أوجب الله الصلاة على المسلمين ليكونوا دائما متذكرين عظمة العلي الأعلى، فيتبعون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ولذلك قال في محكم كتابه في سورة العنكبوت إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «2» . وجعل أفضل الصلاة ما كان جماعة ليذاكر المسلمون بعضهم بعضا في شؤونهم واحتياجاتهم، ويقووا روابط الألفة والاتّحاد بينهم، ومتى حان وقت الصلاة فلا بدّ من عمل ينبّه الغافل، ويذكر الساهي حتى يكون الاجتماع عاما، فائتمر «3» النبي عليه الصلاة والسلام مع الصحابة فيما يفعل لذلك، فقال بعضهم: نرفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فلم يرضوا ذلك لأنها لا تفيد النائم ولا الغافل، وقال الاخرون نشعل نارا على مرتفع من الهضاب فلم يقبل أيضا، وأشار اخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم- فكرهه رسول الله لأنه لم يكن يحب تقليد اليهود في عمل ما، وأشار بعضهم بالناقوس وهو ما يستعمله النصارى- فكرهه الرسول أيضا، وأشار بعضهم بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فقبل هذا الرأي، وكان أحد المنادين عبد الله بن زيد الانصاري «4» ، فبينما هو بين النائم واليقظان «5» إذ عرض له شخص وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال: بلى، فقال له: قل: الله أكبر الله أكبر مرتين، وتشهّد مرتين، ثم قل: حيّ على الصلاة مرتين ثم حيّ على الفلاح مرتين، ثم كبّر ربك مرتين، ثم قل: لا اله إلا الله فلمّا استيقظ توجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره خبر
__________
(1) يقول الذهبي في بلبل الروض: لم يبلغنا أنه عليه السلام بني له تسعة أبيات حين بنى المسجد، ولا أحسبه بعد ذلك. إنما كان يريد بيتا واحدا حينئذ لسودة أم المؤمنين، ثم لم يحتج إلى بيت اخر حتى بنى بعائشة في شوال سنة اثنتين، وكأنه عليه الصلاة والسلام بناها في أزمان مختلفة.
(2) اية 45.
(3) أي تشاور.
(4) عبد الله بن زيد من بني عمرو بن مازن بن النجار وقد شهد بدرا وجعل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم القيام على النفل الذي هو الغنائم مقفلة من بدر إلى المدينة. وذكر أنه جمع له ست أو سبعة أحاديث في جزء مفرد.
(5) في رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد أو لو قلت: إني لم أكن نائما لصدقت.
رؤياه، فقال: إنها لرؤيا حق، ثم قال له: لقّن ذلك بلالا فإنه أندى «1» صوتا منك، وبينما بلال يؤذن إذ جاء عمر يجر رداءه، فقال: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله «2» . وكان بلال أحد مؤذنيه بالمدينة، والاخر عبد الله بن أم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين، وأقره الرسول على ذلك، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر في فجر رمضان بأذانين أولهما يوقظ به الغافلون حتى ينتبهوا للسحور، والثاني للصلاة. أما الأذان للجمعة. فكان أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فلمّا كان عثمان وكثر الناس زاد نداء اخر على الزوراء. رواه البخاري.
ولمّا تولى هشام بن عبد الملك أخذ الأذان الذي زاده عثمان بالزوراء وجعله على المنار، ثم نقل الأذان الذي كان على المنار حين صعود الإمام على المنبر في العهد الأول بين يديه.
فعلم بذلك أن الأذان في المسجد بين يدي الخطيب بدعة أحدثها هشام بن عبد الملك، ولا معنى لهذا الأذان لأنه هو نداء إلى الصلاة، ومن هو في المسجد لا معنى لندائه ومن هو خارج المسجد لا يسمع النداء إذا كان النداء في المسجد.
ذكر ذلك الشيخ محمد بن الحاج في المدخل.
قال الحافظ في فتح الباري: وأما ما أحدث الناس قبل الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى.
فعلم من ذلك كلّه أن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أذان الجمعة أنه كان إذا جلس على المنبر أذن مؤذّنه على المنار، فإذا انتهت الخطبة أقيمت الصلاة وما عدا ذلك فكله ابتداع «3» .
__________
(1) أي أحسن وأعذب.
(2) قال ابن هشام: فذهب عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليخبره بما رأى. وقد جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي بذلك، فما راع عمر إلّا بلال يؤذن. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أخبره بذلك. قد سبقك بذلك الوحي. وهذا يدل على أنه قد جاء الوحي بتقدير ما راه عبد الله بن زيد ابن عبد ربه وقوّى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصاري مع أن السكنية تنطق على لسان عمر واقتضت الحكمة الالهية أن يكون الأذان على لسانه غير النبي صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين لما فيه من النبوية من الله لعبده، والرفع لذكره، فلأن يكون ذلك على غير لسان أنوه وأفخم لشأنه، وهذا معنى بين، فإن الله سبحانه يقول: (ورفعنا لك ذكرك) .
(3) قول المصنف انه بدعة أو ابتداع لأن كل شيء لم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم يكون بدعة لكن منها ما يكون
أما الإقامة وهي الدعوة للصلاة في المسجد، فقد اختلفت الروايات في نصّها فرواها محمّد بن ادريس الشافعي مفردة إلّا لفظ قد قامت الصلاة فمثنى، ورواها مالك بن أنس مفردة كلها، ورواها أبو حنيفة النعمان مثنى كلها.