ولما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه يجد من قريش منعه من تأدية الرسالة وتسلّط الكبر والعظمة على قلوبهم، أراد الله أن يظهر أمر الدين على أيدي غيرهم من العرب، فكان عليه الصلاة والسلام يخرج في المواسم العربية (وهي أسواق كانت العرب تعقدها للتجارة والمفاخرة) «2» ويعرض نفسه على القبائل ليحموه حتى يؤدي رسالة ربه، فكان بعضهم يردّ ردّا جميلا. واخرون ردا قبيحا. وكان من أقبح القبائل ردا بنو حنيفة «3» (رهط مسيلمة الكذاب) ، وطلب منه بنو عامر إن هم آمنوا به أن يجعل لهم أمر الرياسة من بعده، فقال لهم: الأمر لله يضعه حيث يشاء، وكان من الذين يحجّون البيت عرب يثرب (وهي مدينة بين مكة والشام) يقطنها قبيلتان: إحداهما من ولد الأوس. والثانية من ولد الخزرج (وهما أخوان) وكان بين أولادهما من العداوة ما يجعل الحرب لا تضع أوزارها بين الفريقين، فكانوا دائما في شقاق ونزاع، وكان يجاورهم في المدينة أقوام من اليهود وهم بنو قينقاع، وبنو قريظة وبنو النّضير وكان لهم الغلبة على يثرب أولا، فحاربهم العرب حتى صاروا ذوي النفوذ فيها والقوّة، وكان اليهود إذا خذلوا يستفتحون على أعدائهم باسم نبي يبعث قد قرب زمانه. ولما اختلفت كلمة العرب فيما بينهم
__________
(1) الذي لونه بين الغبرة والسواد.
(2) وهي عكاظ ومجنة وذو المجاز، وكانت العرب إذا حجت بعكاظ شهر شوال ثم بمجنة عشرون يوما وأيام الحج بذي مجاز.
(3) كما جاء في الحديث شر قبائل العرب بنو حنيفة.
وشقت عصا الألفة حالفوا اليهود على أنفسهم، فحالف الأوس بني قريظة، وحالف الخزرج بني النضير وبني قينقاع واخر الأيام بينهم يوم بعاث قتل فيه أكثر رؤسائهم ولم يبق إلّا عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج، وأبو عامر الراهب من الأوس، ولذلك كانت عائشة تقول: كان يوم بعاث يوما قدّمه الله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد خطر ببال رؤساء الأوس أن يحالفوا قريشا على الخزرج، فأرسلوا إياس بن معاذ وأبا الحيسر أنس بن رافع مع جماعة يلتمسون ذلك الحلف في قريش، فلما جاؤوا مكة جاءهم رسول الله وقال: هل لكم في خير مما جئتم له أن تؤمنوا بالله واحده ولا تشركوا به شيئا، وقد أرسلني الله إلى الناس كافة، ثم تلا عليهم القران، فقال إياس بن معاذ: يا قوم هذا والله خير مما جئنا له، فحصبه أبو الحيسر وقال له: دعنا منك لقد جئنا لغير هذا فسكت.