قال ابن إسحاق «1» : قالت حليمة: فو الله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة «2» مع أخيه من الرضاعة لفي بهم «3» لنا خلف بيوتنا، جاء أخوه يشتدّ «4» فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقّا بطنه!!
فخرجت أنا وأبوه- يعني من الرضاعة- نشتد نحوه، فوجدناه قائما منتقعا لونه، فاعتنقته، واعتنقه أبوه، وقال: أي بني ما شأنك؟! قال: «جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني، وشقّا بطني، ثم استخرجا منه شيئا لا أدري ما هو؟ فطرحاه، ثم ردّاه كما كان» !!
قالت حليمة: فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر «5» وقد كنت
__________
(1) تتمة قصة الرضاع.
(2) شك من الراوي، وقد قدمت أن الصحيح أن شق الصدر كان في السنة الرابعة، وأن رجوعهما كان بعد الشق في أول الخامسة.
(3) غنم.
(4) يسعى ويجري.
(5) الظئر: المرضعة الحانية على من ترضعه.
حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟! قالت: فقلت: قد بلغ الله بابني، وقضيت الذي علي، وتخوّفت الأحداث عليه، فأدّيته إليك كما تحبين، قالت: ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك، قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟! قالت: قلت: نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبنيّ لشأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى «1» من أرض الشام، ثم حملت به فو الله ما رأيت من حمل قط كان أخف علي، ولا أيسر منه «2» ، ووقع حين ولدته، وإنه لواضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك، وانطلقي راشدة «3» .
,
قال ابن إسحاق: وحدثني ثور بن يزيد عن بعض أهل العلم، ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعي، أن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا له:
يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: «نعم أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا إذ أتاني رجلان «4» عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا، ثم أخذاني فشقّا بطني، واستخرجا قلبي فشقّاه، فاستخرجا منه علقة سوداء، فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته فوزنني بهم فوزنتهم «5» ، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنني بهم، فوزنتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم،
__________
(1) بضم الباء والقصر من أعمال دمشق، وهي قصبة كورة حوران.
(2) عرفت ذلك من مقارنة حملها بحمل غيرها من النساء.
(3) سيرة ابن هشام ج 1، ص 164، 165.
(4) هما: جبريل، وميكائيل.
(5) رجحت عليهم.
فوزنتهم، ثم قال: دعه عنك فو الله لو وزنته بأمته لوزنها» «1» . قال ابن كثير:
وهذا إسناد جيد قوي.
,
وقد ثبت في صحيح مسلم من طريق حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل- عليه السلام- وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشقّ عن قلبه فاستخرج القلب، واستخرج منه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره- فقالوا:
إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره» «2» .
,
فقد رووا بأسانيدهم عن شدّاد بن أوس، عن رجل من بني عامر «3» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنت مسترضعا «4» في بني سعد بن بكر، فبينما أنا ذات يوم في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان إذ أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب، مليء ثلجا، فأخذوني من بين أصحابي، وانطلق الصبيان هرابا مسرعين إلى الحي، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شقّ ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسّا، ثم غسلها بذلك الثلج ... » على نحو ما ذكر ابن إسحاق غير أنه في هذه الرواية كانوا ثلاثة، وفي الأولى كانوا اثنين، فلعل من ولي عملية الشق هما الاثنان، فاقتصر عليهما في بعض الروايات دون بعض.
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 166.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج 2، ص 216 ط حجازي.
(3) لا يضر إبهام الصحابي، لأن الصحابة كلهم عدول ولا سيما هو من رواية صحابي عن صحابي.
(4) على صيغة اسم الفاعل، وليس اسم مفعول لأن فعله لازم.
,
وقد تكرر شق الصدر الشريف غير هذه المرة، فقد حصل مرة ثانية عند المبعث «1» . ومرة ثالثة عند الإسراء والمعراج، وهذه المرة ثابتة بالأحاديث الصحيحة من رواية الشيخين: البخاري ومسلم، وغيرهما «2» .
أما المرة الأولى: فقد كانت لنزع العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان من كل بشر، فخلقت فيه صلّى الله عليه وسلّم تكملة للخلق الإنساني، ثم إخراجها بعد خلقها كرامة ربانية، فهو أدل على مزيد الرفعة والكرامة من خلقه بدونها وبنزعها منه نشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، والاتصاف بصفات الرجولية من الصغر فلا لهو ولا عبث وإنما هو الكمال والجد.
وأما الثانية: فليتلقّى ما يوحى إليه من أمور الرسالة بقلب قوي وهو على أكمل الأحوال وأتم الاستعداد.
وأما الثالثة: فكانت استعدادا لما يلقى إليه في هذه الليلة من أنواع الفيوضات الإلهية، وما سيريه ربّه فيها من الايات البينات، وإدراك مرامي المثل الرائعة التي ضربت له في مسراه وفي معراجه «3» ، وكلها تحتاج إلى شرح الصدر، وثبات القلب.
,
وينكر «سيرموير» حادثة شق الصدر على معناها الظاهر، ويرى أن ما حدث إنما هي نوبة عصبية، ويجعلها «درمنغم» أسطورة، ويحملها على أنها أمر معنوي، يشير إلى مغزى فلسفي، فيقول: «إنها نشأت من قول الله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وأن هذه العملية أمر باطني قام على تطهير ذلك القلب ليتلقى رسالة الله عن حسن نية، ويبلغها بإخلاص تام، وإن أسطورة شق
__________
(1) رواه أبو نعيم في كتابه «دلائل النبوة» انظر المنتخب من السنة ج 1، ص 64.
(2) الإسراء والمعراج للمؤلف ص 55- 66.
(3) فتح الباري ج 7، ص 161؛ تفسير الالوسي ج 30، ص 166، 167.
الصدر ذات مغزى فلسفي لما تشير إليه تلك الدرنة السوداء من الخطيئة الأولى التي لم يعف منها غير مريم وعيسى!! ولما يدل عليه من معنى الورع الصوفي» «1» .
وقد تأثر بهذا الرأي بعض الكاتبين في السيرة من المسلمين ومنهم الدكتور محمد حسين هيكل- رحمه الله-، فقال: «لا يطمئن المستشرقون، ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه، ويرونها ضعيفة السند ... » «2»
إلى اخر ما قال.
وقد طعن في القصة بأنها ضعيفة السند، وأنها مرسلة، وأن القصة رواها طفل صغير في سن السنتين، وكان النبي في مثل هذه السن أيضا، وهي سن لا يحصل فيها التمييز حتى يكون تحمّل الراوي للقصة صحيحا، كما ذكر مزاعم بعض المستشرقين.
وللرد على ما أثاره المستشرقون وغيرهم حول حادث شق الصدر أقول وبالله التوفيق:
1- أما أن المستشرق «سيرموير» لم يرض أن يشير إلى قصة الملكين فثبوت القصة أو نفيها لا يتبع رضاه ولا عدم رضاه، وإنما المعوّل عليه في هذا ثبوت الرواية أو عدم ثبوتها، ولا أدري كيف استراح الدكتور هيكل إلى زعم موير وتجويزه أن يكون النبي في طفولته أصابته نوبة عصبية، وقد تنبهت لها حليمة وزوجها، وأن هذه النوبة لم تؤثر في النبي لحسن تكوينه!!
وهو دس خبيث، وطعن مردود، وليس في القصة ما يدل عليه، ولماذا رجّح ظنّ حليمة وزوجها وتخوّفهما أن يكون أصاب النبيّ شيء، ولم يرجّح قطع أمه السيدة امنة في أنه ليس للشيطان عليه سبيل؟! والأم أعلم الناس بالابن، واخر من يقتنع بزوال أثر المرض عن الابن، و «موير» لأجل أن ينكر الشق وقع فيما هو أشد نكرا، وهو أن النبي أصابته نوبة عصبية، حتى خيّل إليه
__________
(1) حياة محمد لدرمنغم ص 48.
(2) حياة محمد لهيكل ص 109، 110.
ما ليس بحاصل حاصلا، وهي شنشنة تعرف من أخزم؟
2- أما أن «درمنغم» يرى أن القصة لا تستند إلى شيء غير ما يفهم من الاية، وأن ما يشير إليه القران إنما هو عمل روحي بحت «1» ، فنحن لم نقل:
إن الاية هي الدليل، وإن كان البعض يقول: إنها تشير إلى ذلك، ولكن الدليل هو ما ثبت من الروايات التي سقناها.
3- أما أن ما يدعو المستشرقين والمفكرين من المسلمين إلى إنكار هذا الحادث: أن حياة النبي كانت كلها إنسانية سامية، فنحن نرى ألاتنافي قط بين سمو الحياة الإنسانية، وثبوت الخوارق والمعجزات الحسية للأنبياء، وهل عيسى لما ولد بغير أب، وأجرى الله على يديه خوارق العادات لم تكن حياته إنسانية؟! وهل موسى عليه السلام لما أعطي الايات التسع لم تكن حياته إنسانية؟!
الحق أنها لوثة حمل لواءها المستشرقون، وسرت عدواها إلى بعض الكتاب المسلمين المعاصرين.
4- ثم إن حادثة شق الصدر ليست مخالفة للعقل، لقد ظلم الدكتور هيكل العقل حين قال ذلك، وفرق كبير بين مخالفة العادة، ومخالفة العقل، ولو جاز هذا التشكيك في القصة في العصور الأولى فلن يجوز ذلك اليوم، وقد تقدم العلم والطب، وأصبحت تجرى فيه العمليات الخطيرة في القلب، وفي الكلى، وفي الرئتين، بل أنا أكتب هذا وتجري محاولات عدة لزرع بعض أجزاء إنسان في جسم إنسان اخر، فإذا جاز أن يقع هذا من البشر، أفنستبعد على قدرة الله، وملائكته المؤتمرين بأمره أن يشقّوا صدر النبي، ثم يلتئم بلا الة، ولا ألم، ولا سيلان دم؟!
ثم ما للمعجزات ولسنن الكون العادية، حتى نتعلل في إنكارها بأننا لن
__________
(1) لئن جاز حمل الاية أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ على الشرح المعنوي بل لعله الأظهر، فبعيد جدا أن تحمل القصة على هذا، وإلا كان خروجا بالألفاظ العربية عن ظاهرها من غير صارف لها عن هذا الظاهر.
نجد لسنة الله تبديلا، وما المعجزات إلا أمور خارقة للمألوف من سنن الله في الكون!!
5- أما قول البعض: إن هذه القصة ضعيفة السند فنقد مجمل، وكنا نحب من الناقد أو المنكر، وقد عرض لإنكار أمر يقره جمهرة المسلمين وفيهم أئمة كبار لهم بصر بالنقد والتعديل والتجريح للرواة، أن ينقد سند القصة نقدا تفصيليا، أما وقد أتى به نقدا مجملا فهو معارض بتوثيق أئمة كبار لسند هذه القصة، وقد سمعت انفا أن القصة رواها الإمام مسلم في صحيحه وإن كانت مجملة، وأن بعض أسانيد القصة إن لم تكن صحيحة فهي حسنة وجيدة وتصلح للاحتجاج بها، بل قصة الشق ليلة الإسراء والمعراج مروية في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، بل قال بعض العلماء المحققين: إنها متواترة.
قال الحافظ ابن حجر بعد أن عرض لذكر الروايات الدالة على شق الصدر وتكرره: «وجميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك» . وقال القرطبي في «المفهم» :
«لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء والمعراج، لأن رواته ثقات مشاهير» وطبعي أن من صدق به ليلة الإسراء والمعراج يلزمه التصديق به في الصغر، وعند البعثة ما دام الأمران ثابتين بالروايات التي يحتج بها.
أما ما قيل: من أن ابن إسحاق رواها مرسلة عن رجل لم يسمّ من الصحابة فلا ينهض للطعن، إذ المعروف في قواعد «أصول الحديث» أن الصحابة عدول، فلا تضر جهالة الصحابي.
6- أما قولهم: إن القصة رواها طفل صغير في سن ليست سن تمييز ... فهذا بنوه على ما ذكره ابن إسحاق، وقد قدّمت أن الصحيح الذي رجّحه أئمة النقد والرواية أن الشق كان في السنة الرابعة، أو أوائل الخامسة، وهي سن تمييز، ولا سيما من مثل النبي وأخيه السّعدي. وأنا أذكر أحداثا وقعت لي وأنا في الرابعة أو دونها، ولا أنساها أبدا، وكأنها ماثلة أمامي الان،
وهي دون قصة الشق. والكثيرون من الناس يذكرون مثل ذلك. والمحققون من المحدثين على عدم تحديد سن التحمل بخمس سنين، بل قالوا: المعوّل عليه التمييز، وقد يكون ابن أربع سنين وهو مميّز أكثر من ابن خمس أو ست، وقد يكون ابن خمس مثلا وتمييزه دون تمييز ابن أربع «1» ، ومما ذكرناه يتبين الرد على من نقد متن القصة بأنها مخالفة لما روي أنه أقام في بني سعد إلى خمس سنوات.
وأن النقد أصبح غير مقبول بعد أن بينت الرأي الصحيح الراجح.