لما كان صبيحة قدومه صلى الله عليه وسلم من أحد أذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا خلف قريش، وأن لا يخرج إلا من حضر أحدا، وذلك إرهابا للعدو، وليبلغهم أنه صلى الله عليه وسلم خرج في طلبهم ليظنوا به صلى الله عليه وسلم قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم: أي يضعفهم عن عدوهم.
قال: وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان يريد أن يرجع بقريش إلى المدينة ليستأصلوا من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغه أن المشركين قالوا له: لا محمدا قتلتم، ولا الكواكب أردفتم، بئس ما صنعتم ارجعوا.
أي وفي لفظ أنهم لما بلغوا بعض الطريق قدموا فقالوا بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة، فقذف الله في قلوبهم الرعب.
ويذكر أن عبد الله بن عوف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة قدومه صلى الله عليه وسلم من أحد وأخبره أنه أقبل من أهله حتى إذا كان بمحل كذا إذا قريش قد نزلوا به؛ فسمع أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعتم شيئا قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف عن الخروج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، فقال صلى الله عليه وسلم: أرشدهم صفوان، وما كان يرشد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي عنهما، وذكر لهما الخبر: أي ما أخبر به عبد الله بن عوف فقالا: يا رسول الله اطلب العدو لا يقتحمون على الذرية. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح ندب الناس، وأمر بلالا أن ينادي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج إلا من حضر القتال بالأمس، انتهى.
وعند تهيئه صلى الله عليه وسلم للخروج جاء جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: يا رسول الله إنما تخلفت عن أحد، لأن أبي خلفني على أخوات لي سبع، أي وقيل وهو الصحيح إنهن تسع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقني الشهادة فتخلف على أخواتك فاستخلفت عليهن واستأثر علي بالشهادة، فائذن لي يا رسول الله معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري. واستأذنه رجال لم يحضروا القتال أي منهم عبد الله بن أبي قال له أنا راكب معك، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل، فدفعه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه: أي المسمى بالسكب، ولم يكن مع أصحابه فرس سواه، وعليه الدرع والمغفر وما يرى إلا عيناه وخرج الناس معه: أي جميع من كان معه صلى الله عليه وسلم في أحد.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت في قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: الآية 172] الآية، قالت لعروة بن الزبير:
يا بن أختي كان أبوك الزبير رضي الله عنه وأبو بكر لما أصاب نبيّ الله ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يرجع في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلا. قال ابن كثير وهذا السياق غريب جدا، فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذي خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد كل من شهد أحدا وكانوا سبعمائة كما تقدم، قتل منهم سبعون وبقي الباقي، هذا كلامه فليتأمل مع ما تقدم.
قال: والظاهر أنه لا تخالف، لأن معنى قولها يعني عائشة: أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق بهم الباقون وخرجوا وبهم الجراحات ولم يعرجوا على دواء جراحاتهم: أي لم يلتفتوا لذلك، والمراد دواء غير تكميد جراحهم بالنار، وهو أن تسخن خرقة وتوضع على العضو الوجع، ويتابع ذلك مرة بعد أخرى ليسكن الوجع، فلا يخالف أنهم فعلوا ذلك: أي أوقدوا النيران يكمدون بها جراحاتهم تلك الليلة.
فمنهم من كان به تسع جراحات وهو أسيد بن حضير رضي الله عنه، وعقبة بن عامر رضي الله عنه. ومنهم من كان به عشر جراحات، وهو خراش بن الصمة رضي الله عنه ومنهم من كان به بضع عشرة جراحة، وهو كعب بن مالك رضي الله عنه.
ومنهم من كان به بضع وسبعون جراحة، وهو طلحة بن عبيد الله، وقطعت أصبعه.
قيل السبابة، وقيل البنصر فشلت بقية أصابع يده وهي اليسرى. وفي رواية أنامله كما تقدم. ومنهم من كان به عشرون جراحة، وهو عبد الرحمن بن عوف كما تقدم: أي وجرح من بني سلمة أربعون جريحا فقال صلى الله عليه وسلم لما رآهم «اللهم ارحم بني سلمة» .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجروح، وفي وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في وجهه، ومكسورة رباعيته وشفته السفلى قد جرحت من باطنها: أي وفي المنتقى:
وشفته العليا قد كلمت من باطنها متوهن منكبه الأيمن لضربة ابن قمئة لعنه الله، وركبتاه مجروحتان من وقعته في الحفيرة، وتلقاه صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال له يا طلحة أين سلاحك؟ فقال: قريب، فذهب وأتى بسلاحه وبصدره تسع جراحات من تلك الجراحات التي به، وهي كما تقدم بضع وسبعون جراحة.
يقول طلحة وأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مني بجراحي. ثم أقبل عليّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: يا طلحة أين ترى القوم، فقلت: بالسفالة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله مكة علينا. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه «يا بن الخطاب: إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن» اهـ.
وكان دليله صلى الله عليه وسلم في السير ثابت بن الضحاك، وليس هو أخا جبير، وقيل أخوه، ولا زالوا سائرين حتى عسكروا بحمراء الأسد: أي وهو محل بينه وبين المدينة ثمانية أميال، أي وقيل عشرة أميال.
وعن رجل من الأنصار قال «شهدت أحدا أنا وأخي، فرجعنا جريحين، فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، فقال لي أخي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي لفظ «إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لفسق والله ما لنا من دابة نركبها، فخرجنا وكنت أيسر جراحا منه، فكنت إذا غلب حملته عقبه ويمشي عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون من حمراء الأسد، أي وذلك عند العشاء وهم يوقدون النيران، فجاءتهما الحرس وكان على حرسه تلك الليلة عباد بن بشر مع طائفة، فلما أتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما ما حبسكما؟ فأخبراه بغلبتهما فدعا لهما بخير وقال لهما: إن طالت بكما مدة كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل وذلك ليس بخير لكم» أي هذان الرجلان عبد الله ورافع ابنا سهيل بن رافع والذي ضعف عن المشي رافع، والحامل له عبد الله.
وأقام المسلمون بذلك المحل ثلاث ليال، وكانوا يوقدون في كل ليلة من تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد. وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله تعالى عدوّهم. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: وكان عامة زادنا التمر.
وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيرا حتى وافت حمراء الأسد وساق جزرا لتنحر، فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء. ولقي كفار قريش معبدا الخزاعي، وكان يومئذ مشركا بالروحاء، وكان رأى خروجه صلى الله عليه وسلم خلف قريش، فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلبهم، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه فتمادوا إلى مكة. قال: لما كان صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد لقيه معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم تحبه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت لغيرك. ثم مضى معبد حتى كان بالروحاء. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمدا وأصحابه قد خرجوا لطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد
اجتمع معه من كان تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا على أن لا يرجعوا حتى يلقوكم فيثأروا: أي يأخذوا ثأرهم منكم، وغضبوا لقومهم غضبا شديدا، وندموا على ما فعلوا فيهم من الحنق شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فانصرفوا سراعا اهـ.
أي وعند انصرافهم أرسل أبو سفيان مع نفر يريدون المدينة أن يخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم أجمعوا على الرجعة، فلما بلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: الآية 172] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب» أي وأرسل معبد الخزاعي رجلا يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بانصراف أبي سفيان ومن معه خائفين، فانصرف إلى المدينة، وظفر صلى الله عليه وسلم في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر الذي منّ عليه وقد أسر ببدر من غير فداء لأجل بناته؛ وأخذ عليه عهدا أن لا يقاتله ولا يكثر عليه جمعا ولا يظاهر عليه أحدا كما تقدم، فنقض العهد، وخرج مع قريش لأحد، وصار يستنفر الناس ويحرضهم على قتاله صلى الله عليه وسلم بأشعاره كما تقدم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يفلت فأسر. ثم قيل: إن المشركين لما نزلوا بحمراء الأسد تركوه نائما، فاستمرّ حتى ارتفع النهار، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت، وما أسر أحد من المشركين غيره في تلك الوقعة، وقيل أسره عمير بن عبد الله.
وفي النور: لا أستحضر أحدا في الصحابة اسمه غمير بن عبد الله، فلما جيء به إليه صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد أقلني وامنن علي؛ ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا أن لا أعود لمثل ما فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم: لا والله لا تمسح عارضيك بمكة. وفي لفظ: تمسح لحيتك تجلس بالحجز، تقول خدعت محمدا. وفي لفظ: سحرت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زيد. وفي لفظ: يا عاصم بن ثابت. وفي لفظ: يا زبير، وقال صلى الله عليه وسلم «لا يلدغ» بالدال المهملة والغين المعجمة. وفي لفظ «لا يلسع المؤمن من حجر مرتين» فضرب عنقه.
وذكر أن رأسه حمل إلى المدينة مشهورا على رمح. قال بعضهم: وهو أول رأس حمل في الإسلام، أي ولا ينافيه ما قيل إن أول رأس حمل في الإسلام رأس كعب بن الأشرف كما سيأتي في السرايا، لإمكان أن يراد أن رأس أبي عزة أوّل رأس حمل إلى المدينة على رمح. ولعل هذا لا ينافي ما حكاه بعضهم أن عمرو بن الجموح كان رابع الأربعة الذين دخلوا على سيدنا عثمان الدار، وكان مع علي كرم الله وجهه في مشاهده. فلما ولي معاوية رضي الله عنه فر هاربا إلى العراق فنهشته حية فدخل غارا ومات، فأخبر بذلك زياد والي العراق، فأرسل من حز رأسه وأرسل
به إلى معاوية، فكان أول رأس نقل في الإسلام من بلد إلى بلد.
قال بعضهم في معنى هذا المثل: أي لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين: إنه ينبغي للمرء أن يستعمل الحزم، وهذا المثل لم يسمع من غيره صلى الله عليه وسلم. ومورده أن شخصا جرد سيفه وقصد النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ليقتله فاخطأت الضربة، فقال: كنت مازحا يا محمد فعفا عنه، ثم عاد لمثل ذلك مرة أخرى وقال مثل ذلك، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله وقال «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .
وأمر صلى الله عليه وسلم في ذلك المحل بقتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبد الملك بن مروان لأمه، وقد كان لجأ إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه: أي فإنه لما رجع الكفار من أحد ذهب على وجهه ثم أتى باب عثمان فدقه، فقالت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوج عثمان من أنت؟ قال: ابن عم عثمان، فقالت:
ليس هو هاهنا، فقال: أرسلي إليه. فله عندي ثمن بعير كنت اشتريته منه، فجاء عثمان، فلما نظر إليه قال: أهلكتني وأهلكت نفسك، فقال: يا بن عم لم يكن أحد أمس بي رحما منك فأجرني، فأدخله عثمان رضي الله عنه منزله وصيره في ناحية، ثم خرج عثمان ليأخذ له أمانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه، فدخلوا منزل عثمان، فأشارت إليهم أم كلثوم رضي الله عنها بأنه في ذلك المكان، فأخرجوه وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتله، فقال عثمان رضي الله عنه: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لآخذ له أمانا، فهبه لي، فوهبه له وأجله ثلاثا، وأقسم صلى الله عليه وسلم إن وجده بعدها قتله.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، فأقام معاوية ثلاثا يستعلم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتي بها قريشا، فلما كان في اليوم الرابع عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فخرج معاوية هاربا، فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، فرمياه حتى قتلاه، وقد كان صلى الله عليه وسلم بعثهما إليه وقال لهما إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا: أي بموضع بينه وبين المدينة ثمانية أميال، فوجداه به فقاتلاه. وقيل تبعه علي كرم الله وجهه فقتله، وكان صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم للقوم بحمراء الأسد فقتلوهما فوجدهما صلى الله عليه وسلم قتيلين بحمراء الأسد فدفنهما في قبر واحد. ولا يأتي هنا الجواب المتقدم في قتلى أحد.
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بعد رجوعه إلى المدينة، بأن الحارث بن سويد في قباء فانهض إليه واقتص منه بمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد وهو المجذّر، وتقدم أنه بالذال المعجمة مشددة مفتوحة ابن زياد، وتقدم أنه بكسر الذال المعجمة وفتحها وتخفيف المثناة تحت، لأن سويدا كان قد قتل زيادا أبا المجذر، في الجاهلية، فظفر المجذر بسويد والد الحارث فقتله في أبيه وذلك قبل الإسلام، وكان
ذلك سببا لوقعة بغاث، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد، وأسلم المجذر بن زياد وشهدا بدرا، فجعل الحارث يطلب مجذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه كما تقدم، فلما كان يوم أحد رجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، قيل وقتل أيضا قيس بن زيد. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء في وقت لم يكن يأتيهم فيه وهو شدة الحر في يوم حار، فخرج إليه الأنصار من أهل قباء رضي الله عنهم ومنهم الحارث بن سويد وعليه ثوب مورّس. وفي لفظ في ملحفة مورسة. وفي لفظ في ثوبين مضرّجين. وفي لفظ ممرّضين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عويمر بن ساعدة بضرب عنقه، أي فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد واضرب عنقه، وقيل أمر عثمان بن عفان بذلك، فقدم ليضرب عنقه، فقال الحارث:
لم يا رسول الله؟ فقال: بقتلك المجذر بن زياد وقيس بن زيد، فما راجعه الحارث بكلمة، فضرب عنقه. قال: وفي رواية أن الحارث قال: والله قتلته: أي المجذر، وما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه، ولكن حمية من الشيطان، وإني أتوب إلى الله ورسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، فلم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك انتهى. ولم يذكر قتل قيس بن زيد، ولعله اكتفى بذلك في قتله الحارث، ويعلم استحقاقه القتل بقتل قيس بن زيد بطريق أولى.
أي وكان في هذه السنة الثالثة مولد الحسن بن علي رضي الله عنهما، وسماه حربا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن، أي لأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء قال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قال عليّ حربا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هو حسن، وحنكه صلى الله عليه وسلم بتمر.
وكان في هذه السنة تحريم الخمر. وقيل كان تحريمها في السنة الرابعة وهو محاصر لبني النضير. وقيل كان تحريمها بين الحديبية وخيبر. وقيل كان بخيبر قال صلى الله عليه وسلم «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» وفي رواية «الكرمة والنخلة» وفي رواية «الكرم والنخل» كذا في مسلم. ولعل ذكر الكرم كان قبل النهي عنه، وإلا ففي مسلم «لا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم وفي رواية «فإن الكرم قلب المؤمن» أو قيل ذلك بيانا للجواز إشارة إلى أن النهي للتنزيه.
وقد حرمت الخمر ثلاث مرات:
الأولى في قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: الآية 219] أي القمار قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: الآية 219] فإنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون القمار، فسألوه عن ذلك فنزلت الآية. الثانية أن بعض الصحابة صلى بأصحابه صلاة المغرب وهو سكران فخلط في القراءة، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النّساء: الآية 43] ثم أنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (90) [المائدة: الآية 90] فكف الناس عن شربها.
وقد جاء أن حمزة رضي الله عنه لما شربها قال للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ أي ففي البخاري «أن حمزة رضي الله عنه لما شرب الخمر خرج فوجد ناقتين لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فعلاهما بالسيف وبقر خواصرهما، ثم أخذ من أكبادهما وجبّ سناميهما. قال علي كرم الله وجهه: فنظرت إلى منظر أفظعني، فأتيت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر، فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه زيد، فانطلقت معه فدخل على حمزة فتغيظ عليه، فرفع حمزة رضي الله عنه بصره وقال:
هل أنتم إلا عبيد لأبي، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم يقهقر حتى خرج وذلك قبل تحريم الخمر، ولكون السكر كان مباحا لم يرتب على قول حمزة مقتضاه مع أن من قال لنبي أنت عبدي أو عبد أبي كفر.
واعترض القول بأنها في السنة الرابعة، بأن أنس بن مالك كان ساقيا لها، فلما سمع المنادي بتحريمها أراقها.
وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه: وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا: أي أبا أيوب وأبا دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل ابن بيضاء وأبيّ بن كعب وأبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، إذ جاء رجل وقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس فأهريقت. وفي لفظ قال أنس رضي الله عنه: فقمت إلى مهراس فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
وفي مسلم عن أبي طارق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إنما أصنعه: أي الخمر للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء، وإراقة الخمر حينئذ مع أنها كانت مباحة فهي محترمة تغليظ وتوكيد للتحريم وفطم للنفوس، لأن إراقتها لم تكن بأمر منه صلى الله عليه وسلم.
وسئل الحافظ السيوطي رحمه الله عن حكمة رجوعه صلى الله عليه وسلم القهقرى، فأجاب بأنه لعله كان من خوف الوثوب عليه إرشادا لمن يخاف الوثوب، أو كان مقصوده صلى الله عليه وسلم مداومته لحظه، أو أن الراوي أراد بالقهقرى مطلق الرجوع إلى المنزل لا بالظهر.
وأنس رضي الله عنه لم يكن خادما للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: أي في السنة الرابعة بل بعدها. وحينئذ يكون القول بأن كونه في الثالثة أشكل.
وأشكل من هذا ما حكاه ابن هشام في قصة الأعشى بن قيس أنه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بمكة اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا أبا نصير إنه يحرم الزنا. فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب، فقال: إنه يحرم الخمر. فقال
الأعشى: أما هذه إن في النفس منها لغلالات، ولكني منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم، فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه لما علمت أن الخمر لم تحرم بمكة وإنما حرمت بالمدينة في السنة الثالثة أو الرابعة. وأجاب بعضهم بأن الأعشى أراد المدينة فاجتاز بمكة، فعرض له بعض كفار قريش.
واعترض بأنه قيل إن القائل له ذلك أبو جهل لعنه الله وكان في دار عتبة بن ربيعة وأبو جهل قتل ببدر في السنة الثانية.
وأجيب بأنه على تسليم صحة ذلك بأنه يجوز أن يكون أبو جهل لعنه الله قصد صد الأعشى عن الإسلام بطريق التقول والافتراء، لأنه كان يعرف ميل الأعشى إلى الخمر وعدم صبره على تركها، فاختلق هذا القول من عنده ليمنعه بذلك عن الإسلام.
أقول: لما حرمت الخمر قال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم أي لأن جماعة شربوها صبح يوم أحد قتلوا من يومهم شهداء، فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [المائدة: الآية 93] وكون أنس رضي الله عنه لم يكن خادما للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد السنة الرابعة يخالف ما سبق أن عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت به أمه ليخدمه صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم، ثم أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك فخدمته صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر» وتقدم الجمع بين كون الآتي به أبا طلحة والآتي به أمه.
وفي البخاري أيضا عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة:
التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حين أخرج إلى خيبر، فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل» .
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يأمر أنسا بالخروج معه إلى خيبر لظنه أن أمه لا تسمح له بذلك، فلما قال لأبي طلحة ما ذكر جاء إليه بأنس رضي الله عنه، والله أعلم.