بعد رجوع المسلمين من الحديبية في أواخر سنة ست وأمن الطريق من قريش
__________
جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، ورد الكتاب وأبو بصير يموت، فمات وكتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وصلّى عليه.
(1) تدعى سيف البحر قفي رواية معمر عن الزهري، أنه كان يصلي بأصحابه هنالك، حتى لحق بها أبو جندل بن سهيل فقدموه، لأنه قرشي، فلم يزل أصحابه يكثرون حتى بلغوا ثلاثمائة.
(2) ذكر ابن كثير في سيرته أنه من قول الزهري لعله يكون في الحادثة قولان متشابهان لأبي بكر والزهري والله أعلم.
كاتب عليه الصلاة والسلام ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام. واتّخذ إذ ذاك خاتما من فضة يختم به خطاباته وكان نقشه (محمّد رسول الله) فوجّه دحية الكلبي إلى قيصر ملك الروم، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليوصله إلى الملك.
,
وكان في الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك اثم الأريسيّين «1» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «2» .
,
ولما وصل هذا الكتاب قيصر قال: انظروا لنا من قومه أحدا نسأله عنه، وكان أبو سفيان بن حرب بالشام مع رجال من قريش في تجارة، فجاءت رسل قيصر لأبي سفيان ودعوه لمقابلة الملك فأجاب، ولما قدموا عليه في القدس قال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: أنا، لأنه لم يكن في الركب من بني عبد مناف غيره، فقال قيصر: أدن منّي، ثم أمر بأصحابه فجعلوا خلف ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه: إنما قدّمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وقد جعلتكم خلفه كيلا تخجلوا من ردّ كذبه عليه إذا كذب، ثم سأله كيف نسب هذا الرجل فيكم؟
قال: هو فينا ذو نسب. قال: هل تكلّم بهذا القول أحد منكم قبله؟ قال: لا، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال لا، قال: فهل كان من ابائه من ملك؟ قال: لا، قال: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، قال: فهل يزيدون أم ينقصون، قال: بل يزيدون، قال: هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه قال: لا. قال: هل يغدر إذا عاهد؟ قال: لا، ونحن الان منه
__________
(1) الفلاحين. (المؤلف) .
(2) سورة ال عمران 64.
في ذمة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال مرة لنا ومرة علينا، قال: فبم يأمركم؟ قال: يقول اعبدوا الله واحده ولا تشركوا به شيئا، وينهى عما كان يعبد اباؤنا ويأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.
فقال الملك: إني سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟
فزعمت أن لا، فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتمّ بقول قيل قبله، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقلت:
ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك هل كان من ابائه من ملك؟ فقلت: لا، فلو كان من ابائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون، فقلت: بل يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه؟ فقلت: لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وإن الحرب بينكم وبينه سجال، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك بماذا يأمر؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن: لا، وكذلك الرسل لا تغدر، فعلمت أنّه نبيّ، وقد علمت أنه مبعوث، ولم أظن أنه فيكم، وإن كان ما كلمتني به حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه «1» لتكلفت ذلك، قال أبو سفيان: فعلت أصوات الذين عنده وكثر لغطهم فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا، فلمّا خرج أبو سفيان مع أصحابه قال: لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني الأصفر «2» !
ولمّا سار قيصر إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له «3» ثم أمر بأبوابها فأغلقت ثم قال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا «4» حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها مغلقة،
__________
(1) أي أصل إليه.
(2) أي الروم.
(3) القصر الذي حوله بيوت.
(4) أي نفروا.
فلمّا رأى قيصر نفرتهم قال: ردّوهم عليّ، فقال لهم: إني قلت مقالتي اختبر بها شدّتكم على دينكم، فسكتوا له ورضوا عنه «1» ، فغلبه حبّ ملكه على الإسلام، فذهب بإثمه وإثم رعيته كما قال عليه الصلاة والسلام، ولكنه ردّ دحية ردّا جميلا.
,
وأرسل عليه الصلاة والسلام الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى فلمّا بلغ مؤتة- وهي قرية من عمل البلقاء بالشام- تعرّض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فقال له: أين تريد! قال: الشام، قال: لعلك من رسل محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، فأمر به فضربت عنقه، ولم يقتل لرسول الله عليه الصلاة والسلام رسول غيره وقد وجد «2» لذلك وجدا شديدا.
,
ووجه عليه الصلاة والسلام شجاع بن وهب «3» إلى أمير دمشق من قبل هرقل الحارث بن أبي شمر، وكان يقيم بغوطتها وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر سلام على من اتّبع الهدى وامن بالله وصدق وإني أدعوك أن تؤمن بالله واحده لا شريك له يبق ملكك» فلمّا قرأ الكتاب رمى به، وقال من ينزع ملكي منّي، واستعدّ ليرسل جيشا لحرب المسلمين، وقال لشجاع: أخبر صاحبك بما ترى، ثم أرسل إلى قيصر يستأذنه في ذلك، وصادف أن كان عنده دحية، فكتب قيصر إليه يثنيه عن هذا العزم، ويأمره أن يهيئ بإيليا «4» ما يلزم لزيارته، فإنه بعد أن قهر الفرس نذر زيارتها، فلمّا رأى الحارث كتاب قيصر صرف شجاع بن وهب بالحسنى ووصله بنفقة وكسوة.
,
ووجّه عليه الصلاة والسلام حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى المقوقس أمير
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) حزن
(3) أبو وهب وهو من السابقين الأولين وفيمن هاجر إلى الحبشة وفيمن شهد بدرا استشهد باليمامة.
(4) بيت المقدس.
(5) هو لقب واسمه جريج بن مينا بن قرقب ذكره ابن منده في الصحابة، أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسلم،
مصر من جهة قيصر وكان فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمّد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتّبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم القبط، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة الاية «1» فأوصله له حاطب بإسكندرية، فلمّا قرأه قال: ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده؟ فقال حاطب: ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله، فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه ألّا يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه؟: قال أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم «2» . ثم قال: إني قد نظرت في أمر هذا النبيّ فوجدت أنه لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضّال، ولا الكاهن الكذّاب، ووجدت معه الة النبوة «3» : اخراج الغائب المستور، والإخبار بالنجوى وسأنظر.
ثم كتب ردّ الجواب يقول فيه: «بسم الله الرجيم الرحيم لمحمّد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيّا قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط وبثياب، وأهديت إليك بغلة تركبها والسلام» وإحدى الجاريتين مارية التي تسرّى بها عليه الصلاة والسلام، وجاء منها بولده إبراهيم والاخرى أعطاها لحسان بن ثابت «4» ولم يسلم المقوقس.
كتاب النّجاشي
ووجّه عليه الصلاة والسلام عمرو بن أمية الضّمري بكتاب إلى النجاشي «5»
__________
وما زال نصرانيا، ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر.
(1) سورة ال عمران اية 64.
(2) البداية والنهاية ج 4 ص 273.
(3) علامة النبوة.
(4) مما أهدي غلام خصى اسمه «مابور» وحمار اسم عفيرا أو يعفور، وقد أسمى النبي البغلة دلدلا، وكانت فريدة ببياضها بين البغال التي عرفتها بلاد العرب.
(5) أصحمة بن أبجر النجاشي اسمه بالعربية عطية والنجاشي لقب له، أسلم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يهاجر إليه، وكان رداء للمسلمين نافعا، وقصته مشهورة في المغازي في إحسانه للمسلمين الذين هاجروا إليه
ملك الحبشة وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة سلام، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق ادم بيده، وإني أدعوك إلى الله واحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ، وقد بلّغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتّبع الهدى» ولما وصله الكتاب احترمه غاية الاحترام، وقال لعمرو: إني أعلم والله أن عيسى بشّر به، ولكن أعواني بالحبشة قليل فأنظرني حتى أكثّر الأعوان وأليّن القلوب. وقد عرض عمرو على من بقي من مهاجري الحبشة الرجوع إلى رسول الله بالمدينة، وكان من المهاجرين أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج عبيد الله بن جحش الذي كان أسلم وهاجر بها، ولكن قد غلبت عليه الشقاوة فتنصّر فتزوج عليه الصلاة والسلام أم حبيبة وهي بالحبشة، والذي زوّجها له النجاشي بتوكيل منه عليه الصلاة والسلام.
,
ووجّه عليه الصلاة والسلام عبد الله بن حذافة السهمي «1» بكتاب إلى كسرى ملك الفرس وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتّبع الهدى وامن بالله ورسوله وشهد ألااله إلّا الله واحده لا شريك له وأن محمّدا عبده ورسوله أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لا نذر من كان حيّا ويحقّ القول على الكافرين، أسلم تسلم فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس» فلمّا وصله الكتاب مزّقه استكبارا ولما بلغه عليه الصلاة والسلام ذلك قال «مزّق الله ملكه كل ممزّق» وقد فعل، فكانت مملكته أقرب الممالك سقوطا وقد بدأ هذا الشقي بالعدوان، فأرسل لعامله باليمن أن يوجّه إلى الرسول من يأتي به إليه فعاجله الله بقيام ابنه شيرويه عليه وقتله ثم
__________
في صدر الإسلام، وأخرج أصحاب الصحيح قصة صلاته صلّى الله عليه وسلّم عليه صلاة الغائب، وكان ذلك في رجب سنة تسع.
(1) أبو حذافة من السابقين الأولين، يقال شهد بدرا وفتح مصر. مات في خلافة عثمان.
أرسل لعامله في اليمن ينهاه عمّا أمره به أبوه.
,
ووجّه عليه الصلاة والسلام العلاء بن الحضرمي «2» بكتاب إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين يدعوه إلى الإسلام وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم أسلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد: فإن من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة الله وذمة الرسول، من أحب ذلك من المجوس فإنه امن، ومن أبى فإن عليه الجزية» فأسلم وكتب في ردّ الجواب: «أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحبّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إليّ في ذلك أمرك فكتب إليه عليه الصلاة والسلام «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو وأشهد ألاإله إلّا الله وأن محمّدا عبده ورسوله، أمّا بعد فإني أذكرك الله عزّ وجلّ فإنه من ينصح ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتّبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني شفّعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نغيرك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية» .
,
ووجّه عليه الصلاة والسلام عمرو بن العاص بكتاب إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام ولّيتكما، وإن أبيتما فإن
__________
(1) التميمي الدارمي. وكان أيضا عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم على هجر، ومات بالقرب من وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(2) استعمله النبي على البحرين، وأقره أبو بكر، ثم مات سنة 14 هـ يقال إنه مجاب الدعوة، وخاض البحر بطاعات قالها، وذلك مشهور في كتب الفتوح.
ملككما زائل، وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) .
فلمّا دخل بناديهما عمرو سأله عبد بن الجلندي عمّا يأمر به الرسول وينهى عنه، فقال: يأمر بطاعة الله عزّ وجلّ، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان والزنا وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب، فقال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمّد ونصدّق به، ولكن أخي أضن «1» بملكه من أن يدعه ويصير تابعا. قال عمرو: إن أسلم أخوك ملّكه رسول الله على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردّها على فقيرهم، فقال عبد: إن هذا لخلق حسن وما الصدقة؟ فأخبره بما فرض الله من الصدقات في الأموال. ولما ذكر المواشي قال: يا عمرو يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وتردّ المياه؟ قال نعم، فقال عبد: والله ما أرى قومي على بعد دارهم وكثرة عددهم يرضون بهذا.
ثم إن عبدا أوصل عمرا لأخيه جيفر فتكلّم معه عمرو بما ألان قلبه حتى أسلم هو وأخوه ومكّناه من الصدقات.
,
ووجّه عليه: الصلاة والسلام سليط بن عمرو العامري «2» بكتاب إلى هوذة بن علي ملك اليمامة وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى هوذة ابن علي. سلام على من اتّبع الهدى وأعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر «3» ، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» فلمّا جاء الكتاب كتب في رده: «ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر اتبعك» ولما بلغ ذلك رسول الله قال لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما في يديه «4» ، فلم يلبث أن مات منصرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم من فتح مكّة، وكان عليه الصلاة والسلام يولي على كل قوم قبلوا الإسلام كبيرهم.
__________
(1) أبخل.
(2) ذكره الواقدي وأبو معشر في البدريين وشهد اليمامة فاستشهد فيها.
(3) الخف: الإبل، والحافر: الخيل والبغال والمراد يصل إلى أقصى ما يصلان إليه، فيؤمنون به.
(4) أي هلك، وذهب عنه وتفرق ما في يديه.
,
,
بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمّد النبي رسول الله ليوحنا وأهل أيلة: سفنهم وسيارتهم في البرّ والبحر لهم ذمة الله ومحمّد النبي، ومن كان
__________
(1) رواه الشيخان. والحجر: هي ديار ثمود بين تبوك والحجاز. وقنع رأسه: ستره.
(2) أي العدل ولفظه «يوشك يا معاذ الله أن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا.
(3) رواه مسلم.
(4) بضم أوله وفتح الباقي- ابن رؤبة بضم الراء وسكون الهمزة وفتح الباء في اخره تاء ملك أيلة في القاموس.
(5) قرية في جنوب الشام (المؤلف) .
(6) مدينة تلقاء السراة (المؤلف) .
معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحوز ماله دون نفسه، وإنه لطيبة لمن أخذه من الناس وإنه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.
,
وكتب لأهل أذرح وجرباء كتابا صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمّد النبي لأهل أذرح وجرباء، إنهم امنون بأمان الله وأمان محمّد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل بالنصح والإحسان للمسلمين» وصالح أهل ميناء على ربع ثمارهم.
ثم إنّ الرسول استشار أصحابه في مجاوزة تبوك إلى ما هو أبعد منها من ديار الشام، فقال له عمر: إن كنت أمرت بالسير فسرّ. فقال عليه الصلاة والسلام: لو كنت أمرت بالسير لم أستشر، فقال: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بالشام أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا وقد أفزعهم دنوّك، فلو رجعنا في هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمرا، فتبع عليه الصلاة والسلام مشورته، وأمر بالقفول فرجع الجيش إلى المدينة.
مسجد الضّرار
ولمّا كان على مقربة منها «1» بلغه خبر مسجد الضّرار وهو مسجد أسسه جماعة من المنافقين «2» معارضة لمسجد قباء، ليفرقوا جماعة المسلمين. وجاء جماعة منهم إلى الرسول طالبين منه أن يصلّي لهم فيه، فسألهم عن سبب بنائه، فحلفوا بالله إن أردنا إلّا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون، فأمر عليه الصلاة والسلام جماعة من أصحابه «3» لينطلقوا إليه ويهدموه ففعلوا. هذا ولمّا استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة جاءه جماعات من الذين تخلّفوا يعتذرون كذبا. فقبل منهم عليه الصلاة والسلام علانيتهم، ووكل ضمائرهم إلى الله واستغفر لهم.
__________
(1) أي من المدينة بذي أوان، بينها وبين المدينة ساعة. وبلغه خبره من السماء.
(2) قال السهيلي ذكر منهم جارية بن عامر وابنه مجمّع بن جارية وخذام بن خالد وثعلبه بن حاطب، ومعتّب ابن قشير وبنتل بن الحارث.
(3) وهما مالك بن الدخشم ومعن بن عدي.
حديث الثلاثة الذين خلّفوا
وجاءه كعب بن مالك الخزرجي، ومرارة بن الرّبيع، وهلال بن أميّة الأوسيان مقرّين بذنوبهم، فلمّا دخل عليه كعب تبسّم تبسّم الغضب، وقال: ما خلّفك؟ فقال: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أوتيت جدلا «1» ، ولكني والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخط عليّ فيه، ولئن حدّثتك حديث صدق تغضب عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي من عذر. فقال عليه الصلاة والسلام: أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك. وقال صاحباه مثل قوله، فقال لهما عليه الصلاة والسلام كما قال لكعب، ونهى المسلمين عن كلامهم، فاجتنبهم الناس، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم، واستأذنت زوج هلال بن أمية في خدمة زوجها لأنه شيخ ضائع ليس له خادم فأذن لها، ولم يزالوا كذلك حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا ألا ملجأ من الله إلّا إليه، ثم تاب عليهم، فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام من يبشّرهم بهذه النّعمة الكبرى، فتلقاهم الناس أفواجا أفواجا يهنئونهم بتوبة الله. فلمّا دخل كعب المسجد تلقاه رسول الله مسرورا، فقال: أبشر يا كعب بخير يوم يمرّ عليك منذ ولدتك أمك، فقال: من عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله. فقال كعب: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. ثم قرأ عليه الصلاة والسلام الايات التي فيها توبته هو وصاحباه في سورة براءة وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «2» .
,
«بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله، إلى الحارث بن عبد كلال وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان. أما بعد: فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو، أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم «5» فلقيناه بالمدينة فبلّغ ما أرسلتم به، وخبّر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين،
__________
(1) سورة الصافات اية 1- 5
(2) سورة الإسراء اية 86.
(3) شنوءة: قبيلة، سميت لشنان بينهم، والشنان: البغض
(4) القيل واحد الأقيال، وهم الملوك الذين دون الملك الأكبر.
(5) أي عند رجوعه من غزوة تبوك.
وأنّ الله قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، واتيتم الزكاة، وأعطيتم من الغنائم خمس الله، وسهم النبي وصفيّه «1» وما كتب على المؤمنين من الصدقة. أما بعد: فإن محمّدا النبي أرسل إلى زرعة بن ذي يزن «2» إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيرا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرّة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي، وأن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلّا راضيا، أما بعد: فإن محمّدا يشهد ألاإله إلّا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرّة الرّهاوي قد حدّثني أنك أسلمت من أوّل حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير وامرك بحمير خيرا، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإنّ رسول الله هو مولى غنيّكم وفقيركم، وإنّ الصدقة لا تحلّ لمحمّد ولا لأهل بيته، إنما هي زكاة يزكّى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وأن مالكا قد بلّغ الخبر، وحفظ الغيب، وامركم به خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .