إن الأرواح الشفافة الصافية القوية لتدرك بعض ما يكون مخبوا وراء حجب الغيب، والقلوب الطاهرة المطمئنة لتحدّث صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزمان، والعقول الذكية المستنيرة بنور الإيمان لتدرك ما وراء الألفاظ والأحداث من إشارات وتلميحات، ولنبينا محمد من هذه الصفات الحظ الأوفر، وهو منها بالمحل الأرفع الذي لا يسامى ولا يطاول.
فلا تعجب إذا كان قد فهم من معارضة جبريل له بالقران مرتين في رمضان عام عشرة قرب انقضاء أجله، كما فهم ذلك من نزول سورة النصر، حتى روي أنه قال لجبريل: «لقد نعيت إليّ نفسي» «1» فقال جبريل: (وللاخرة خير لك من الأولى) ولعلك على ذكر لمعاذ حين أرسله إلى اليمن، وما قاله في حجة الوداع مودعا للناس، ولا تعجب أيضا إذا كان بعض الصحابة فهم ذلك عند ما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ كما ذكرنا انفا، ومن سورة النصر أيضا، وقد روي ذلك في صحيح البخاري عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «2» .
,
وكان ابتداء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر شهر صفر أو أول شهر
__________
(1) اشتهر على الألسنة: «لقد نعيت إلي نفسي» بفتح التاء خطابا لجبريل. والصحيح ما ذكرناه بسكون التاء للتأنيث.
(2) صحيح البخاري- كتاب التفسير- باب إذا جاء نصر الله.
ربيع الأول، فقد أمر أن يستغفر لأهل البقيع، فانطلق ومعه مولاه أبو مويهبة فقال:
«السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنىء لكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع اخرها أولها» ثم أقبل على أبي مويهبة قائلا:
«إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلود فيها ثم الجنة، فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة» فقال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، قال: «لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة» ، ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف.
وقد بدأ به وجعه فدخل على عائشة فوجدها تشتكي صداعا وتقول:
وا رأساه. فقال: «بل أنا- والله- يا عائشة وا رأساه» ، ثم قال مداعبا لها:
«وما عليك لو متّ قبلي، فقمت عليك، وكفّنتك، وصليت عليك، ودفنتك؟» وأثارت الكلمة الغيرة في نفسها، فقالت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه بإحدى نسائك، فسكت الرسول واعتبرها مداعبة بمداعبة.
,
وكان رسول الله يطوف على نسائه، كما هو شأنه في تعهدهنّ، ورعاية غاية العدل بينهن، فاشتدّ به المرض وهو في بيت السيدة ميمونة، فدعا نساءه واستأذنهنّ أن يمرّض في بيت السيدة عائشة فأذنّ له، فخرج بين عمه العباس وابن عمه علي تخط رجلاه الأرض، حتى أتى بيتها.
وكان يعوده أهله وأزواجه، وهو ببيت عائشة، وفي ذات يوم زارته ابنته فاطمة فرحب بها وأجلسها بجانبه، ثم أسر إليها شيئا فبكت، ثم سارّها ثانيا فضحكت، فسألتها عائشة عن السر، فأجابت بأنه سر، ثم أخبرت فيما بعد أن النبي أعلمها بقرب انتهاء أجله، وأمرها بالتقوى والصبر فبكت. ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقا به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة فضحكت «1» .
__________
(1) صحيح البخاري- باب علامات النبوة- وباب مرض النبي ووفاته.
وقابل العباس عليا فقال له: إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من مرضه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. ثم أشار عليه أن يذهبا إلى رسول الله يسألونه: فيمن هذا الأمر؟ يعني الخلافة. إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أوصى بنا. فقال له علي: لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» .
وقد كان رسول الله يستشفي من ألم الحمى بالماء البارد، كما كانت ترقيه السيدة عائشة بالمعوذتين وقل هو الله أحد. وفي ذات مرة وقد غشي عليه لدّوه «2» ، فلما أفاق أمر أن يصنع بكل من في البيت، مثل ما صنعوا به إلا عمه العباس.
,
ولما اشتد برسول الله وجعه قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف «3» ، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد النبي فأعادت، وما حملها على قولها إلا خشية أن يتشاءم الناس بأبيها، فقال: «إنكن صواحب «4» يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» .
فخرج أحد الصحابة ليخبر بذلك فلم يجد أبا بكر، ووجد عمر، فقال:
قم يا عمر فصلّ بالناس، فلما كبّر سمع النبي صوته فقال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون» وكررها، فلم يصلّ أحد بعد هذا إلا أبو بكر، فلام عمر الرجل على ما فعل، فقال: والله ما أمرني رسول الله، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر الصلاة «5» .
__________
(1) رواه البخاري.
(2) اللد: أن يسقى المريض الدواء كرها. وقد كان الدواء مرضا اخر غير مرضه، فمن ثم كرهه. وإلا فالسنة مستفيضة بالحث على التداوي والاستشفاء.
(3) أسيف: رقيق القلب يغلبه البكاء عند قراءة القران.
(4) صواحب: جمع صاحبة والمراد به هنا واحدة، وهي امرأة العزيز حيث استدعت النساء مظهرة الضيافة. وقصدها أن يرين حسنه فيعذرنها في محبته ومراودتها عن نفسه.
(5) البداية والنهاية، ج 5 ص 332.
,
وفي يوم الخميس الذي قبيل وفاة الرسول خشي أن يموت قبل أن يعهد للناس في شأن الخلافة، فقال- وحوله رجال من أهل بيته وأصحابه-: «ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» فقال بعضهم- إشفاقا-: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القران حسبنا كتاب الله. واختلفوا:
فمن قائل بإحضار الكتاب، ومن مانع، فلما كثر الاختلاف قال: «دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه» وأوصاهم بثلاث: قال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» وأما الثالثة فقيل الوصية بالقران وقيل: تجهيز جيش أسامة «1» .
وفي الصحيح أيضا أن رسول الله قال: «لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون» وفي رواية الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر» .
,
في بعض روايات الصحيح «أهجر؟» استفهموه. والهمزة للإنكار والنفي، والهجر ما يقع من المريض من غير وعي، والمراد إنكار ونفي أن يحصل منه ذلك، أو أن يظن به ذلك، فحاشاه أن يكون منه ذلك، وفي بعضها «هجر» بغير الهمزة، وهي محمولة على الإنكار والنفي أيضا، والعرب في أساليبها قد تحذف حرف الاستفهام ويكون المعنى عليه «2» .
,
وفي هذا اليوم عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى الناس كي يوصيهم ويخطبهم، فقال: «أهريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلّ أوكيتهنّ «3» ، لعلي أعهد
__________
(1) رواه البخاري.
(2) فتح الباري، ج 8 ص 158.
(3) الوكاء: ما يربط به فم القربة.
للناس» قالت عائشة: فأجلسناه في مخضب «1» لحفصة، ثم طفقنا نصب عليه الماء حتى طفق يشير إلينا بيده «أن فعلتن» .
فوجد من نفسه خفة، فخرج على الناس، وهم يصلون الظهر وهو يهادى بين رجلين، فلما راه أبو بكر أراد أن يتأخر، فأومأ إليه أن مكانك، ثم جلس إلى جنب الصدّيق، فجعل أبو بكر يصلّي بالناس قائما، والرسول يصلّي وهو قاعد، فمن قائل أن رسول الله صلّى مأموما وراء أبي بكر، ومن قائل: إن رسول الله تولّى الإمامة، وصلّى أبو بكر بصلاة النبي، وصلى الناس بصلاة أبي بكر، ولعل الأول أرجح لأنه أدلّ على منزلة الصديق وأحقيته للخلافة «2» .
وكانت هذه اخر صلاة صلاها رسول الله مع المسلمين، ثم صعد المنبر، فكان أول ما ذكر- بعد حمد الله والثناء عليه- أصحاب أحد، فاستغفر لهم ودعا ثم قال: «يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تزيدون، والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم عيبتي «3» التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» ثم قال: «أيها الناس: إن عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله» ففهمها أبو بكر من دون الناس فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا، فعجب الناس لبكائه، فكان المخيّر هو رسول الله، وكان أبو بكر أعلمهم بذلك فقال له رسول الله: «على رسلك يا أبا بكر» «4» ثم قال: «إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر. ولو كنت متخذا من أمتي خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن خلة الإسلام ومودته «5» . لا يبقى في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر» .
ثم قال: «وإن قوما ممن قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد،
__________
(1) مخضب: طست.
(2) البداية والنهاية، ج 5 ص 234.
(3) عيبتي: خاصتي وموضع سري.
(4) تمهل في البكاء حتى لا يسترسل الناس في البكاء.
(5) صداقة الإسلام ومحبته.
فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» ثم قال: «أيها الناس أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقا لها» .
وكان مما قاله: «ألا فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد «1» . ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه. ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد. ولا يقولن قائل: أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إليّ من أخذ حقا إن كان له عليّ، أو حلّلني فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة» «2» .
ألا فلتشهد الدنيا إلى أي حد وصل عدل الحاكم مع المحكومين، وإلى أي حد بلغت المساواة، وبلغ الاعتراف بالجميل لذويه، والإقرار بالفضل لأهله، وهل بعد هذا يدع مدع، أو يزعم زاعم أن أحدا أحق بالخلافة من أبي بكر.
,
ثم اشتدت الحمى بعد برسول الله حتى قال له أبو سعيد الخدري: والله لا أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك، فيجيبه: «إنا معاشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر» . وفي هذه الشدة كان يقول: «اللهم أعنّي على سكرات الموت» وكان كلما أفاق من غشيته قال: «اللهم الرفيق الأعلى» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم قبل ذلك أن النبي لا يموت حتى يخيّر بين الدنيا والاخرة، قالت عائشة: (فلما سمعته يقول ذلك، وقد أدركته بحة علمت أنه اختار الاخرة على الدنيا) «3» .
__________
(1) فليستقد: فليقتص.
(2) البداية والنهاية ج 5 ص 230- 231.
(3) رواه البخاري.
,
وفي صبيحة الاثنين والصدّيق أبو بكر يصلّي بالناس الفجر كشف النبي ستر الحجرة، فنظر إليهم وهو قائم على حال حسنة، ثم تبسّم لما رأى من اجتماعهم على رجل واحد، وألفتهم وتاخيهم، فنكص أبو بكر على عقبيه ظنا أن رسول الله يريد أن يخرج للصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر فكان هذا اخر عهده بالمسلمين.
وفرح الصحابة غاية الفرح، ظنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلّ من مرضه، وما علموا أنها الصحوة التي تسبق الموت، وانصرف بعضهم إلى عمله، ودخل أبو بكر على ابنته عائشة وقال: ما أرى رسول الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة- إحدى زوجتيه- وكانت تسكن بالسّنح «1» ، فركب على فرسه، وذهب إلى منزله.