قدمنا في الخندق أن سعدا رضي الله عنه أصيب في أكحله أثناء المراماة بالنبل، فلما أصيب قال: (اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني بها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهداهم من قوم اذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من قريظة) ، وقد استجاب الله دعوة وليّه سعد، وأقر عينه فيهم، فحكم فيهم بقدرته وتيسيره، وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك كما سيأتي، فأمر النبي بإحضاره من خيمة (رافدة) التي كانت بالمسجد لتمريض الجرحى، فجعل بنو قريظة يتحلقون حوله ويقولون له: أحسن في مواليك، فقال: لقد ان لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم!! ثم حكم فيهم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، فقال له النبي: «لقد حكمت فيهم يا سعد بحكم الله من فوق سبع سماوات» ثم أرجع إلى خيمته بالمسجد، فلم يرعهم إلا الدم يسيل في المسجد، فدخلوا فإذا جرحه قد انفجر ومات شهيدا رضي الله عنه، وقد شيّعه رسول الله والصحابة حتى واروه في قبره.
وقد كان- رضي الله عنه- سيد الأوس، ومن خيار المسلمين، من ذوي السوابق في الإسلام، وقد ورد في فضله أحاديث كثيرة منها ما روي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ» وإنما اهتز فرحا بروحه وترحيبا بمقدمه ولقائه ربه، ولما أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة صار الصحابة يعجبون من لينها وحسنها، فقال: «أتعجبون من هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها أو ألين» . حشره الله سبحانه مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
السّنة السّادسة من الهجرة
أهلّت السنة السادسة للهجرة والمسلمون على أحسن حال من القوة والمنعة بالمدينة وما جاورها، منتصرين على قريش ومن تحزّب إليهم من عرب ويهود، فقد ارتد الأعراب منهزمين، كما لقي يهود بني قريظة القصاص العادل بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم.
وقد أرسل النبي عدة سرايا في هذا العام لتأديب بعض القبائل المجاورة جزاء على غدرها، أو مباغتة لها في عقر دارها قبل أن تنفّذ ما بيتته من مهاجمة المدينة، كما قام ببعض الغزوات التي أجلّها خطرا غزوة الحديبية.
[