قال ابن إسحاق: «كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جمعهم بسوق قينقاع ثم قال: يا معشر اليهود، احذروا من الله عزّ وجلّ مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم. قالوا: يا محمد إنك ترى أنا كقومك؟! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت فرصة، إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس» .
وروى ابن هشام عن عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عوانة: «أن امرأة من العرب قدمت بجلب «13» لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على يهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. فكان هؤلاء أول يهود نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم» «14» ، وكان ذلك، فيما رواه الطبري والواقدي في منتصف شوال من السنة الثانية للهجرة «15» .
فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم مدة من الزمن، حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: «يا محمد، أحسن في مواليّ! .. فلم يلتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكرر ثانية فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درعه صلّى الله عليه وسلم فقال له: أرسلني، وغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال له: وبحك أرسلني، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ: أربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هم لك، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وهلك أكثرهم فيها» .
وكان لعبادة بن الصامت من المحالفة مع هؤلاء اليهود مثل الذي لعبد الله بن أبي، فمشى إلى
__________
(13) هو ما يجلب إلى السوق للبيع.
(14) سيرة ابن هشام: 2/ 47
(15) الطبري: 2/ 480، وطبقات ابن سعد: 3/ 67
رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائلا: «إنني أتولى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم» .
ففيهما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [المائدة 5/ 51- 52] .