هذا، ولما تمّت بيعة الرجال بايعه النساء، وكن يبايعن على ألّا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصين الرسول في معروف «1» .
ثم أمر عليه السلام بلالا أن يؤذّن على ظهر الكعبة، وهذا بدء ظهور الإسلام على ظهر البيت الكريم، فلا عجب أن اتّخذ المسلمون هذا اليوم عيدا يحمدون فيه الله حقّ حمده على هذه النعمة الكبرى والنصر العظيم، وأقام عليه الصلاة والسلام بمكّة بعد فتحها تسعة عشر يوما كل يوم يقصر فيها الصلاة، وولّى عليها عتّاب بن أسيد «2» وجعل رزقه كل يوم درهما فكان عتاب رضي الله عنه يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم كلّ يوم.
هدم العزّى
وفي الخامس من مقامه عليه الصلاة والسلام بمكّة أرسل خالد بن الوليد في ثلاثين فارسا لهدم هيكل العزى وهي أكبر صنم لقريش وكان هيكلها ببطن نخلة، فتوجّه إليها خالد وهدمها.
,
إذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه، وأزال موانعه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه لا تذلّ العرب حتى تذل قريش، ولا تنقاد البلاد حتى تنقاد مكّة، فكان يتشوف لفتحها، ولكن كان يمنعه من ذلك العهود التي أعطاها قريشا في الحديبية، وهو سيد من وفّى. ولكن إذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه، فقد علمت أن قبيلة خزاعة دخلت في عهد رسول الله، وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت «2» نارها بظهور الإسلام، فلمّا حصلت الهدنة، وقف رجل من بني بكر «3» يتغنّى بهجاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على مسمع من رجل خزاعي، فقام هذا وضربه فحرّك ذلك كامن الأحقاد، وتذكّر بنو بكر ثأرهم فشدّوا العزيمة لحرب خصومهم، واستعانوا بأوليائهم من قريش، فأعانوهم سرا بالعدّة والرجال، ثم توجّهوا إلى خزاعة وهم امنون، فقتلوا منهم ما يربو على العشرين، ولما رأى ذلك حلفاء السيد الأمين أرسلوا منهم وفدا برياسة عمرو بن سالم الخزاعي «4» ليخبر
__________
(1) ابن دليم الأنصاري الخزرجي (تقدم نسبه في ترجمة والده) . كان قيس ضخما حسنا طويلا سخيا كريما داهية حامل راية الأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من ذوي الرأي من الناس، شهد فتح مصر، وكان من النبي صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، وقد خدم النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، وكان شريف قومه غير مدافع، وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشاهد، وصحب قيس عليا وشهد معه مشاهده ثم كان مع الحسين بن علي حتى صالح معاوية، فرجع قيس إلى المدينة وأقام بها، مات في اخر خلافة معاوية بالمدينة.
(2) اختفت.
(3) هو نوفل بن معاوية الديلي.
(4) هو عمرو بن سالم بن كلثوم الخزاعي وكان أحد من يحمل ألوية خزاعة يوم الفتح.
رسول الله بما فعل بهم بنو بكر وقريش، فلمّا حلّوا بين يديه، وأخبروه قال: والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه، أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا، وأرادوا مداواة هذا الجرح، فأرسلوا قائدهم أبا سفيان بن حرب إلى المدينة ليشدّ العقد «1» ويزيد في المدة، فركب راحلته- وهو يظن أنه لم يسبقه أحد، حتى إذا جاء المدينة، نزل على أمّ المؤمنين أم حبيبة بنته، وقد أراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته عنه، فقال يا بنيّة:
أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟ فقالت: ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله وأنت مشرك نجس، فقال: لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج من عندها، وأتى النبي في المسجد، وعرض عليه ما جاء له فقال له عليه الصلاة والسلام: هل كان من حدث؟ قال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: فنحن على مدتنا وصلحنا، ولم يزد عن ذلك. فقام أبو سفيان ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده، فلم يجد منهم معينا وكلهم قالوا: جوارنا في جوار رسول الله فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئا، فاتهموه بأنه خانهم واتّبع الإسلام، فتنسّك عند الأوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة.
أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتجهّز للسفر، وأمر أصحابه بذلك، وأخبر الصدّيق بالوجهة فقال له: يا رسول الله أوليس بينك وبين قريش عهد؟ قال: نعم ولكن غدروا ونقضوا. ثم استنفر عليه الصلاة والسلام الأعراب الذين حول المدينة، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليحضر رمضان بالمدينة» ، فقدم جمع من قبائل أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهنية، وطوى عليه الصلاة والسلام الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر، فتعلّم قريش فتستعد للحرب، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يقيم حربا بمكّة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بحرمتها، فدعا مولاه جلّ ذكره وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها «2» في بلادها» فقام حاطب بن أبي بلتعة أحد الذين شهدوا بدرا، وكتب كتابا لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على جعل، فأعلم الله رسوله ذلك، فأرسل في أثرها عليا والزبير والمقداد وقال:
__________
(1) أي ليجدد العهد.
(2) أي نفاجئها.
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ «1» ، فإن بها ظعينة «2» معها كتاب فخذوه منها، فانطلقوا حتى أتوا الروضة، فوجدوا بها المرأة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب! فقالوا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، فأخرجته من عقاصها «3» ، فأتوا به رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: يا حاطب ما هذا؟
قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت حليفا لقريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: أما أنه قد صدقكم، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرا وما يدر بك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدرا، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم «4» ، وفي ذلك أنزل الله سورة الممتحنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «5» ثم سار عليه الصلاة والسلام بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة ابن أم مكتوم «6» وكانت عدّة الجيش عدّة الجيش عشرة الاف مجاهد، ولما وصل الأبواء لقيه اثنان كانا من أشدّ أعدائه: وهما ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شقيق عبيدة بن الحارث شهيد بدر، وصهره عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة «7» شقيق زوجه أم سلمة وكانا يريدان الإسلام فقبلهما عليه الصلاة والسلام وفرح بهما شديد الفرح
__________
(1) قال السهيلي وكان هشيم يرويه حاج (بالحاء والجيم) وهو مما حفظ من تصحيف هشيم على أن البخاري، قد ذكر عن أبي عوانة أيضا أنه قال فيه: حاج لما قيل عن هشيم.
(2) المرأة في الهودج.
(3) أي ضفيرتها.
(4) هكذا أورد ابن اسحاق هذه القصة مرسلة. وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجّه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار إليكم واحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده. وقد رواه البخاري وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه وقال الترمذي: حسن صحيح. فدل على أن من فعل مثل فعله، وليس بيدري أنه يقتل.
(5) اية رقم 1.
(6) ذكر ابن كثير أنه ولى على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري.
(7) هو أخو أم سلمة لأبيها، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وهو عامر بن قيس الفراسي، واسم أبي أمية حذيفة.
وقال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «1» ولمّا وصل عليه الصلاة والسلام الكديد «2» رأى أن الصوم شق على المسلمين، فأمرهم بالفطر، وأفطر هو أيضا، وقد قابل عليه الصلاة والسلام في الطريق عمه العباس ابن عبد المطلب مهاجرا بأهله وعياله، فأمره أن يعود معه إلى مكّة ويرسل عياله إلى المدينة.
ولمّا وصل عليه الصلاة والسلام مرّ الظهران أمر بإيقاد عشرة الاف نار، وكانت قريش قد بلغهم أن محمّدا زاحف بجيش عظيم لا تدري وجهته، فأرسلوا أبا سفيان بن حرب «3» وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مرّ الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه لكأنها نيران عرفة! فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو «4» ، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فراهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله، فأسلم أبو سفيان، فلمّا سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الخيل «5» ، حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، وهو يسأل، ويقول مالي ولها، حتى إذا مرّت به قبيلة الأنصار وحامل رايتها سعد بن عبادة فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة «6» ، اليوم تستحلّ الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس حبّذا يوم الذّمار «7» ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب «8» فيها رسول الله وأصحابه، وحامل الراية الزبير بن العوّام، فأخبر أبو سفيان رسول الله بمقالة سعد، فقال عليه الصلاة والسلام كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه
__________
(1) سورة يوسف اية 92.
(2) هو ما بين الحرمين.
(3) كان أبو سفيان رضيع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرضعتهما حليمة، وكان الف الناس له قبل النبوة لا يفارقه، فلما نبئ كان أبعد الناس عنه. وأهجاهم له إلى أن أسلم، فكان أصح الناس إيمانا، وألزمهم له صلّى الله عليه وسلّم، ومات أبو سفيان في خلافة عمر رضي الله عنه، وقال عند موته: لا تبكنّ عليّ. فإني لم أنتطق بخطيئة منذ أسلمت.
(4) يعني خزاعة.
(5) هو المكان الناتىء منه في الطريق، ليتمكن من رؤية الجيش كله.
(6) أي يوم حرب.
(7) ما يلزم حفظه وحمايته. ومراده استعطاف العباس ليحميه من القتل.
(8) لأن عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم من القبائل.
الكعبة «1» ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن تركز رايته بالحجون «2» وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكّة من كديّ «3» ودخل هو من أعلاها من كداء، ونادى مناديه: من دخل داره وأغلق بابه فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو امن «4» ، وهذه أعظم منّة له، واستثنى من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم، واذوا الإسلام وأهله عظيم الأذى، فأهدر دمهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي أسلم وكتب لرسول الله الوحي ثم ارتدّ، وافترى الكذب على الأمين المأمون، فكان يقول: إن محمّدا كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور رحيم، فيقول: كل جيد،! ومنهم عكرمة ابن أبي جهل وصفوان بن أمية، وهبار بن الأسود، والحارث بن هشام، وزهير بن أمية وكعب بن زهير «5» ووحشي قاتل حمزة، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان وقليل غيرهم، ونهى عن قتل واحد سوى هؤلاء إلّا من قاتل، فأما جيش خالد بن الوليد فقابله الذعر من قريش يريدون صدّه، فقاتلهم وقتل منهم أربعة وعشرين، وقتل من جيشه اثنان، ودخلها عنوة من هذه الجهة، وأما جيش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يصادف مانعا، وهو عليه الصلاة والسلام راكب راحلته منحن على الرحل، تواضعا لله، وشكرا له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تمسّ الرحل، وأسامة بن زيد رديفه، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل إلى الحجون موضع رايته، وقد نصبت له هناك قبة فيها أمّ سلمة وميمونة، فاستراح قليلا، ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه، وهو يقرأ سورة الفتح حتى بلغ البيت، وطاف سبعا على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه، وكان حول الكعبة إذ ذاك ثلاثمائه وستون صنما، فجعل عليه الصلاة والسلام يطعنها بعود في يده، ويقول:
__________
(1) هذا ما ذكره في صحيح البخاري، وذكر ابن اسحاق أن ذلك عند الدخول والذي نرجحه ما في الصحيح.
(2) جبل بمعلاة مكة (المؤلف) وهو موضع بقرب مقبرة مكة.
(3) كدى كقوى جبل مسفلة مكة على طريق اليمن. وكداء كسحاب جبل بأعلى مكة، (المؤلف) . قال السهيلي وكدى من ناحية عرفة وفي البخاري أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ خالد أن يدخل من أعلى مكة من كداء.
(4) قطعة من حديث رواه مسلم.
(5) المزني الشاعر المشهور- صحابي معروف أهدر دمه صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، فبايع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسفر عن وجهه، فأنشده قصيدته المعروفة، فكساه النبي صلّى الله عليه وسلّم بردة له. كان كعب بن زهير شاعرا مجودا كثير الشعر مقدما في طبقته هو وأخوه بجير، وكعب أشعرهما.
جاء الحق وزهق الباطل وما يبدىء الباطل وما يعيد «1» ، ثم أمر بالالهة فأخرجت من البيت وفيها صورة اسماعيل وإبراهيم في أيديهما الأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قطّ!! وهذا أول يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة، وبطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب، باديها وحاضرها من هذه الأدناس سقطت عبادة الأوثان من جميع بلاد العرب إلّا قليلا. ويوشك أن نذكر للقارىء اختفاء اثارها ومحو عبادتها بالكلية.
,
ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل الكعبة وكبّر في نواحيها، ثم خرج إلى مقام إبراهيم، وصلّى فيه، ثم شرب من زمزم، وجلس في المسجد والناس حوله والعيون شاخصة إليه ينتظرون ما هو فاعل بمشركي قريش الذين اذوه، وأخرجوه من بلاده وقاتلوه، ولكن هنا تظهر مكارم الأخلاق التي يلزم أن يتعلّم منها المسلم، أن يكون رضاه وغضبه لله لا لهوى النفس، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم» ؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، ويرحم الله الإمام البوصيري حيث قال:
وإذا كان القطع والوصل لله ... تساوى التّقريب والإقصاء
وسواء عليه فيما أتاه ... من سواه الملام والإطراء
ولو أن انتقامه لهوى النف ... س لدامت قطيعة وجفاء
قام لله في الأمور فأرضى الله ... منه تباين ووفاء
فعله كله جميل وهل ينض ... ح إلّا بما حواه الإناء
ثم خطب عليه الصلاة والسلام خطبة أبان فيها كثيرا من الأحكام الإسلامية منها ألّا يقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملّتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، والبيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام إلّا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد الصبح والعصر، ولا يصام يوم الأضحى ويوم الفطر، ثم قال: «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالاباء، والناس من ادم وادم من تراب، ثم تلا هذه الاية
__________
(1) رواه الشيخان.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» ثم شرع الناس يبايعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام، وممن أسلم في هذا اليوم معاوية بن أبي سفيان وأبو قحافة «2» والد الصديق، وقد فرح الرسول كثيرا بإسلامه. وجاء رجل يرتعد خوفا فقال له عليه الصلاة والسلام:
«هوّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امراة من قريش كانت تأكل القديد» «3» .
أما الذين أهدر رسول الله دمهم فقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فمنهم من حقّت عليه كلمة العذاب فقتل، ومنهم من أدركته عناية الله فأسلم: فعبد الله بن سعد بن أبي سرح لجأ إلى أخيه من الرضاع عثمان بن عفّان، وطلب منه أن يستأمن له رسول الله، فغيّبه عثمان حتى هدأ الناس، ثم أتى به النبي وقال: يا رسول الله قد أمنّته فبايعه، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام مرارا ثم بايعه، فلمّا خرج عثمان وعبد الله قال عليه الصلاة والسلام، أعرضت عنه ليقوم إليه أحدكم فيضرب عنقه، فقالوا: هلّا أشرت إلينا؟ فقال: لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين «4» .
وأما عكرمة بن أبي جهل فهرب فخرجت وراءه زوجته وبنت عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت قد أسلمت قبل الفتح «5» ، وقد أخذت له أمانا من رسول الله فلحقته، وقد أراد أن يركب البحر «6» فقالت: جئتك من عند أبرّ الناس وخيرهم، لا تهلك نفسك، وإني قد استأمنته لك فرجع، ولما راه عليه الصلاة والسلام وثب قائما فرحا به، وقال: مرحبا بمن جاءنا مهاجرا مسلما، ثم أسلم رضي الله عنه، وطلب من رسول الله أن يستغفر له كل عداوة عاداه إياها فاستغفر
__________
(1) سورة الحجرات اية 13.
(2) اسمه عثمان بن عامر، ولم يعش له ولد ذكر إلا أبو بكر، ولا نعرف له بنت إلا أم فروة التي أنكحها أبو بكر بن الأشعث بن قيس، وكانت قبله تحت تميم الداري.
(3) رواه البيهقي عن ابن مسعود.
(4) ثم أسلم وحسن إسلامه وعرف فضله وجهاده، فكان على ميمنة عمرو العاص حين افتتح مصر، وهو الذي افتتح أفريقيا، واعتزل الفتنة، ودعا الله أن يقبضه إثر صلاة الفجر، فصلى الصبح، فقبضت نفسه بين التسليمتين، وكان وفاته بعسفان.
(5) الصواب عند الفتح.
(6) روى أبو داود والنسائي أنه ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف فنادى عكرمة اللات والعزى، فقال أهل السفينة: أخلصوا فالهتكم لا تغني عنكم شيئا ها هنا، فقال عكرمة والله لئن لم ينجني من البحر إلّا الإخلاص لا ينجني في البر غيره اللهم لك عهد إن أنت عافيتني بما أنا فيه أن اتي محمدا أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا غفورا كريما.
له، وكان رضى الله عنه بعد ذلك من خيرة المسلمين وأغيرهم على الإسلام «1» .
وأما هبار بن الأسود فهرب واختفى حتى إذا كان رسول الله بالجعرانة «2» جاءه مسلما، وقال: يا رسول الله هربت منك وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمّن جهل عليك، وكنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا من الهلكة فاصفح الصفح الجميل، فقال عليه الصلاة والسلام:
قد عفوت عنك.
وأما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزومي، فأجارتهما أم هانىء بنت أبي طالب، فأجاز عليه الصلاة والسلام جوارها، ولما قابل رسول الله الحارث بن هشام مسلما قال له الحمد الله الذي هداك ما كان مثلك يجهل الإسلام، وقد كان بعد ذلك من فضلاء الصحابة.
وأما صفوان بن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقي نفسه في البحر، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال: يا نبيّ الله إن صفوان سيد قومه، هرب ليقذف نفسه في البحر، فأمّنه فإنك قد أمّنت الأحمر والأسود، فقال عليه الصلاة والسلام: أدرك ابن عمك فهو امن، فقال: أعطني علامة فأعطاه عمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له: فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبرّ الناس وأحلم الناس وخير الناس، وهو ابن عمك، وعزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال صفوان: إني أخاف على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه العمامة علامة الأمان، فرجع إلى رسول الله وقال له: إن هذا يزعم أنك أمّنتني؟ قال: صدق، قال: أمهلني بالخيار فيه شهرين، قال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر، ثم أسلم رضي الله عنه وحسن إسلامه.
وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم أسلمت، وجاءت إلى رسول الله فرحب بها، وقالت له: والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم أهل خباء أحبّ إلي أن يعزوا من أهل خبائك «3» .
__________
(1) خرج إلى قتال أهل الردة، ووجهه أبو بكر إلى جيش النعمان فظهر عليهم، ثم إلى اليمن، ثم رجع فخرج إلى الجهاد عام وفاته فاستشهد في أجنادين.
(2) موضع بين مكة والطائف وبعضهم يضبطه بسكون العين وفتح الراء مخففة. (المؤلف) .
(3) بايعت النبي صلّى الله عليه وسلّم مع نسوة من قريش يبايعن على الإسلام رواه الشيخان والخباء: خيمة من وبر أو