فلما أجمع مالك السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم. فلما نزل بأوطاس، اجتمعوا إليه. وفيهم دريد بن الصمة الجشمي، وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه، وكان شجاعا مجربا.
فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل. لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير. ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم.
قال: أين مالك؟ فدعي له، فقال: إنك أصبحت رئيس قومك. وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام. فلم فعلت هذا؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله، ليقاتل عنهم. قال: راعي ضأن والله، وهل يرد
المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك: لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه. وإن كانت عليك: فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغيبوا. ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب. فمن شهدها؟ قالوا عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان من عامر، لا ينفعان ولا يضران. يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم البيضة - بيضة هوازن - إلى نحور الخيل شيئا. ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعلياء قومهم. ثم الق الصبا على متون الجيل. فإن كانت لك: لحق بك من وراءك. وإن كانت عليك: ألفاك ذاك وقد أحرزت أهلك ومالك.
قال: والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك. والله لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر، أو رأي.
قالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يفتني.
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع (1) ... كأنها شاة صدع
ثم قال مالك: إذا رأيتموهم، فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
ثم بعث عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب
_________
(1) الوطفاء: السحابة المسترخية الجوانب، لكثرة مائها، و " الزمع " جمع زمعة. وهي التلعة - بالتحريك - الصغيرة.
والهلع. فقال لهم: ويلكم، ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق. والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. وأمره أن يداخلهم حتى يعلم علمهم. فانطلق. فداخلهم حتى علم ما هم عليه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر.
فلما أراد المسير، ذكر له: أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا - وهو يومئذ مشرك - فقال له: «يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا، نلق فيه عدونا غدا» فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة، حتى نؤديها إليك» فأعطاه مائة درع بما يكفيها السلاح. فخرج صلى الله عليه وسلم. ومعه ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة. فكانوا اثني عشر ألفا. واستعمل عتاب بن أسيد على مكة.
فلما استقبلوا وادي حنين، انحدروا في واد من أودية تهامة أجوف في عماية الصبح. قال جابر: وكانوا قد سبقونا إليه، فكمنوا في شعابه ومضايقه. قد تهيئوا. فوالله ما راعنا إلا الكتائب، قد شدوا علينا شدة رجل واحد، فانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: «يا أيها الناس: هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله» .
وبقي معه نفر من المهاجرين، وأهل بيته، فاجتلد الناس. فوالله ما رجعت الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانوا حين رأوا كثرتهم قالوا: " لن نغلب اليوم عن قلة " فوقع بهم ما
وقع ابتلاء من الله لقولهم ذلك.
قال ابن إسحاق: ولما وقعت الهزيمة: تكلم رجال من جفاة أهل مكة بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان، لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وصرخ جبلة بن الحنبل: ألا بطل السحر اليوم. فقال له أخوه صفوان بن أمية - وكان بعد مشركا - اسكت، فض الله فاك. فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
وذكر ابن إسحاق عن شيبة بن عثمان الحجبي. قال: لما كان يوم الفتح قلت: أسير مع قريش إلى هوازن، لعلي أصيب من محمد غرة. فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا تبعه، ما اتبعته أبدا. فلما اختلط الناس، اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته وأصلت السيف، فدنوت أريد ما أريد، ورفعت سيفي حتى كدت أسوره. فرفع لي شواظ من نار كالبرق، كاد أن يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفا عليه. فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فناداني «يا شيب، ادن " فدنوت، فمسح صدري. ثم قال: " اللهم أعذه من الشيطان» فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي. ثم قال: «ادن، فقاتل» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي. الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي. لو لقيت تلك الساعة أبي لأوقعت به السيف. فجعلت ألزمه فيمن لزمه، حتى تراجع الناس، وكروا كرة رجل واحد. وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستوى عليها. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم حتى تفرقوا، في كل وجه. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معسكره، فدخل خباءه. فدخلت عليه، ما دخل عليه غيري، حبا لرؤية وجهه، وسرورا به. فقال: «يا شيب، الذي أراد الله لك، خير من الذي أردت لنفسك» .
قال العباس: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكنت امرءا جسيما شديد الصوت - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين رأى ما رأى من الناس - «إلي أيها الناس، أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب» فلم أر الناس يلوون على شيء. فقال: «أي عباس، اهتف بأصحاب السمرة» (1) " فناديت: يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة. فكان الرجل يريد أن يرد بعيره فلا يقدر. فيأخذ سلاحه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله. ويؤم الصوت، فأتوا من كل ناحية: لبيك، لبيك. حتى إذا اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة استقبلوا الناس، فاقتتلوا. فكانت الدعوة أولا: " يا للأنصار، يا للأنصار "، ثم خلصت الدعوة: " يا لبني الحارث بن الخزرج "، وكانوا صبرا عند الحرب.
وفي صحيح مسلم: «ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات. فرمى بها وجوه القوم. ثم قال: انهزموا، ورب محمد. فما هو إلا أن رماهم، فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا» .
ولما انهزم المشركون أتوا الطائف، ومعهم مالك بن عوف. وعسكر بعضهم بأوطاس. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر من توجه نحو أوطاس أبا عامر الأشعري، فأدرك بعضهم فناوشوه القتال، فهزمهم الله تعالى. وقتل أبو عامر. فأخذ الراية أبو موسى الأشعري. فلما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اغفر لأبي عامر. واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك» .
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبي والغنائم أن يجمع. وكان السبي ستة آلاف رأس، والإبل: أربعة وعشرين ألفا، والغنم أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة.
_________
(1) هي الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان.
فاستأنى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدموا موالين مسلمين، بضعة عشر ليلة. ثم بدأ بالأموال فقسمها: وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان مائة من الإبل. وأربعين أوقية. وأعطى ابنه يزيد مثل ذلك. وأعطى ابنه معاوية مثل ذلك. وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل. ثم سأله مائة أخرى فأعطاه.
وذكر ابن إسحاق أصحاب المائة وأصحاب الخمسين.
ثم أمر زيد ثابت بإحصاء الغنائم والناس، ثم فضها على الناس.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجدت الأنصار في أنفسهم. حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه. فدخل عليه سعد بن عبادة، فذكر له ذلك. فقال: " فأين أنت من ذلك يا سعد؟ " قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: " فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة " فجاء رجال من المهاجرين. فتركهم فدخلوا. وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا، أتاه سعد فأخبره. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: " يا معشر الأنصار، ما مقالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا. فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي» ؟ ".
قالوا الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار» ؟ ".
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ ولله ولرسوله المن والفضل.
قال: «أما والله، لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم لعاعة (1) من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار: أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار. ولو سلك الناس شعبا وواديا، وسلكت الأنصار شعبا وواديا، لسلكت شعب الأنصار وواديها. الأنصار شعار. والناس دثار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» .
قال: فبكى القوم، حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا.
وقدمت الشيماء بنت الحارث - أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة - فقالت: يا رسول الله، أنا أختك، فبسط لها رداءه. وأجلسها عليه. وقال: «إن أحببت فعندي مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك» فقالت: بل تمتعني، وتردني إلى قومي. ففعل وأسلمت. فأعطاها ثلاثة أعبد وجارية ونعماء وشاء.
[المن على سبي هوازن]