فانخذل عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكان مطاعا بثلث النّاس.
[تعبئة النّبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين للقتال]
فبقي نحو سبع مئة رجل، فنزل صلى الله عليه وسلم وجعل ظهره إلى (أحد) ، ورتّب أصحابه كما قال الله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ
__________
(1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، ج 3/ 198 بنحوه.
(2) لأمته: درعه.
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» ، برقم (14373) .
(4) في المخطوط: فارس. والتصويب من «مسند أحمد»
- وكان غدا من منزل عائشة- تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ الآيات [سورة آل عمران 3/ 121] ، وأقعد الرّماة، وهم خمسون على جبل (عنين) - مصغّرا بمهملة ونون مكرّرة- وقال لهم: «لا تبرحوا مكانكم إن غلبنا أو غلبنا» .
[انتصار المسلمين ودور الرّماة فيه]
وظاهر صلى الله عليه وسلم يومئذ بين درعين «1» ، وحمل هو وأصحابه على المشركين فهزمهم الله تعالى، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [سورة آل عمران 3/ 152] .
وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا.
[الابتلاء بعد النّصر]
فقالت الرّماة: الغنيمة يا قوم، فقد ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فأبى بعضهم فثبت مكانه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تبرحوا مكانكم» ، وخالف الآخرون، فأقبلوا على الغنيمة، كما قال الله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا- أي: الغنيمة- وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، لكن عفا عنهم بقوله: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران 3/ 152] .
فلمّا رأت خيل قريش ظهور المسلمين خالية عن الرّماة، حملوا عليهم، فقتلوا من بقي من الرّماة، وأتوا المسلمين من خلفهم.
[إشاعة مقتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما لقيه من الأذى]
وصرخ إبليس- لعنه الله تعالى-: ألا إنّ محمّدا قد قتل، فانفضّت صفوف المسلمين، وتراجعت قريش بعد هزيمتها، وخلص العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرموه بالحجارة، حتّى وقع لشقّه، وكسرت رباعيته اليمنى السّفلى، وجرحت شفته/ السّفلى،
__________
(1) ظاهر بين درعين: لبس إحداهما فوق الآخرى.
وضربه ابن قمئة اللّيثي على وجهه، فدخلت حلقتان من حلق المغفر «1» في وجنته، وضربه آخر على رأسه حتّى هشم البيضة «2» ، وكانوا أحرص شيء على قتله، فعصمه الله عزّ وجلّ منهم، وهو صلى الله عليه وسلم ثابت ينادي أصحابه، فلم يلو عليه أحد، إذ لم يعرفوه، وظنّوا أنّه قد قتل، وهو في الحديد؛ الدّرع والمغفر، كما قال الله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ- أي: جزاكم- غَمًّا بِغَمٍّ- أي: بعد غمّ-[سورة آل عمران 3/ 153] .
[أوّل من عرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد إشاعة مقتله]
ثمّ إنّ كعب بن مالك الأنصاريّ رضي الله عنه عرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصاح: يا معشر المسلمين، أبشروا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه نفر من المسلمين، ونهضوا إلى الشّعب.
[أبيّ بن خلف يبحث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتله]
فأدركهم أبيّ بن خلف فارسا، وهو يقول: أين محمّد؟
لا نجوت إن نجا، وشدّ عليه، فاعترضه رجال من المسلمين دون النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده هكذا- أي: خلّوا طريقه- وتناول الحربة فهزّها حتّى تطايروا من حوله لشدّة بأسه، ثمّ استقبله فدقّه في عنقه بطعنة، تدأدأ «3» لها عن فرسه مرارا، ونفذت من الدّرع، فرجع إلى أصحابه فمات، فهمّ المشركون أن يكرّوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشّعب، فحماهم الله منهم.
[تغشية النّعاس المؤمنين]
ثمّ إنّهم لمّا ترادفت عليهم الغموم ممّا أصابهم، ومن خوف كرّة العدوّ عليهم، ألقى الله عليهم النّعاس، أمنة منه لهم، إلّا المنافقين
__________
(1) المغفر: زرد ينسج من الدّروع على قدر الرّأس، يلبس تحت القلنسوة.
(2) البيضة: الخوذة الّتي توضع على الرّأس.
(3) تدأدأ: تدحرج وسقط.
فلم يغش النّعاس أحدا منهم لظنّهم السوء، كما قال الله تعالى:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ الآيات [سورة آل عمران 3/ 154] .
[,
وكان من حديث (أحد) أنّ قريشا تحاشدوا بعد (بدر) ، واجتهدوا في طلب الثّأر، وخرجوا بظعنهم ومن أطاعهم من الأحابيش- أي: جموع العرب- حتّى نزلوا ب (أحد) ، وكانوا ثلاثة آلاف، منهم مئتا فارس.
[مشاورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج]
فلمّا علم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الخروج إليهم أو الإقامة، وقال لهم: «إنّي رأيت في منامي كأنّ في سيفي ثلمة، وأنّ بقرا تذبح، وتأوّلتها أنّ نفرا من أصحابي يقتلون، وأنّ رجلا من أهل بيتي يصاب، فإن رأيتم أن تقيموا ب (المدينة) وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام، وإن دخلوها قاتلناهم فيها» «1» .
فاختلفت آراؤهم في ذلك، حتّى غلب رأي من أحبّ الخروج.
وكان من لم يشهد/ (بدرا) حصل معهم من الأسف على ما فاتهم من الفضيلة.
[تهيّؤ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للخروج]
فدخل صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته «2» ، وخرج عليهم فوجدهم قد رجّحوا رأي القعود، فقال: «لا ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل» «3» . فسار بهم، وكانوا نحو الألف، ليس فيهم فرس «4» .
[,
ثمّ إنّ أبا سفيان أشرف فقال: أفي القوم محمّد؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه» ، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟
قال: «لا تجيبوه» ، قال: أفي القوم ابن الخطّاب؟ قال:
/ «لا تجيبوه» ، فقال: إنّ هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه، فقال: كذبت يا عدوّ الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك، فقال أبو سفيان: أعل هبل، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» ، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجلّ» ، قال أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» ، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» ، قال أبو سفيان: يوم بيوم (بدر) ، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. رواه البخاريّ عن البراء بن عازب «1» .
فائدة [: فيمن أكرمه الله بالشّهادة يوم أحد]
قال العلماء: وكان يوم (أحد) يوم بلاء وتمحيص «2» وإكرام، أكرم الله فيه من أكرم بالشّهادة، فقتل حمزة في سبعين شهيدا من المسلمين رضي الله عنهم، ومثّلث بهم نساء قريش، فبقروا بطن
__________
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (2874) . سجال: أي مرّة لنا ومرّة علينا.
(2) يوم تمحيص: يوم تطهير وتخليص من الآثام والذّنوب. (أنصاريّ) .
الحمزة، وقطعوا كبده، فلمّا نظر إليه صلى الله عليه وسلم كذلك ترحّم عليه وأثنى عليه، ثمّ قال: «والله، لئن أظفرني الله بهم لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك» «1» ، ثمّ ذكر قول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [سورة النّحل 16/ 126- 127] .
فاختار الصّبر كما أمره الله تعالى، وكان ينهى عن المثلة.
[دفن الشّهداء]
ثمّ إنّه صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشّهداء بدمائهم، ولم يغسّلهم، ولم يصلّ عليهم، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» - أي: لهم- وكان يجمع بين الرّجلين في ثوب واحد، ثمّ يقول: «أيّهم أكثر أخذا للقرآن؟» ، فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللّحد «2» .
[,
وفي السّنة الثّالثة: كانت غزوة (أحد) ، وكانت وقعتها يوم السّبت للنّصف من شوّال.
__________
(1) فما أغنيت شيئا: أي لم أقتله.
(2) ظبّة السّيف: حرف حدّ السّيف.
(3) النّجاء: أي أسرعوا وانجوا بأنفسكم.
(4) أخرجه البخاريّ، برقم (3813) .
[,
وأنزل الله فيهم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآيات [سورة آل عمران 3/ 169- 170] .
وأنزل الله تسلية للمؤمنين وتقوية لعزائمهم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ- أي: يوم (بدر) - وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [سورة آل عمران 3/ 139- 140] .
ودلّهم على وجه الحكمة فيما قضاه وقدّره/ عليهم بقوله تعالى:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا- أي: يظهر إيمانهم ويميّزهم
__________
(1) أورده الهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، ج 6/ 119. عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاريّ، برقم (1278) .
عن المنافقين؛ كعبد الله بن أبيّ وذويه- وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ- كحمزة وأصحابه- وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا- أي: يخلّص إيمانهم- وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [سورة آل عمران 3/ 140- 141] .
[