وممّن قتل ب (بئر معونة) عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهما.
__________
(1) وهو من بني عمرو بن عوف، واسمه: المنذر بن محمّد بن عقبة.
(2) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 6/ 129. أدينّهما: أؤدي ديّتيهما.
(3) قلت: قال ابن سيّد النّاس في «عيون الأثر» ج 2/ 47: وكذا وقع في هذه الرّواية، وهو يوهم أنّ بني لحيان ممّن أصاب القرّاء يوم بئر معونة وليس كذلك، وإنّما أصاب هؤلاء رعل وذكوان وعصيّة ومن صحبهم من سليم، وأمّا بنو لحيان فهم الّذين أصابوا بعث الرّجيع، وإنّما أتى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم كلّهم في وقت واحد، فدعا على الّذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاء واحدا.
وروى البخاريّ في «صحيحه» ، عن عمرو بن أميّة الضّمريّ أنّ عامر بن الطّفيل قال له: من هذا؟ - وأشار له إلى عامر بن فهيرة- فقال له عمرو: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته رفع بعد ما قتل إلى السّماء، حتّى إنّي أنظر إلى السّماء بينه وبين الأرض «1» .
[غزوة بني النّضير]
وفي هذه السّنة أو في الرّابعة «2» : كانت غزوة بني النّضير.
وسببها: ما رواه البخاريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم في دية الرّجلين اللّذين قتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ خطأ «3» - فهي على الصّواب كما قال ابن إسحاق: بعد (أحد) وبعد (بئر معونة) - فاستند إلى جدار حصن لهم من حصونهم، فأمروا رجلا بطرح حجر على رأسه من الحصن، فأخبره جبريل عليه السّلام بذلك، فقام موهما لهم وترك أصحابه ورجع إلى (المدينة) .
فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة المائدة 5/ 11] وقيل: إنّها نزلت في قصّة غورث بن الحارث الّذي همّ بقتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم «4» .
[حصار بني النّضير]
ثمّ أصبح غازيا عليهم، فحصرهم وقطع نخيلهم وحرّقها،
__________
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (3867) .
(2) قلت: إنّما وقعت في السّنة الرّابعة في شهر ربيع الأوّل، على رأس سبعة وثلاثين للهجرة. والله أعلم. (انظر: ابن هشام، ج 3/ 192. والبخاريّ، ج 2/ 112. وابن سعد ج 2/ 57) .
(3) قلت: حيث ذكر البخاريّ أنّها كانت على رأس ستّة أشهر من وقعة بدر قبل أحد، وهو من قول الزّهريّ.
(4) أسباب النّزول، للواحدي، ص 162.
فدسّ إليهم المنافقون ما حكى الله عنهم من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ/ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ الآيات [سورة الحشر 59/ 11] .
فلمّا اشتدّ الحصار على أعداء الله، وأيسوا من نصرة المنافقين، قذف الله في قلوبهم الرّعب، فطلبوا الصّلح، فصالحهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الجلاء- أي: الإخراج من أرض إلى أرض- وأنّ لهم ما أقلّت الإبل إلّا السّلاح، فجلوا إلى (الشّام) إلّا آل حييّ بن أخطب وآل أبي الحقيق، فإنّهم جلوا إلى (خيبر) .
وأنزل الله فيهم سورة الحشر، وكانت أموالهم ممّا أفاء الله على رسوله، خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين خاصّة لشدّة حاجتهم، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلّا لثلاثة نفر بهم حاجة «1» ، وطابت بذلك نفوس الأنصار، كما أثنى الله عليهم بقوله: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [سورة الحشر 59/ 9] .
وفي «صحيح البخاريّ» ، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس رضي الله عنهما: سورة الحشر، قال: قل سورة النّضير «2» .
وفيه-[أي: صحيح البخاريّ]- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حرّق نخل بني النّضير وقطّع، وهي البويرة،
__________
(1) وهم: سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة، أعطاهم صلى الله عليه وسلم مالا، وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق.
(2) أخرجه البخاريّ، برقم (3805) .
فعاب ذلك المشركون عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ [سورة الحشر 59/ 5] «1» .
قال ابن عمر: ولها يقول حسّان بن ثابت، [من الوافر] «2» :
وهان على سراة بني لؤيّ ... حريق بالبويرة مستطير «3»
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، [من الوافر] :
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرّق في نواحيها السّعير
ستعلم أيّنا منها بنزه ... وتعلم أيّ أرضينا تضير «4»
[مآل أموال بني النّضير]
وفي «الصّحيحين» ، عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: كانت أموال بني النّضير ممّا أفاء الله على رسوله، ممّا لم يوجف المسلمون عليه خيلا ولا ركابا، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة/ ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثمّ يجعل ما بقي في السّلاح والكراع عدّة في سبيل الله «5» .
[غزوة ذات الرّقاع، أو غزوة نجد]
وفي هذه السّنة أيضا- وهي: الرّابعة- غزا النّبيّ صلى الله عليه وسلم غزوة ذات
__________
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (4602) . البويرة: موضع منازل بني النّضير.
(2) ذكره البخاريّ في «صحيحه» ، برقم (3808) .
(3) سراة: أشراف القوم. المستطير: المنتشر.
(4) النّزه: البعد. تضير: تضرّه.
(5) أخرجه البخاريّ، برقم (2748) . الإيجاف: سرعة السّير، وهو كناية عن الجهاد والقتال. الكراع: اسم يجمع الخيل والسّلاح، وهي الّتي تصلح للحرب.
الرّقاع إلى (نجد) يريد غطفان «1» - سمّيت بذلك لأنّ أقدامهم نقبت «2» من الحفاء، وكان يلفّون عليها الخرق- فانتهى صلى الله عليه وسلم إلى (نجد) ، فلقي جمعا من غطفان، فتقاربوا ولم يكن قتال، فلمّا صلّى الظّهر بأصحابه ندم المشركون أن لا يكونوا حملوا عليهم في الصّلاة، ثمّ قالوا: دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم- يعنون: صلاة العصر- فإذا قاموا إليها فشدّوا عليهم، فنزل جبريل عليه السّلام بصلاة الخوف، وهي قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
__________
(1) ذكر المؤلّف- رحمه الله- غزوة ذات الرّقاع ضمن أحداث السّنة الرّابعة. قلت: قال ابن القيّم في «زاد المعاد» ، ج 3/ 252: صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه صلّى صلاة الخوف بذات الرّقاع، فعلم أنّها بعد الخندق وبعد عسفان، ويؤيّد هذا أنّ أبا هريرة وأبا موسى الأشعريّ رضي الله عنهما شهدا ذات الرّقاع، كما في الصّحيحين وغيرهما؛ وأنّ مروان بن الحكم سأل أبا هريرة، هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟، قال: نعم، قال: متى؟، قال: عام غزوة نجد. وهذا يدلّ على أنّ غزوة ذات الرّقاع بعد خيبر، وأنّ من جعلها قبل الخندق فقد وهم وهما ظاهرا، ولمّا لم يفطن بعضهم لهذا ادّعى أنّ غزوة ذات الرّقاع كانت مرّتين، فمرّة قبل الخندق ومرّة بعدها، وهذا لا يصحّ. ثمّ قال: وممّا يدلّ على أنّ غزوة ذات الرّقاع بعد الخندق، ما أخرجه مسلم من حديث جابر: أنّهم صلّوا صلاة الخوف بذات الرّقاع، وصلاة الخوف إنّما شرعت بعد الخندق، بل بعد عسفان، لأنّه ورد في الحديث: أنّ أوّل صلاة صلّاها للخوف بعسفان، وعسفان كانت بعد الخندق بلا خلاف. لذلك يجب ذكر هذه الغزوة بعد خيبر، مرجّحا رواية البخاريّ في الصّحيح، ومخالفا بذلك ما ذكره ابن إسحاق، الّذي جعلها في السّنة الرّابعة، قبل غزوة الخندق. (انظر الجامع في السّيرة النّبويّة، ج 3/ 271) .
(2) نقبت: رقّت جلودها وقرحت من المشي.
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الآية [سورة النّساء 4/ 102] «1» .
وفي «صحيح البخاريّ» ، خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرّقاع من بطن (نخل) ، فلقي جمعا من غطفان، فصلّى بهم ركعتي الخوف «2» .
وقول البخاريّ وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة: صوابه وثعلبة- بواو العطف «3» -.
[,
(2) أي: من الإسلام.
(3) أخفروا: نقضوا وغدروا.
والرّجلان هما: عمرو بن أميّة الضّمريّ وأنصاريّ «1» ، كانا في إبل أصحابهم، فلمّا راحا بهما وجدا أصحابهما صرعى، والخيل واقفة، فقتلوا الأنصاريّ أيضا، وتركوا عمرا حين أخبرهم أنّه من ضمرة.
فرجع عمرو إلى (المدينة) فوجد رجلين من بني عامر فقتلهما، وكان معهما جوار من النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، فلمّا قدم (المدينة) / أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال: «لقد قتلت رجلين لأدينّهما» «2» .
[دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قتلة أصحاب بئر معونة وحزنه عليهم]
وحزن صلى الله عليه وسلم على أصحاب (بئر معونة) حزنا شديدا، وقنت في الصّلوات الخمس، على قبائل سليم: (رعل وذكوان وعصيّة) ، الّذين عصوا الله ورسوله وبني لحيان أيضا شهرا، إلى أن نزل عليه قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 128] فترك القنوت «3» .
[