وقد اشتغل النبي صلّى الله عليه وسلّم في صباه برعي الغنم: رعاها لأهله، ورعاها لبعض أهل مكة، وبذلك ضرب مثلا عاليا من صغره في اكتساب الرزق بالكد والتعب، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر ذلك في كبره وهو مغتبط مسرور، روى الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: «افتخر أهل الإبل والغنم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي: «الفخر والخيلاء في أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» ، وقال: «بعث موسى وهو يرعى غنما لأهله، وبعثت أنا وأنا أرعى غنما لأهلي بجياد» «1» ، وقال: «ما بعث الله نبيا إلا وقد رعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط «2» لأهل مكة» «3» .
والحكمة في رعي الأنبياء الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم بالتمرن والتعود على رعايتها القدرة على رعاية أممهم، والقيام بشؤونهم، إذ في رعيها ما يحصل لهم الحلم، والشفقة والرحمة، ويعودهم من الصغر الصبر، وطول البال، والأناة والتريث، وزجر الباغي، وجبر كسر الضعيف، ويربّي فيهم ملكة الحرص على المصلحة، ودفع المضرة، وحسن التعاهد، والرفق بمن تحت أيديهم، والسهر على مصلحتهم، وفي الحديث النبوي السابق الذي رواه أحمد ما يشير إلى هذه المعاني.
__________
(1) مكان أسفل مكة.
(2) قراريط جمع قيراط، وهو جزء من الدينار أو الدرهم، يعني يرعاها بأجر.
(3) رواه البخاري.
هذا إلى ما في رعي الغنم من قضاء نهاره وبعض ليله في البادية، فيتمتاع بالسماء الصافية، والشمس المشرقة، والهواء النقي، ويطيل التأمل والنظر في السماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والجبال ذات الألوان، وبذلك يصير التأمل والتدبر ملكة من ملكات النفس.
,
ولما بلغت سنه صلّى الله عليه وسلّم الثانية عشرة خرج عمه أبو طالب في تجارة له إلى الشام، فتعلقت نفس ابن أخيه به، ورغب في مصاحبته، فرقّ له عمه، واستصحبه معه حتى وصل الركب إلى (بصرى) من بلاد الشام، وكان بها راهب يقال له (بحيرى) «1» عنده علم بالكتب السماوية السابقة، وقد علم منها أنه قد ان مبعث نبي اخر الزمان وأنه من العرب.
وقد جذب انتباهه إلى القافلة أنه رأى غمامة تظلل شخصا منهم، فصنع لهم طعاما على غير عادته ودعاهم إليه، وهنا تختلف الروايات: ففي بعضها أنهم حضروا بما فيهم النبي، وفي بعضها أنهم حضروا جميعا وتركوا النبي عند رحالهم تحت شجرة قريبة منهم، فلما حضروا تفرّس فيهم فلم يجد صاحب الصفة التي يعرفها، فرغب في حضوره فأحضروه، فلما حضر صار يتفرّس فيه ويتعرف على بعض صفاته، ثم تحايل حتى رأى خاتم النبوة بين كتفيه على صفته التي عندهم في الكتاب، فأقبل على أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟
قال: ابني، قال بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حيا!! قال أبو طالب: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال:
صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فو الله لئن رأوه، وعرفوا ما عرفت ليبغنّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم.
__________
(1) بحيرى: بفتح الباء وكسر الحاء مقصورا هو من علماء النصارى، قيل: كان من نصارى عبد القيس، وقال السهيلي وصاحب الإصابة: وقع في سيرة الزهري أن بحيرى كان حبرا من أحبار يهود تيماء.
وما إن فرغ أبو طالب من بيع تجارته حتى عاد به مسرعا إلى مكة، وقد اشتد حرصه عليه وحبه له، ولم تذكر لنا الروايات أكثر مما سمعت ولم يسمع منه النبي شيئا من علوم أهل الكتاب، ولا قرأ عليه بحيرى شيئا من كتبهم، ولو حدث شيء من هذا لحدّث به أفراد الركب ولا سيما بعد بعثته لما سبّ الهتهم، وسفّه أحلامهم، وعاب دينهم.