وفي «2» هذه السّنة-[أي: السّابعة]- أرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رسله بكتبه إلى ملوك الأقاليم.
ومنهم: عبد الله بن حذافة السّهميّ؛ بعثه بكتابه إلى كسرى، فمزّقه.
ودحية بن خليفة الكلبيّ؛ بعثه بكتابه إلى قيصر، فوجد عنده أبا سفيان بن حرب.
وفي «الصّحيحين» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى، فأمره أن يدفعه إلى عظيم
__________
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (17323) .
(2) لم يذكر المؤلّف- رحمه الله- هنا إلّا رسولين من رسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الملوك. قلت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا من أصحابه، وكتب معهم كتبا إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. فبعث دحية بن خليفة الكلبيّ إلى قيصر ملك الرّوم، وبعث عبد الله بن حذافة السّهميّ إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أميّة الضّمريّ إلى النّجاشيّ ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندريّة، وبعث عمرو ابن العاص السّهميّ إلى جيفر وعياذ ابني الجلندى الأزديّين ملكي عمان، وبعث سليط بن عمرو إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن عليّ الحنفيّين ملكي اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرميّ إلى المنذر بن ساوى العبديّ ملك البحرين، وبعث شجاع بن وهب الأسديّ إلى الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ ملك تخوم الشّام.
البحرين «1» ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلمّا قرأه مزّقه.
قال ابن المسيّب: فدعا عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يمزّقوا كلّ ممزق «2» .
[بعث دحية رضي الله عنه إلى قيصر ملك الرّوم]
وفيهما-[أي: الصّحيحين]- عن ابن عبّاس أيضا رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبيّ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، وهو ب (إيلياء) «3» ، فلمّا جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي ها هنا أحدا من قومه لأسألهم عنه.
قال ابن عبّاس: فأخبرني أبو سفيان بن حرب أنّه كان ب (الشّام) في رجال من قريش قدموا تجارا في المدّة الّتي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفّار قريش، قال أبو سفيان: فوجدنا رسول قيصر ببعض (الشّام) ، فانطلق بي وبأصحابي، حتّى قدمنا (إيلياء) ، فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس ملكه، وعليه التّاج، وإذا حوله عظاماء الرّوم.
فقال لترجمانه: سلهم: أيّهم أقرب نسبا إلى هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟
قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم إليه نسبا، وليس في الرّكب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري.
قال قيصر: أدنوه منّي، وأمر بأصحابي «4» فجعلوا/ خلف ظهري.
__________
(1) هو: المنذر بن ساوى.
(2) أخرجه البخاريّ، برقم (2781) .
(3) اسم مدينة ببيت المقدس.
(4) أي: أصحاب أبي سفيان.
ثمّ قال لترجمانه: قل لأصحابه: إنّي سائل هذا الرّجل حديثا، فإن كذب فكذّبوه في وجهه.
ثمّ قال لترجمانه: قل له كيف نسب هذا الرّجل فيكم؟، قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قبله؟، قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟، قلت: لا.
قال: فأشراف النّاس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟، قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: فيزيدون أم ينقصون؟، قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟، قلت:
لا.
قال: فهل يغدر؟، قلت: لا، ونحن الآن في مدّة لا ندري ما يصنع. قال أبو سفيان: ولم يمكنّي كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه به لا أخاف أن تؤثر عنّي غيرها.
قال: فهل قاتلتموه؟، قلت: نعم.
قال: فكيف كان حربه وحربكم؟. قلت: كان دولا وسجالا «1» ، يدال علينا مرّة وندال عليه أخرى.
قال: فماذا يأمركم؟، قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك
__________
(1) تناوب النّصر والهزيمة.
به شيئا، وينهانا عمّا كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصّلاة والصّدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.
فقال لترجمانه: قل له: إنّي سألتك عن نسبه فيكم؛ فزعمت أنّه فيكم ذو نسب، وكذلك الرّسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؛ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله، قلت: رجل يأتمّ- أي: يقتدي- بقول قد قيل قبله.
وسألتك: هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؛ فزعمت أن لا، فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على النّاس ويكذب على الله.
وسألتك: هل كان من أبائه من ملك؛ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه.
وسألتك: أشراف النّاس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؛ فزعمت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرّسل.
وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؛ فزعمت/ أنّهم يزيدون، وكذلك [أمر] الإيمان حتّى يتمّ.
وسألتك: هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؛ فزعمت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
وسألتك: هل يغدر؛ فزعمت أن لا، وكذلك الرّسل لا يغدرون.
وسألتك: هل قاتلتموه وقاتلكم؛ فزعمت أن قد فعل، وأنّ
حربه وحربكم يكون سجالا ودولا، يدال عليكم المرّة، وتدالون عليه الآخرى، وكذلك الرّسل تبتلى، ثمّ تكون لها العاقبة.
وسألتك: بماذا يأمركم؛ فزعمت أنّه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عمّا كان يعبد أباؤكم، ويأمركم بالصّلاة والصّدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صفة نبيّ.
وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولكن لم أظنّ أنّه منكم، وإن يك ما قلت حقّا فيوشك أن يملك موضع قدميّ هاتين، ولو أرجو أنّي أخلص إليه لتكلّفت لقيّه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.
ثمّ دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد: فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين- أي: الرّعايا-: ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 64] .
قال أبو سفيان: فلمّا انقضت مقالته، علت أصوات الّذين حوله من عظاماء الرّوم، وكثر لغطهم، فلا أدري ماذا قالوا، وأمر بنا فأخرجنا.
قال أبو سفيان: والله، ما زلت ذليلا مستيقنا أنّ/ أمره سيظهر، حتّى أدخل الله الإسلام في قلبي وأنا كاره «1» .
__________
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (2782) . ومسلم (1773/ 74) .
وزاد في رواية: أنّ هرقل جمع عظاماء الرّوم في دسكرة «1» ، وأمر بإغلاق أبوابها، وأشرف عليهم، وقال: يا معشر الرّوم، هل لكم في الفلاح والرّشد، وأن يثبت ملككم إلى الأبد؟ أن تبايعوا لهذا النّبيّ، فنفروا نفرة شديدة إلى الأبواب، فوجدوها قد غلّقت، فلمّا رآى هرقل نفرتهم، وأيس من إيمانهم، قال: ردّوهم عليّ، وقال: إنّي قلت مقالتي تلك أختبر بها شدّتكم على دينكم، وقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه «2» .
فائدة [: في أنّ حبّ الرّئاسة هو الّذي أضلّ هرقل]
لا تخفى حسن سياسة هرقل. وقوّة إدراكه، وثقوب فهمه، بما استدلّ به على صحّة نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم وصدقه، من البراهين الإقناعيّة لو ساعده التّوفيق، ولكن غلب عليه حبّ الرّئاسة، وهو الدّاء العضال الّذي غلب على إبليس فأبى واستكبر، مع سبق الشّقاوة، ولو وفّقه الله للهداية كما وفّق النّجاشيّ، لتلطّف لقومه في ظاهره، وآمن بقلبه، وأحسن إلى المسلمين بيده ولسانه، فجمع بين ملك الدّنيا والآخرة، ولكنّه ممّن أضلّه الله على علم، وكان منه ما سيأتي قريبا؛ من خروجه في محاربة الله ورسوله في قتال جعفر وأصحابه بغزوة (مؤتة) ، فأكرمهم الله تعالى بالشّهادة على يديه، وأشقاه. والعياذ بالله تعالى.
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران 3/ 8] .
__________
(1) الدّسكرة: بناء كالقصر، حوله بيوت للأعاجم، فيها الشّراب والملاهي.
(2) أخرجه البخاريّ، برقم (7) .
[