لقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ بأن جمع من حوله جميع ذويه وأهل قرابته وعشيرته، فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب: أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلّها ببلاها» «5» .
__________
(4) متفق عليه.
(5) متفق عليه واللفظ لمسلم، وقوله: سأبلّها ببلاها أي سأصلها بصلتها.
وكان رد الفعل من قريش أمام جهره بالدعوة، أن أدبروا عنه وتنكروا لدعوته معتذرين بأنهم لا يستطيعون أن يتركوا الدين الذي ورثوه عن آبائهم وأصبح من تقاليد حياتهم. وحينئذ نبههم الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى ضرورة تحرير أفكارهم وعقولهم من عبودية الاتّباع والتقليد، واستعمال العقل والمنطق، وأوضح لهم أن آلهتهم التي يعكفون على عبادتها لا تفيدهم أو تضرهم شيئا، وأن توارث آبائهم وأجدادهم لعبادتها ليس عذرا في اتباعهم بدون دافع إلا دافع التقليد، كما قال عز وجل في حقهم: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ!؟ [المائدة 5/ 104] .
فلما عاب آلهتهم، وسفه أحلامهم، وجرّ اعتذارهم عن تمسكهم بعبادة الأصنام أنها تقاليد آبائهم وأجدادهم، إلى وصف آبائهم بعدم العقل، أعظموا الأمر، وناكروه، وأجمعوا خلافه وعدوانه، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وإلّا عمه أبا طالب الذي حدب عليه، ومنعه، وقام دونه.