أمّا «1» كعب بن الأشرف فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا انتصر ب (بدر) اشتدّ حزن عدوّ الله/ كعب بن الأشرف الطّائيّ اليهوديّ، وأمّه من بني النّضير، فرثى قتلى المشركين بقصائد، وقدم (مكّة) وحرّض قريشا على الأخذ بالثّأر، ثمّ رجع إلى (يثرب) ، وكان له حصن منيع، فأظهر العداوة والبغضاء للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل يشبّب في شعره بنساء المسلمين ويؤذيهم «2» ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنّه قد آذى الله ورسوله» ، فانتدب له خمسة من الأنصار ثمّ من الأوس، فقتلوه.
[سبب قتل سلّام بن أبي الحقيق]
وانتدب «3» أيضا لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق تاجر أهل (الحجاز) - وكان له حصن ب (خيبر) ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعين عليه- سبعة من الخزرج، فقتلوه.
__________
- رضي الله عنها- مبلّغة عنه في كثير من الأحوال والأفعال والأقوال. وهذا ما حصل فعلا.
(1) قلت: قال ابن سعد في «الطّبقات» ، ج 2/ 31: ثمّ سرية قتل كعب بن الأشرف اليهوديّ، وذلك لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل، على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
(2) يشبّب: يتغزّل بهن ويذكر حسنهنّ.
(3) قلت: أورد المؤلّف- رحمه الله- خبر قتل سلام في أحداث السّنة الثّانية. وقد اختلف المؤرخّون في تحديد سنة قتله، فمنهم من قال: في شهر رمضان سنة ستّ للهجرة، ومنهم من قال: في ذي الحجّة سنة أربع. قال الطّبريّ: إنّه قتل سنة ثلاث للهجرة في النّصف من جمادى الأولى منها. وهو المرجّح. والله أعلم.
[تحريض النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قتل كعب بن الأشرف]
وفي «الصّحيحين» ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنّه قد آذى الله ورسوله» . فقال محمّد بن مسلمة: أتحبّ أن أقتله يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، قال: ائذن لي فلأقل، قال: «قل» ، قال فأتاه فقال له: إنّ هذا الرّجل قد أراد الصّدقة منّا، وقد عنّانا- أي:
أتعبنا- فقال كعب: وأيضا والله لتملّنّه، قال: إنّا قد اتّبعناه، ونكره أن ندعه حتّى ننظر إلى أيّ شيء يصير أمره، وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد؟ قال: ترهنني نساءكم؟ قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟ قال له:
ترهنوني أولادكم؟ قال: يسبّ ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر «1» ، ولكن نرهنك الّلأمة- يعني السّلاح- قال: فنعم.
فواعده أن يأتيه بالحارث بن أوس، وأبي نائلة، وأبي عبس بن جبر، وعبّاد بن بشر، قال: فجاؤوا، فدعوه ليلا، فقالت له امرأته: والله إنّي لأسمع صوتا فيه الموت، قال: إنّما هذا محمّد بن مسلمة، ورضيعه أبو نائلة، إنّ الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب، فقال محمّد بن مسلمة لأصحابه: إنّي إذا جاء/ فسوف أمدّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، فنزل وهو متوشّح بالسّيف، فقالوا له: إنّا نجد منك ريح الطّيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال محمّد بن مسلمة: أفتأذن لي أن أشمّ منه؟ قال: نعم، فشمّ، فتناول فشمّ، ثمّ قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: نعم، وتمكّن منه، ثمّ قال: دونكم، فقتلوه. ثمّ
__________
(1) الوسق: حمل بعير، وهو ستّون صاعا بصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه «1» .
[بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك لقتل سلّام بن أبي الحقيق]
وفي «صحيح البخاريّ» ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من الأنصار، وأمّر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض (الحجاز) ، فلمّا دنوا منه، وقد غربت الشّمس، وراح النّاس بسرحهم «2» ، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم- أي: خارج السّور- فإنّي منطلق، ومتلطّف للبوّاب، لعلّي أن أدخل، ثمّ أقبل حتّى دنا من الباب، ثمّ تقنّع بثوبه- أي: غطّى به رأسه- كأنّه يقضي الحاجة، وقد دخل النّاس، فهتف به البوّاب: يا هذا، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنّي أريد أن أغلق الباب، قال: فدخلت فكمنت- أي:
اختفيت- فلمّا دخل النّاس أغلق البوّاب الباب، ثمّ علّق المفاتيح على وتد، قال: فقمت إلى الأغاليق فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر مع أصحابه في علّيّة «3» له، فلمّا ذهب عنه أهل سمره، صعدت إليه، فجعلت كلّما فتحت بابا أغلقت عليّ من داخل، وقلت: إن يدر بي القوم لم يخلص إليّ أحد منهم حتّى أقتله- أي: وإن قتلوني بعده-، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو، فقلت: يا أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصّوت، فضربته بالسّيف وأنا دهش، فما
__________
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (3811) . ومسلم برقم (1801/ 119) . واللّفظ لمسلم.
(2) سرحهم: مواشيهم.
(3) العليّة: الغرفة المرتفعة فوق الدار.
أغنيت شيئا «1» ، وصاح، فخرجت من البيت، فمكثت غير بعيد، ثمّ دخلت إليه، فقلت: ما هذا/ الصّوت يا أبا رافع؟ وغيّرت صوتي كأنّي أغيثه، فقال: إنّ رجلا في البيت ضربني بالسّيف، قال: فضربته ضربة فأثخنته، ثمّ وضعت ظبّة السّيف «2» في بطنه، واعتمدت عليه حتّى خرج من ظهره، فعرفت أنّي قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا، حتّى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أظنّ أنّي قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت، فانكسرت ساقي فعصبتها، ثمّ جلست على الباب، وقلت: والله لا أخرج اللّيلة حتّى أعلم أنّي قتلته، فمكثت إلى أن صاح الدّيك، فقام النّاعي على السّور، وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل (الحجاز) ، فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النّجاء «3» ، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهينا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّثته، فقال: «ابسط رجلك» ، فبسطتها فمسحها بيده، فكأنّي لم أشكها قطّ «4» .
[,
[