أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بمسّ الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة الأنصار له على الذّود عنه حتى الموت، فاجتمع رؤساؤهم «5» وقادتهم في دار الندوة (وهي دار قصيّ بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلّا فيها) يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خافوه، فقال قائل منهم: نخرجه من أرضنا كي نستريح منه، فرفض هذا الرأي لأنهم قالوا: إذا خرج اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حلاوة منطقه وعذوبة لفظه. وقال اخر: نوثقه ونحبسه حتى يدركه ما أدرك الشعراء قبله من الموت. فرفض هذا الرأي كسابقه لأنهم قالوا: إن الخبر لا يلبث أن يبلغ أنصاره، ونحن أدرى الناس بمن دخل دينه حيث يفضّلونه على الاباء
__________
(1) أخو المصطفى من الرضاعة وهو أول من يعطى كتابه بيمينه.
(2) راجع سيرة ابن هشام فلها قصة طويلة.
(3) وهم باختصار عامر بن ربيعة من امرأته ليلى ثم عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد الضرير فقد نزلوا على مبشر عبد المنذر بقباء ثم قدم المهاجرون أرسالا
(4) الشجر
(5) وهم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ومن بني نوفل، طعيمة بن عدي، وجبير ابن مطعم. والحارث بن عامر. ومن بني عبد الدار النضر بن الحارث، ومن بني أسد: أو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام. ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام، ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج. ومن بني جمح: أمية بن خلف.
والأبناء، فإذا سمعوا ذلك جاؤوا لتخليصه وربما جرّ هذا من الحرب علينا ما نحن في غنى عنه. وقال لهم طاغيتهم «1» : بل نقتله. ولنمنع بني أبيه من الأخذ بثأره، نأخذ من كل قبيلة شابا جلدا يجتمعون أمام داره، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيفترق دمه في القبائل، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل يرضون بالدية، فأقرّوا هذا الرأي. هذا مكرهم، ولكن ارادة الله فوق كل إرادة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «2» فأعلم نبيّه بما دبّره الأعداء في سرّهم، وأمره باللحاق بدار هجرته، بدار فيها ينشر الإسلام، ويكون فيها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم العزّة والمنعة. وهذا من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر الإسلام بمكّة لقال المبغضون: إن قريشا أرادوا ملك العرب، فعمدوا إلى شخص منهم، وأوعزوا إليه أن يدّعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل ماربهم، ولكنهم كانوا له أعداء ألدّاء اذوه شديد الأذى حتى اختار الله له مفارقة بلادهم والبعد عنهم.
هجرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم «3»
فتوجّه من ساعته إلى صديقه أبي بكر، وأعلمه أنّ الله قد أذن له في الهجرة فسأله أبو بكر: الصحبة، فقال: نعم، ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا معدّتين لذلك، فجهزهما أحثّ «4» الجهاز، وصنعت لهما سفرة «5» في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر «6» نطاقها «7» وربطت به على فم الجراب، واستأجرا
__________
(1) أبو جهل.
(2) سورة الأنفال اية 30.
(3) كان خروجه عليه الصلاة والسلام من مكة يوم الخميس أوّل يوم من ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه وذلك يوم الإثنين الظهر لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 حزيران (622 م) . كما يؤكّد تواتر الأخبار أنه خرج يوم الاثنين وأن دخوله المدينة كان يوم الاثنين.
(4) اسرع.
(5) زادا
(6) أمها قيلة وكانت أسماء تحت الزبير بن العوام وكان إسلامها قديما قال ابن اسحاق: أسلمت بعد إسلام سبعة عشر انسانا، وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير فوضعته بقباء وهو أوّل مولود في المدينة. وكانت تسمى ذات النطاقين وإنما قيل لها ذلك لأنها صنعت للنبي صلّى الله عليه وسلّم سفرة حين أراد الهجرة إلى المدينة فعسر عليها ما تشدها به، فشقّت خمارها، وشدّت السفرة بنصفه، وانتطقت النصف الثاني، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات النطاقين وقد ذهب بصرها، وماتت، وقد بلغت من العمر مائة سنة.
(7) النطاق ما يشد به الوسط.
عبد الله بن أريقط من بني الدّيل بن بكر، وكان هاديا ماهرا، وهو على دين كفار قريش فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. ثم فارق الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وواعده المقابلة ليلا خارج مكّة، وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما أقرّوا عليه، فاجتمعوا حول باب الدار، ورسول الله داخله، فلمّا جاء ميعاد الخروج، أمر ابن عمه عليا بالمبيت مكانه كي لا يقع الشكّ في وجوده أثناء الليل، فإنهم كانوا يردّدون النظر من شقوق الباب ليعلموا وجوده، ثم سجّى «1» عليّا ببرده وخرج على القوم وهو يقرأ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «2» فألقى الله النوم عليهم حتى لم يره أحد، ولم يزل عليه الصلاة والسلام سائرا حتى تقابل مع الصدّيق، وسارا حتى بلغا غار ثور «3» فاختفيا فيه.
أما المشركون فلمّا علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون علي بن أبي طالب لا محمّد بن عبد الله، هاجت عواطفهم فأرسلوا الطلب من كل جهة، وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمّد أو يدلّ عليه، وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه طلبتهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما حتى أبكى ذلك أبا بكر فقال له عليه الصلاة والسلام: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «4» فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحن لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار «5» بل صار أعدى الأعداء أمية بن خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار «6» فأقاما فيه ثلاث ليال حتى ينقطع الطلب، وكان يبيت عندهم عبد الله بن أبي بكر «7» (وهو
__________
(1) غطى.
(2) سورة يس اية 9.
(3) جبل بمكة يبعد عنها حوالي اثنين كيلومتر شرقا ويعرف أطحل وأطحل.
(4) سورة التوبة اية 40.
(5) وفي صحيح البخاري (لو أن أحدكم نظر إلى قدمه لرانا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وأخرجه أيضا مسلم والترمذي وأحمد.
(6) وفي مسند البزار: أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار.
(7) أمه وأم أسماء واحدة وكان إسلامه قديما وشهد الطائف مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرمي بسهم رماه به أبو محجن الثقفي فدمل جرحه حتى انتقض به فمات منه في أول خلافة أبيه، وذلك في شوال من سنة إحدى عشرة ودفن بعد الظهر وصلّى عليه أبوه.
شاب ثقف «1» ولقن) «2» فيدلج «3» من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت «4» بها، فلا يسمع أمرا يكتادان «5» به إلّا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، وكان عامر بن فهيرة يروح عليهما بقطعة من غنم، يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء، ويغدو بها عليهما، فإذا خرج من عندهما عبد الله تبع أثره عامر بالغنم كيلا يظهر لقدميه أثر. ولما انقطع الطلب خرجا بعد أن جاءهما الدليل «6» بالراحلتين صبح ثلاث، وسارا متّبعين طريق الساحل، وفي الطريق لحقهم طالبا، سراقة بن مالك المدلجي «7» وكان قد رأى رسل مشركي قريش يجعلون في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره. فبينما هو في مجلس من مجالس قومه بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام عليهم وهم جلوس فقال: يا سراقة إني رأيت انفا أسودة «8» بالساحل أراها محمدا وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هم، ولكنه أراد أن يثني عزم مخبره عن طلبهم، فقال: إنّك رأيت فلانا فلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم، ثم لبث في المجلس ساعة، وقام وركب فرسه ثم سار حتى دنا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، فعثرت به فرسه فخرّ عنها ثم ركبها ثانيا وسار حتى صار يسمع قراءة المصطفى وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت «9» قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخرّ عنها، ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تخرج يديها حتى سطح لأثرهما غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فعلم سراقة أنّ عمله ضائع سدى، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان فوقف عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى جاءهم،
__________
(1) حاذق.
(2) سريع الفهم.
(3) يخرج.
(4) لشدة رجوعه بالغلس.
(5) أي يطلب لهما ما فيه المكروه.
(6) وهو عبد الله بن أريقط.
(7) يكنى أبا سفيان، روى البخاري قصته في إدراكه النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة، وكتب له أمانا، وأسلم يوم الفتح، وقد قال رسول الله لسراقة «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» قال فلما أتي عمر بسواري كسرى وتاجه دعا سراقة فألبسه، فقال له ارفع يديك وقل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة، وقد مات في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين.
(8) يكنى بها عن الشخص.
(9) غاصت.
ويقول سراقة: وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرهم بما يريد بهم الناس، وعرض عليهم الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئا بل قالا له: اخف عنا. فسأله سراقة أن يكتب له كتاب أمن، فأمر أبا بكر فكتب «1» . وبذلك انقضت هذه المشكلة التي أظهر الله فيها مزيد عنايته برسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول الله وقدومه عليهم يخرجون إلى الحرة «2» حتى يردهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد أن أطالوا انتظارهم، فلمّا أووا إلى بيوتهم أو فى رجل من يهود أطم «3» من اطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه يزول بهم السراب يظهرهم تارة ويخفيهم أخرى، فقال اليهوديّ بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدّكم أي حظكم الذي تنتظرون، فثاروا إلى السلاح فتلقّوا رسول الله بظهر الحرة «4» .