وفي «صحيح البخاريّ» أيضا، أنّ العبّاس قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم:
ما أغنيت عن عمّك؟ فإنّه كان يحوطك ويغضب لك، فقال: «هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النّار» «2» . أي: لأنّ كفره كفر إيثار للباطل على الحقّ، مع علمه بذلك وتيقّنه بذلك، وما شاء الله تعالى كان، وما لم يشأ لم يكن.
[,
وفي السّنة العاشرة: مات أبو طالب، فاشتدّ حزن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
[حرص النّبيّ صلى الله عليه وسلم على إسلام عمّه]
وفي «صحيح البخاريّ» ، أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة، دخل عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، فقال: «أي عمّ، قل لا إله إلّا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل [وعبد الله بن أبي أميّة] : أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟ [فلم يزالا يكلّمانه] ، حتّى قال آخر شيء [كلّمهم] به هو: على ملّة
__________
(1) قلت: قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» ، ج 6/ 632: كان- أي: انشقاق القمر- بمكّة قبل الهجرة بنحو خمس سنين.
(2) أخرجه البخاريّ، برقم (3437) . ومسلم برقم (2800/ 43) . عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاريّ، برقم (3655) . عن أنس رضي الله عنه.
عبد المطّلب. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه» ، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ «1» [سورة التّوبة 9/ 113]- أي: فلم يزل يستغفر له حتّى نزلت-/.
[,
ثمّ ماتت خديجة رضي الله عنها، بعد موت أبي طالب بثلاثة أيّام. فتضاعف حزنه صلى الله عليه وسلم، ولكن كان الله له خلفا عن كلّ فائت.
[اشتداد إيذاء قريش للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب]
ولمّا مات أبو طالب نالت قريش من النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الأذى بعد وفاته ما لم تنله به في حياته.
وفي «صحيح البخاريّ» ، عن عروة بن الزّبير، قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشدّ شيء صنعه المشركون بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بينما النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي في (الحجر) ،
__________
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (3671) .
(2) أخرجه البخاريّ، برقم (3670) . يحوطه: يحفظه، ويتعهّد بجلب ما ينفعه وبدفع ما يضرّه، الضّحضاح: الموضع القريب القعر، والمعنى: أنّه خفّف عنه شيء من العذاب. قال أهل العلم: إسلام أبي طالب مختلف فيه، كما ذكر الحافظ ابن حجر في «انفتح» ، وأما إيمانه فلا خلاف فيه؛ إذا عرّفنا الإيمان بأنّه التّصديق بالقلب فقط. والأدلّة متواترة على إيمانه المجرّد عن ربطه بالإسلام.
إذ أقبل عقبة بن أبي معيط- أي: مصغّرا بمهملتين- فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أبوبكر- رضي الله عنه- فأخذ بمنكبيه، ودفعه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ الآية، [سورة غافر 40/ 28] «1» .
وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: بينما النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي عند (الكعبة) ، وقريش في مجالسهم في المسجد، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، أيّكم يقوم إلى جزور بني فلان، فيجيء بسلاها فيضعه بين كتفيه إذا سجد؟ فانبعث أشقاهم- وفي رواية: أنّه عقبة بن أبي معيط أيضا- ففعل ذلك، فضحكوا حتّى مال بعضهم على بعض من الضّحك، وثبت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي الله عنها- وهي يومئذ جويرية- فأقبلت تسعى حتّى ألقته عنه، / ثمّ أقبلت عليهم تسبّهم، فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّلاة، قال: «اللهمّ عليك بقريش» ثلاثا، ثمّ سمّى رجالا «2» . قال عبد الله: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم (بدر) ، ثمّ سحبوا إلى (القليب) - قليب بدر- «3» .
[