لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة على ما هو الصحيح جاء سيل حتى أتى من فوق الردم الذي صنعوه لمنعه السيل فأخربه: أي ودخلها وصدّع جدرانها بعد توهينها من الحريق الذي أصابها.
وذلك أن امرأة بخرتها فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها، فخافوا أن تفسدها السيول: أي تذهبها بالمرة. وقيل تبخير المرأة كان لها في زمن
عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما. ولا مانع من التعدد، وكان ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لها سقف: أي وكان الناس يلقون الحليّ والمتاع كالطيب أي الذي يهدى إليها في بئر داخلها عند بابها على يمين الداخل منه أعدت لذلك، يقال لها خزانة الكعبة كما سيأتي ذلك. فأراد شخص في أيام جرهم أن يسرق من ذلك شيئا فوقع على رأسه وانهار البئر عليه فهلك.
وفي كلام بعضهم: فسقط عليه حجر فحبسه في تلك البئر حتى أخرج منها وانتزع المال منه، فليتأمل الجمع.
وقد يقال على بعد: جاز أن يكون هذا الرجل تكرر منه السرقة، وكان هلاكه في المرة الثانية، فعند ذلك بعث الله حية بيضاء سوداء الرأس والذنب رأسها كرأس الجدي، فأسكنها تلك البئر لحفظ تلك الأمتعة، وكانت قد تخرج منها إلى ظاهر البيت فتشرق بالقاف أي تبرز للشمس على جدار الكعبة، فيبرق لونها، وربما التفت عليه فتصير رأسها عند ذنبها، فلا يدنو منها أحد إلا كشت: أي صوّتت وفتحت فاها معطوف على كشت.
ففي حياة الحيوان قال الجوهري: كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فيها، فحرست بئره وخزانة البيت خمسمائة عام، لا يقربه أحد: أي لا يقرب بئره وخزانته إلا أهلكته: أي ولعل المراد لو قرب منه أحد أهلكته، إذ لو هلكت أحدا قرب من تلك البئر لنقل، فلم تزل كذلك حتى كان زمن قريش ووجد هذا السيل والحريق، أرادوا هدمها وإعادة بنائها، وأن يشيدوا بنيانها: أي يرفعوه ويرفعوا بابها، حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا واجتمعت القبائل من قريش تجمع الحجارة كل قبيلة تجمع على حدة، وأعدوا لذلك نفقة أي طيبة، ليس فيها مهر بغيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس أي بعد أن قام أبو وهب عمرو بن عابد، فتناول منها حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، الحديث: أي وفي لفظ أنه قال لهم: لا تدخلوا في نفقة هذا البيت مهر بغيّ: أي زانية ولا بيع ربا وفي لفظ: لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئا أصبتموه غصبا ولا قطعتم فيه رحما، ولا انتهكتم فيه حرمة أو ذمة بينكم وبين أحد من الناس. وأبو وهب هذا خال عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شريفا في قومه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة.
روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس رضي الله تعالى عنه ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة: أي كبقية القوم، فإنهم كانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل صلى الله عليه وسلم فخرّ إلى الأرض،
فطمحت عيناه إلى السماء: أي وندوي: عورتك، فقال إزاري إزاري: أي شدوا عليّ إزاري، فشدّ عليه. وفي رواية: سقط فغشي عليه، فضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء أن شد عليك إزارك، وهذا يبعد ما جاء في رواية قال له العباس أي بعد أن أمر بستر عورته وسترها: يا ابن أخي اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابني ما أصابني إلا من التعرّي.
وفي رواية: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته، فنودي يا محمد خمر عورتك: أي غطها، فلم ير عريانا أي مكشوف العورة بعد ذلك.
أي وقد يقال: هذا لا يخالف ما تقدم عن العباس رضي الله تعالى عنه، لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر من العباس حينئذ، وغايته أنه سمى النمرة إزارا له.
قال: واستبعد بعض الحفاظ ذلك: أي وقوع هذا مع ما تقدم من نهيه عن ذلك: أي الذي تضمنه الأمر بالستر عند إصلاح عمه أبي طالب لزمزم قبل هذا، قال لأنه صلى الله عليه وسلم إذا نهي عن شيء مرة لا يعود إليه ثانيا بوجه من الوجوه اهـ: أي وقد عاد إلى ذلك.
أقول: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يفهم أن أمره بستر عورته أولا عزيمة، بل جواز الترك، وفي الثانية علم أنه عزيمة.
لا يقال: تقدم «من كرامتي على ربي أن أحدا لم ير عورتي» وتقدم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
ففي الخصائص الصغرى «أنه صلى الله عليه وسلم لم تر عورته قط، ولو رآها أحد طمست عيناه» لأنه لا يلزم من كشف عورته صلى الله عليه وسلم رؤيتها كما لم يلزم من حضانته وتربيته ومجامعة زوجاته ذلك. فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «ما رأيت منه، صلى الله عليه وسلم» والظاهر أن بقية زوجاته كذلك، والله أعلم.
ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر: أي خوف من أن يمنعهم الله تعالى ما أرادوا: أي بأن يوقع بهم البلاء قبل ذلك، سيما وقد شاهدوا ما وقع لعمرو بن عائذ.
أي قال: وعند ابن إسحق أن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه أي خافوا من أنه يحصل لهم بسببه بلاء، فقال الوليد بن المغيرة لهم، أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل نريد الإصلاح، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، قالوا من الذي يعلوها فيهدمها، قال أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع أي بالراء والعين المهملتين، والضمير في ترع للكعبة: أي لا تفزع الكعبة لا نريد إلا الخير: أي وفي رواية لم نزغ بالنون والزاي
المعجمة: أي لمن نحل عن دينك ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء هدمناها فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة: أي أسنمة الإبل. وفي لفظ كالأسنة.
قال السهيلي: وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحق، هذا كلامه: أي وقد يقال: هي كالأسنة في الخضرة وكالأسمنة في العظم.
لا يقال: الأسنة زرق. لأنا نقول شديد الزرقة يرى أخضر، أخذ بعضها ببعض، فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منهما ليقلع بها بعضها فلما تحرك الحجر تنفضت مكة: أي تحركت بأسرها، وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل، فانتهوا عن ذلك الأساس. ووجدت قريش في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا يزول أخشباها أي جبلاها، وهما أبو قبيس وهو جبل مشرف على الصفا. وقعيقعان: وهو جبل مشرف على مكة وجهه إلى أبي قبيس يبارك لأهلها في الماء واللبن، ووجدوا في المقام: أي محله، كتابا آخر مكتوب فيه: مكة بلد الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاث سبل. ووجدوا كتابا آخر مكتوب فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة: أي ما يغبط أي يحسد حسدا محمودا عليه، ومن يزرع شرا يحصد ندامة: أي ما يندم عليه. تعملون السيئات، وتجزون الحسنات، أجل: أي نعم، كما يجنى من الشوك العنب أي الثمر.
أي وفي السيرة الشامية أن ذلك وجد مكتوبا في حجر في الكعبة. وفي كلام بعضهم: وجدوا حجرا فيه ثلاثة أسطر: الأول أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر إلى آخره. وفي الثاني: أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته. وفي الثالث: أنا الله ذو بكة خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه. قال ابن المحدث: ورأيت في مجموع أنه وجد بها حجر مكتوب عليه: أنا الله ذو بكة، مفقر الزناة، ومعري تارك الصلاة، أرخصها والأقوات فارغة، وأغليها والأقوات ملآنة: أي فارغ محلها وملآن محلها، هذا كلامه.
وقد يقال: لا مانع من أن يكون ذلك حجرا آخر، أو يكون هو ذلك الحجر، وما ذكر مكتوب في محل آخر منه: أي وفي الإصابة عن الأسود بن عبد يغوث عن أبيه أنهم وجدوا كتابا بأسفل المقام، فدعت قريش رجلا من حمير، فقال: إن فيه
لحرفا لو حدثتكموه لقتلتموني قال: وظننا أن فيه ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فكتمناه، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى ساحل جدة: أي الذي به جدة الآن، وكان ساحل مكة قبل ذلك الذي يرمي به السفن يقال له الشعيبية بضم الشين، فلا يخالف قول غير واحد، فلما كانت السفينة بالشعيبية ساحل مكة انكسرت. وفي لفظ حبسها الريح، وتلك السفينة كانت لرجل من تجار الروم اسمه باقوم وكان بانيا.
وقيل كانت تلك السفينة لقيصر ملك الروم يحمل له فيها الرخام والخشب والحديد، سرحها مع باقوم إلى الكنيسة التي حرقها الفرس بالحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة، وقيل من الشعيبية بعث الله تعالى عليها ريحا فحطمها: أي كسرها.
فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها، فأعدوه لسقف الكعبة. وقيل هابوا هدمها من أجل تلك الحية العظيمة، فكانوا كلما أرادوا القرب منه أي البيت ليهدموه بدت لهم تلك الحية فاتحة فاها، فبينا هي ذات يوم تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله طائرا أعظم من النسر، فاختطفها وألقاها في الحجون فالتقمتها الأرض، قيل وهي الدابة التي تكلم الناس يوم القيامة.
وقد جاء أن الدابة تخرج من شعب أجياد.
وفي حديث «أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يريه الدابة التي تكلم الناس فأخرجها له من الأرض، فرأى منظرا هاله وأفزعه، فقال: أي رب ردها فردها» .
فقالت قريش عند ذلك: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا: أي بعد أن اجتمعوا عند المقام، وعجوا إلى الله تعالى: ربنا لن نراع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك فأتمه واشغل عنا هذا الثعبان يعنون الحية، وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا في السماء صوتا ووجبة وإذا بالطائر المذكور أخذها وذهب بها إلى أجياد، فقالوا ما ذكر، وقالوا: عندنا عامل رفيق وعندنا أخشاب، وقد كفانا الله الحية وذلك العامل هو باقوم الرومي الذي كان بالسفينة وكان بانيا كما تقدم، فإنهم جاؤوا به معهم إلى مكة، أو هو باقوم مولى سعيد بن العاص وكان نجارا، وتلك الأخشاب هي التي اشتروها من تلك السفينة التي كسرت.
أقول: ومع أخذ الطائر لتلك الحية يجوز أن يقال هابوا هدمها حتى قدم عليه الوليد بن المغيرة، فلا مخالفة بين ما تقدم عن ابن إسحق وبين هذا الظاهر في أنهم هدموها عند أخذ الطائر لتلك الحية ولم يهابوا هدمها حتى فعل الوليد ما تقدم، والله أعلم.
أي ثم لما أرادوا بنيانها تجزأتها قريش: أي بعد أن أشار عليهم بذلك أو وهب
عمرو بن عائذ، فقال لهم: إني أرى أن تقسموا أربعة أرباع، فكان شق الباب لعبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم ابني عمرو، وكان شق الحجر أي الجانب الذي فيه الحجر الآن لبني عبد الدار ولبني أسد ولبني عدي.
والذي في كلام المقريزي: كان لبني عبد مناف ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر أي وهو شق الباب، وصار لأسد وعبد الدار وزهرة الحجر كله: أي الجانب الذي فيه الحجر وصار لمخزوم دبر البيت، وصار لسائر قريش ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود هذا كلامه فليتأمل.
وفي كلام بعضهم: وسمي الركن اليماني باليماني، لأن رجلا من اليمن بناه وكان الباني لها باقوم النجار: أي الذي هو مولى سعيد بن العاص.
أقول: وكان المناسب أن يكون الذي بناها باقوم الرومي الذي كان صحبة السفينة التي كسرت، لأنه كما تقدم كان بانيا، وسيأتي التصريح بذلك. وأما باقوم مولى سعيد بن العاص فتقدم أنه كان نجارا، إلا أن يقال باقوم مولى سعيد كان نجارا بناء، واشتهر بالوصف الأول، فكان الباني لها. وفيه يحتمل أن يكون باقوم الرومي البناء كان نجارا، أيضا، واشتهر بالوصف الأول.
ثم رأيت في كلام بعضهم التصريح بذلك، فقال: وكان أي باقوم الرومي نجارا بناء. فقول القائل: وكان الباني لها باقوم النجار مراده باقوم الرومي لا مولى سعيد.
ثم رأيت في بعض الروايات ما يؤيد ذلك، وهو وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا. ونصها: فخرجت قريش لتأخذ خشبها: أي السفينة التي كسرت، فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا، فقدموا به وبالخشب. فقد دلت الروايتان على أنه موصوف بالوصفين. ويحتمل أن يكون أحدهما بناها والآخر عمل سقفها، أو أنهما اشتركا فيها لما علمت أن كلا منهما كان بانيا نجارا.
ثم رأيت عن ابن إسحق: وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم سقف الكعبة ويساعده باقوم، أي الرومي، فالقبطي هو مولى سعيد بن العاص. وحينئذ ففي هذه الرواية وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا كالرواية التي قبلها، وسيأتي في الرواية التي تلي هذه أنه الذي بناها. وهي في الإصابة اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم. وكان روميا، وكان في سفينة حبستها الريح فخرجت إليها قريش فأخذوا خشبها وقالوا له: ابنها على بنيان الكنائس، وإن باقوم الرومي أسلم ثم مات فلم يدع وارثا فدفع النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه لسهيل بن عمرو.
ثم لما بنوها جعلوها مدماكا من خشب الساج، ومدماكا من الحجارة من أسفلها إلى أعلاها، وزادوا فيها تسعة أذرع، فكان ارتفاعها ثمانية عشر ذراعا، ورفعوا بابها من الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج، وضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر، وفي لفظ: أخرجوا من عرضها أذرعا من الحجر وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من الكعبة.
ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدّوا للقتال، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي: أي تحالفوا على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، وقد تقدم في حلف المطيبين، ومكث النزاع بينهم أربع أو خمس ليال ثم اجتمعوا في المسجد الحرام. وكان أبو أمية بن المغيرة، واسمه حذيفة أسنّ قريش كلها يومئذ: أي وهو والد أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهو أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم، وكان يعرف بزاد الراكب، لأنه كان إذا سافر لا يتزود معه أحد، بل يكفي كل من سافر معه الزاد.
أي وذكر بعضهم أن أزواد الراكب من قريش ثلاثة: زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد مناف، قتل يوم بدر كافرا، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبو أمية ابن المغيرة وهو أشهرهم بذلك.
وفي كلام بعضهم: لا تعرف قريش زاد الراكب إلا أبا أمية بن المغيرة وحده، يحتمل أن المراد لا تكاد تعرف قريش غيره بهذا الوصف لشهرته فلا مخالفة، وأبو أمية هذا مات على دينه، ولعله لم يدرك الإسلام، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم: أي وهو باب بني شيبة، وكان يقال له في الجاهلية باب بني عبد شمس الذي يقال له الآن باب السلام. وفي لفظ أوّل من يدخل من باب الصفا: أي وهو المقابل لما بين الركنين اليماني والأسود ففعلوا أي وفي كلام البلاذري أن الذي أشار على قريش بأن يضع الركن أوّل من يدخل من باب بني شيبة مهشم بن المغيرة ويكنى أبنا حذيفة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون اسمه حذيفة، ويكنى بأبي حذيفة كما يكنى بأبي أمية ومهشم لقبه، وأن الراوي عنه اختلف كلامه، فتارة قيل عنه يقضي بينكم، وتارة قيل عنه يضع الركن، والمشهور الأول، ويدل له ما يأتي، فكان أول داخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا، هذا محمد: أي لأنهم كانوا يتحاكمون إليه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، لأنه كان لا يداري ولا يماري، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إليّ ثوبا فأتي به: أي وفي رواية: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاره وبسطه في الأرض أي ويقال إنه كساء أبيض من متاع الشام.
ويقال إن ذلك الثوب كان للوليد بن المغيرة، فأخذ صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود فوضعه فيه بيده الشريفة، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب: أي بزاوية من زواياه ثم ارفعوه جميعا ففعلوا، فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني زمعة، وكان في الربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، وكان في الربع الرابع قيس بن عدي، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم: أي ولما مات أبو أمية بن المغيرة رثاه أبو طالب بقصيدة طويلة، ورثاه أبو جحيفة بقوله:
ألا هلك الماجد الرافد ... وكل قريش له حامد
ومن هو عصمة أيتامنا ... وغيث إذا فقد الراعد
قال: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن:
أي الحجر ذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى الله عليه وسلم حجرا يشد به الركن، فقال العباس لا، وناول العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شدّ به الركن، فغضب النجدي وقال:
واعجبا لقوم أهل شرف وعقول وأموال عمدوا إلى رجل أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم كأنهم خدم له، أما والله ليفرقنهم شيعا، وليقسمنّ بينهم حظوظا، فكاد يثير شرا فيما بينهم، ولعل هذا النجدي هو إبليس.
فقد ذكر السهيلي أن إبليس تمثل في صورة شيخ نجدي حين حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الركن من يرفعه، وصاح: يا معشر قريش أرضيتهم أن يلي هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أنسابكم؟ انتهى.
وإنما تصوّر بصورة نجدي، لأن في الحديث، نجد طلع منها قرن الشيطان.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا وفي نجدنا، فأعاد الأول، والثاني قال: هناك الزلازل والفتن، وفيها يطلع قرن الشيطان» .
أقول: سيأتي أنه تصور بهذه الصورة أيضا عند دخول قريش دار الندوة ليتشاوروا في كيفية قتله صلى الله عليه وسلم ودخل معهم، وسيأتي. ثم في حكمة تصوره بذلك غير ما ذكر. ولا مانع أن يكونا حكمة لما هنا ولما يأتي.
وأعادوا الصور التي كانت في حيطانها، لأنه كان في حيطانها صور الأنبياء بأنواع الأصباغ، ومن جملتهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام: أي وإسمعيل وفي يده الأزلام، وصورة الملائكة وصورة مريم كما سيأتي في فتح مكة، وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل، ولم يكسها أحد بعد ذلك حتى كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرات في حجة الوداع، والله أعلم. وهذه المرة الرابعة أي من بناء الكعبة بناء على أن أول من بناها الملائكة.
ففي بعض الآثار أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض كان
عرشه على الماء أي العذب، فلما اضطرب العرش كتب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكن، فلما أراد أن يخلق السموات والأرض أرسل الريح على ذلك الماء فتموج فعلاه دخان، فخلق من ذلك الدخان السموات، ثم أزال ذلك الماء عن موضع الكعبة فيبس» وفي لفظ «أرسل على الماء ريحا هفافة فصفق الريح الماء» أي ضرب بعضه بعضا «فأبرز عنه خشفة» الحديث، وبسط الله سبحانه وتعالى من ذلك الموضع جميع الأرض طولها والعرض، فهي أصل الأرض وسرتها. وقد يخالفه ما في «أنس الجليل» كذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال:
وسط الدنيا بيت المقدس وأرفع الأرضين كلها إلى السماء بيت المقدس.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومعاذ بن جبل أنه أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا ثم بين ذلك في أنس الجليل.
ولما ماجت الأرض وضع عليها الجبال، فكان أول جبل وضع عليها أبو قبيس، وحينئذ كان ينبغي أن يسمى أبا الجبال، وأن يكون أفضلها مع أن أفضلها كما قال الجلال السيوطي استنباطا: أحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أحد يحبنا ونحبه» ولما ورد أنه على باب من أبواب الجنة، قال: ولأنه من جملة أرض المدينة التي هي أفضل البقاع: أي عنده تبعا لجمع، ولأنه مذكور في القرآن باسمه في قراءة من قرأ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [آل عمران: الآية 153] أي بضم الهمزة والحاء، ثم فتق الأرض فجعلها سبع أرضين. وقد جاء «بدأ الله خلق الأرض في يومين غير مدحوّة ثم خلق السموات فسواهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين» .
وبهذا يظهر التوقف في قول مغلطاي: إن لفظة بعد في قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النّازعات: الآية 30] بمعنى قبل، لأن خلق الأرض قبل خلق السماء، لما علمت أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوة، ثم بعد خلق السماء دحى الأرض.
ثم رأيت بعضهم سأل ابن عباس عن ذلك، حيث قال له: يا إمام اختلف عليّ من القرآن آيات، ثم ذكر منها أنه قال: قال الله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصّلت: الآية 9] . حتى بلغ- طائِعِينَ [فصّلت: الآية 11] ثم قال في الآية الأخرى: أَمِ السَّماءُ بَناها [النّازعات: الآية 27] ثم قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النّازعات: الآية 30] فأجابه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. أما قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصّلت: الآية 9] فإن الأرض خلقت قبل السماء، وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض. وأما قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النّازعات: الآية 30] يقول: جعل فيها جبلا، وجعل فيها نهرا، وجعل فيها شجرا، وجعل
فيها بحورا. وبه يرد قول بعضهم: خلق السماء قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار فليتأمل.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطّلاق: الآية 12] قال: سبع أرضين، وفي كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسكم، رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد. وقال البيهقي: إسناده صحيح لكنه شاذ بالمرة: أي لأنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف.
قال الحافظ السيوطي: ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر.
ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه هذا كلامه: أي وحينئذ كان لنبينا صلى الله عليه وسلم رسول من الجن اسمه كاسمه، ولعل المراد اسمه المشهور وهو محمد فليتأمل.
ولما خاطب الله السموات والأرض بقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصّلت: الاية 11] كان المجيب من الأرض موضع الكعبة، ومن السماء ما حاذاها، الذي هو محل البيت المعمور.
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه: لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف، وهي بيضاء منيرة لها شعاع عظيم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض بمكة. قال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا تلك الطينة: أي وقد ذكر الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: أتعرف يوم يوم؟ فقال أبو بكر نعم والذي بعثك بالحق نبيا، يا رسول الله سألتني عن يوم المقادير، يعني يوم- أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: الآية 172]- ولقد سمعتك تقول حينئذ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» وقد سئل الشيخ علي الخواص نفعنا الله تعالى ببركاته لم لم تتكلم الأنبياء بلسان الباطن الذي تكلم به الصوفية.
فأجاب بأنه إنما لم تتكلم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك لأجل عموم خطابهم للأمة، ولا يعتبر بالأصالة إلا فهم العامة دون فهم الخاصة إلا بعض تلويحات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للصديق رضي الله تعالى عنه: «أتعرف يوم يوم؟ فقال نعم يا رسول الله» الحديث، وتلك الطينة لما تموّج الماء رمى بها من مكة إلى محل تربته صلى الله عليه وسلم ومدفنه بالمدينة.
وبهذا يندفع ما يقال: مقتضى كون أصل طينته صلى الله عليه وسلم بمكة أن يكون مدفنه بها، لأن تربة الشخص تكون في محل مدفنه ثم عجنها بطينة آدم، ولعل هذه الطينة هي المعبر عنها بالنور في قوله صلى الله عليه وسلم وقد قال له جابر: «يا رسول الله أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا لوح ولا قلم» الحديث.
وجاء «أول ما خلق الله نوري» وفي رواية: «أول ما خلق الله العقل» قال الشيخ عليّ الخواص: ومعناهما واحد، لأن حقيقته صلى الله عليه وسلم يعبر عنها بالعقل الأول وتارة بالنور. فأرواح الأنبياء والأولياء مستمدة من روح محمد صلى الله عليه وسلم هذا كلامه، وهذا هو المعني بقول بعضهم: لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها.
وفيه أن هذا لا يناسبه قوله: «ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض» إذ كيف يأتي ذلك مع قول كعب الأحبار، أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض إلى آخره؟ ومع قول ابن عباس: أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض. إلا أن يقال إن ذلك النور بعد إيجاده أودع تلك الطينة التي هي قلب الأرض وسرتها.
وحينئذ لا يخالف ذلك ما جاء أن الله خلق آدم من طين العزة من نور محمد صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم الجنس العالي لجميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس.
هذا وقد جاء في حديث بعض رواته متروك الحديث «خلق الله آدم من تراب الجابية، وعجنه بماء الجنة» وجاء «خلق الله آدم من تربة دحنا ومسح ظهره بنعمان الأراك» ودحنا: محل قريب من الطائف، وتقدم أنه يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره وجعل نوره في ظهر آدم. ولما خلق الله آدم وقبل نفخ الروح فيه، استخرج ذلك النور من ظهره وأخذ عليه العهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: الآية 172] فقد خص بذلك عن بقية خلقه من بني آدم فإن بني آدم ما أخرجوا من ظهر آدم وأخذ عليهم الميثاق إلا بعد نفخ الروح في آدم.
ونقل بعضهم أن الله تعالى لما أخرج الذرية وأعاده في صلب آدم، أمسك روح عيسى إلى أن أتى وقت خلقه. ولا يخفى أن هذا يفيد أن أخذ العهد على الصديق كان بعد نفخ الروح في آدم، وأخذ العهد عليه صلى الله عليه وسلم كان سابقا على ذلك، وحينئذ فيكون المراد بقول الصديق حينئذ لما قال له صلى الله عليه وسلم: «أتعرف يوم يوم، وقال نعم» إلى قوله: «ولقد سمعتك تقول حينئذ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» أي حين أخذ العهد على بني آدم، لا حين أخذ العهد عليه صلى الله عليه وسلم كما قد يتبادر فليتأمل.
ثم لما نفخت الروح في آدم صار ذلك النور في ظهر آدم فصارت الملائكة
تقف صفوفا خلف آدم يتعجبون من ظهور ذلك النور، فقال آدم يا رب: ما بال هؤلاء ينظرون إلى ظهري؟ قال: ينظرون إلى نور محمد خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فسأل الله تعالى أن يجعله في مقدمه لتستقبله الملائكة، فجعله الله في جبهته، ثم سأل الله تعالى أن يجعله في محل يراه، فكان في سبابته، فلما أهبط آدم إلى الأرض، انتقل ذلك النور إلى ظهره، فكان يلمع في جبهته، وفي رواية: لما انتقل النور إلى سبابته قال: يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شيء؟ قال:
نعم، نور أخصاء أصحابه، فقال: يا رب اجعله في بقية أصابعي، فكان نور أبي بكر في الوسطى، ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر، ونور عليّ في الإبهام، فلما أكل من الشجرة عاد ذلك النور إلى ظهره كذا في بحر العلوم عن ابن عباس.
ثم انتقل ذلك النور من آدم إلى ولده شيث، ولما قال تعالى للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: الآية 30] وقالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: الآية 30] يعنون الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، غضب عليهم.
وفي لفظ: ظنت الملائكة: أي علمت أن ما قالوا ردا على ربهم، وأنه قد غضب عليهم من فوقهم، فلاذوا بالعرش وطافوا به سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضي عليهم.
وفي لفظ: فنظر الله إليهم، ونزلت الرحمة عليهم، فعند ذلك قال لهم ابنوا لي بيتا في الأرض يعوذ به من سخطت عليه من بني آدم: أي الذي هو الخليفة، فيطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم، فبنوا الكعبة.
وفي هذه الرواية اختصار، بدليل ما قيل: وضع الله تحت العرش البيت المعمور على أربع أساطين من زبرجد يغشاهن ياقوتة حمراء، وقال للملائكة: طوفوا بهذا البيت: أي لأرضى عنكم، ثم قال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض بمثاله وقدره:
أي ففعلوا، وقدره عطف تفسير على مثاله، فالمراد بالمثال القدر.
وفي لفظ لما قال تعالى للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: الآية 30] وقالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: الآية 30] الآية خافوا أن يكون الله تعالى عابها عليهم لاعتراضهم في علمه، فطافوا بالعرش سبعا يسترضون ربهم، ويتضرعون إليه، فأمرهم أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة، وأن يجعلوا طوافهم به فكان ذلك أهون عليهم من الطواف بالعرش، ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا، وفي كل أرض بيتا. قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتا متقابلة، لو سقط بيت منها لسقط على مقابله، والبيت المعمور في السماء السابعة، وله حرمة كحرمة مكة في الأرض، واسم البيت الذي في السماء الدنيا بيت العزة.
وفي كلام بعضهم: في كل سماء بيت تعمره الملائكة بالعبادة كما يعمر أهل
الأرض البيت العتيق بالحج في كل عام. والاعتمار في كل وقت، والطواف في كل أوان، ولينظر ما معنى بناء الملائكة للبيوت في السموات. وإذا لم يصح أن الملائكة بنت الكعبة تكون هذه المرة من بناء قريش هي المرة الثالثة، بناء على أنّ أول من بناها آدم صلى الله عليه وسلم أي أو ولده شيث، فقد قال بعضهم: ما تقدم من الأثرين الدالين على أن أول من بناها الملائكة لم يصح واحد منها، وكانت قبل ذلك: أي وكان محلها قبل بناء آدم، لها خيمة من ياقوتة حمراء، أنزلت لآدم من الجنة: أي لها بابان من زمرد أخضر شرقي، وباب غربي من ذهب، منظومان من در الجنة، فكان آدم يطوف بها ويأنس إليها. وقد حج إليها من الهند ماشيا أربعين حجة ويجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور وعبر عنها بحمراء لأن سقف البيت المعمور كان ياقوتة حمراء.
قال: وذكر أن آدم، لما أهبط إلى الأرض كان رجلاه بها، ورأسه في السماء.
وفي لفظ: كان رأسه يمسح السحاب فصلع، فأورث ولده الصلع أي بعض ولده، فسمع تسبيح الملائكة ودعاءهم، فاستأنس بذلك، فهابته الملائكة: أي صارت تنفر منه فشكا إلى الله تعالى، فنقص إلى ستين ذراعا بالذراع المتعارف. وقيل بذراع آدم، فلما فقد أصوات الملائكة حزن وشكا إلى الله تعالى، فقال: يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به: أي تطوف به الملائكة كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي: أي كان ذلك أي الطواف بالعرش والصلاة عنده شأن الملائكة أولا، فلا ينافي ما تقدم أنهم بعد ذلك صاروا يطوفون بالبيت المعمور كما تقدم، فاخرج إليه: أي طف به وصلّ عنده، وهذا البيت هو هذه الخيمة التي أنزلت لأجله. وقد علمت أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور.
وقيل أهبط آدم وطوله ستون ذراعا: أي على الصفة التي خلق عليها، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله تعالى آدم على صورته وطوله ستون ذراعا» أي أوجده الله تعالى على الهيئة التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشأة أحوالا، بل خلقه كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح، فالضمير في صورته يرجع لآدم، وعلى رجوعه إلى الحق سبحانه وتعالى المراد على صفته: أي حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما.
وقد يخالف هذا قول ابن خزيمة قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورته» فخرج على سبب، وهو «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يضرب وجه رجل فقال: لا تضربه على وجهه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته» أي صورة هذا الرجل، فهو ينتقل أطوارا. ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، ومن ثم عبر بقوله أوجده، وهذا القيل المتقدم من أنه أهبط آدم وطوله ستون ذراعا، يوافقه ما جاء في الحديث المرفوع،
«كان طوله ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا» ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: إنما روي أن آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء فحطه الله تعالى إلى ستين ذراعا: أي الذي تقدم ظاهر الخبر الصحيح يخالفه، وهو أنه خلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعا وهو الصحيح. وكان آدم أمرد. وفي الصحيحين «فكل من يدخل الجنة يكون على صورة آدم» وقد جاء في صفة أهل الجنة «جرد مرد على صورة آدم» .
وفي بعض الأخبار أن آدم لما كثر بكاؤه على فراق الجنة نبتت لحيته، ولم يصح ولم تنبت اللحية إلا لولده، وكان مهبطه بأرض الهند بجبل عال يراه البحريون من مسافة أيام، وفيه أثر قدم آدم مغموسة في الحجر، ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب، ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل قدمي آدم، وذروة هذا الجبل أقرب ذرا جبال الأرض إلى السماء، ولعل هذا وجه النظر الذي أبداه بعض الحفاظ في قول بعضهم: إن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. قال بعض الحفاظ: وفيه نظر.
قيل: ونزل معه من ورق الجنة فبثه هناك فمنه كان أصل الطيب بالهند.
وعن عطاء بن أبي رباح: إن آدم هبط بأرض الهند ومعه أربعة أعواد من الجنة، فهي هذه التي يتطيب الناس بها. وجاء أنه نزل بنخلة العجوة.
ثم لما أمر آدم بالخروج لتلك الخيمة خرج إليها ومدّ له في خطوه، قيل كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام. فقد قيل لمجاهد: هل كان آدم يركب؟ قال: وأي شيء كان يحمله، فو الله إن خطوته لمسيرة ثلاثة أيام.
وفيه أن هذا يقتضي أن آدم لم يكن يركب البراق، فقول بعضهم: إن الأنبياء كانت تركبه مراده مجموعهم لا جميعهم، وقيض الله تعالى له ما كان في الأرض من مخاض أو بحر، فلم يكن يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا، وصار بين كل خطوة مفازة حتى انتهى إلى مكة، فإذا خيمة في موضع الكعبة: أي الموضع الذي به الكعبة الآن، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة مجوفة: أي ولها أربعة أركان بيض، وفيها ثلاثة قناديل من ذهب، فيها نور يلتهب من نور الجنة، طولها ما بين السماء والأرض، كذا في بعض الروايات، ولعل وصف الخيمة بما ذكر لا ينافي ما تقدم أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور، ووصف بأنه ياقوتة حمراء، لأن سقفه كان ياقوتة حمراء، لأن التعدد بعيد فليتأمل، ونزل مع تلك الخيمة الركن وهو الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من أرض الجنة، وكان كرسيا لآدم يجلس عليه: أي ولعل المراد يجلس عليه في الجنة.
أقول: وهذا السياق يدل على أن آدم أهبط من الجنة إلى أرض الهند ابتداء.
وذكر في مثير الغرام عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الله تعالى أهبط آدم إلى موضع الكعبة، وهو مثل الفلك من شدة رعدته، ثم قال: يا آدم تخطّ فتخطى فإذا هو بأرض الهند، فمكث هنالك ما شاء الله، ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: حج يا آدم، فأقبل يتخطى فصار موضع كل قدم قرية، وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة» الحديث. والسياق المذكور أيضا يدل على أن الخيمة والحجر الأسود نزلا بعد خروج آدم من الجنة.
ويدل لكون الحجر الأسود نزل عليه ما في مثير الغرام «وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم فضمه إليه استئناسا به» هذا كلامه.
وفي رواية عنه «أنزل الركن والمقام مع آدم ليلة نزل آدم من الجنة، فلما أصبح رأى الركن والمقام فعرفهما فضمهما إليه وأنس بهما» فليتأمل الجمع.
وفي رواية أن آدم نزل بتلك الياقوتة: أي فعن كعب: أنزل الله من السماء ياقوتة مجوّفة مع آدم فقال له: يا آدم هذا بيتي أنزلته معك، يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ويصلى حوله كما يصلى حول عرشي: أي على ما تقدم، ونزل معه الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة، ثم وضع البيت: أي تلك الياقوتة عليها.
وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما.
وقد يقال في الجمع: يجوز أن تكون المعية ليست حقيقية، والمراد أنه نزل بعده قريبا من نزوله، فلقرب الزمن عبر بالمعية، فلا ينافي ما تقدم من قوله: «يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به فأخرج إليه» وجاء «إن آدم نزل من الجنة ومعه الحجر الأسود متأبطه» أي تحت إبطه، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة، ولولا أن الله تعالى طمس ضوءه ما استطاع أحد أن ينظر إليه» . وكون آدم نزل بالحجر الأسود متأبطا له يخالف الرواية المتقدمة أنه نزل مع تلك الخيمة التي هي الياقوتة بعد نزوله. وحينئذ يحتاج للجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما.
وأيضا يحتاج إلى الجمع بين ذلك وبين ما روي عن وهب بن منبه رحمه الله أن آدم لما أمره الله تعالى بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة: أي التي هي الحجر الأسود مسح بها دموعه، فلما نزل إلى الأرض لم يزل يبكي ويستغفر الله ويمسح دموعه بتلك الجوهرة حتى اسودت من دموعه، ثم لما بنى البيت أمره جبريل عليه الصلاة والسلام أن يجعل تلك الجوهرة في الركن ففعل.
وفي «بهجة الأنوار» أن الحجر الأسود كما في الابتداء ملكا صالحا. ولما خلق الله تعالى آدم أباح له الجنة كلها إلا الشجرة التي نهاه عنها، ثم جعل ذلك الملك
موكلا على آدم أن لا يأكل من تلك الشجرة، فلما قدّر الله تعالى أن آدم يأكل من تلك الشجرة غاب عنه ذلك الملك، فنظر الله تعالى إلى ذلك الملك بالهيبة فصار جوهرا. ألا ترى أنه جاء في الأحاديث «الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله يد ولسان وأذن وعين» لأنه كان في الابتداء ملكا.
أقول: ورأيت في ترجمة كلام الشيخ كمال الدين الأخميمي أنه لما جاور بمكة رأى الحجر الأسود وقد خرج من مكانه وصار له يدان ورجلان ووجه، ومشى ساعة ثم رجع إلى مكانه.
وقد جاء «أكثروا من استلام هذا الحجر، فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله عز وجل لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة» أي فقد جاء «ليس في الأرض من الجنة إلا الحجر الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة، ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى» وجاء «استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع» وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة، والله أعلم.
وجاء «أن آدم أتى ذلك، أي تلك الخيمة: أي التي هي البيت المعمور على ما تقدم ألف مرة من الهند ماشيا من ذلك ثلاثمائة حجة وسبعمائة عمرة، وأول حجة حجها جاءه جبريل وهو واقف بعرفة فقال له: يا آدم برّ نسكك، أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة. وفي رواية: لما حج آدم استقبلته الملائكة بالردم: أي ردم بين جمح الذي هو محل المدعي، فقالوا: بر حجك يا آدم، قد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام.
أقول: وفي تاريخ مكة للأزرقي أن آدم عليه الصلاة والسلام حج على رجليه سبعين حجة ماشيا، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. والمأزمان: موضع بين عرفة والمزدلفة. قال الطبري: ودون مني أيضا مأزمان، والله أعلم بالمراد منهما هذا كلامه. وجاء «أنه وجد الملائكة بذي طوى وقالوا له: يا آدم ما زلنا ننتظرك ههنا منذ ألفي سنة» وكان بعد ذلك إذا وصل إلى المحل المذكور خلع نعليه، ويحتاج للجمع بين كون الملائكة استقبلته بالردم، وكونها لقيته بالمأزمين، وكونه وجدهم بذي طوي، وبين كونهم حجوا البيت قبله بألف عام، وكونهم حجوا قبله بألفي عام، وبخمسين ألف عام، وهل الملائكة خلقوا دفعة واحدة أم خلقوا جيلا بعد جيل.
ومما يدل على أنهم جيلا بعد جيل ما جاء من نحو «من قال سبحان الله وبحمده، خلق الله ملكا له عينان وجناحان وشفتان ولسان يطير مع الملائكة ويستغفر لقائلها إلى يوم القيامة» وما جاء «إن جبريل في كل غداة يدخل بحر النور فينغمس
فيه» الحديث، لكن في «سفر السعادة» الحديث المنسوب إلى أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:
«يأمر الله تعالى جبريل كل غداة أن يدخل بحر النور ينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله عز وجل من كل قطرة منها ملكا» له