ها هو العام قد استدار، وحلّ ميعاد عمرة القضاء، فما إن وافى ذو القعدة من عام سبعة حتى أذن مؤذن رسول الله أن يتجهزوا للعمرة، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من كان معه بالحديبية إلا من مات أو استشهد، وخرج معه اخرون حتى بلغت عدتهم ألفين، واستخلف على المدينة عويف بن الأضبط الديلي وقيل أبارهم، وسار رسول الله يلبي والمسلمون يلبون بعد أن أحرموا بالعمرة، وساقوا أمامهم الهدي، وشهدت الصحراء هذا المشهد الرائع الذي لم تشهده من قبل، وعجّت الصحراء بالتهليل والتكبير والتلبية، والمسلمون يغذون السير يحدوهم الشوق إلى بيت الله الحرام، ويستخفهم الفرح بالعودة إلى البلد الطيب الذي فيه ولدوا، وعلى ترابه ترعرعوا، وفي مغانيه كانت ذكريات الطفولة ومارب الشباب.
وكان رسول الله- رعاية للحيطة، وأخذا للحذر- قد ساق أمامه الخيل وعليها محمد بن مسلمة، والسلاح مع بشير بن سعد، حتى إذا غدر أهل مكة
__________
(1) سميت عمرة القضاء لأنها كانت قضاء عن العمرة الأولى، وأنكر السهيلي ذلك وقال: سميت بالقضاء لأنها كانت بسبب التقاضي والصلح بين المسلمين والمشركين في الحديبية، وتسمى عمرة القضية أيضا لما ذكرنا، وتسمى عمرة القصاص لأنها كانت قصاصا عن عمرة الحديبية، وقيل لقول الله تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ لأنهم لما منعوا المسلمين من الاعتمار في شهر حرام كان جزاؤهم أن يدخلوا عليهم مكة في شهر حرام من العام القابل.
بهم أو أهاجهم هائج كان السلاح قريبا منهم، وفي مرّ الظهران التقى نفر من قريش بمحمد بن مسلمة في خيل المسلمين، ورأوا السلاح مع بشير بن سعد، فرجعوا سراعا فأخبروا قريشا، ففزعت قريش وقالوا: والله ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا وهدنتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟ ولما بلغ رسول الله بطن يأجج حيث ينظر أنصاب الحرم «1» ترك الخيل والسلاح، وبعثت قريش مكرز بن حفص في نفر منهم فالتقوا بالنبي ببطن يأجج، فقالوا: يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، وقد شرطت ألاتدخل مكة إلا بالسيوف في القرب، فقال له النبي: «إني لا أدخل عليهم السلاح» فقال مكرز: هذا التي تعرف به: البر والوفاء.
ثم رجع إلى قريش فأخبرهم، فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وأخلوا مكة للمسلمين، واكتفوا بالنظر إليهم من عل، واستبدّ الحنق والغضب ببعضهم، فذهبوا إلى الخندمة كراهة أن ينظروا إلى النبي وإلى أصحابه، وتهيأ المسلمون لدخول البلد الحرام، وركب رسول الله على ناقته القصواء، وهؤلاء الغر الميامين والأبطال الأشاوس يحيطون به، وهم متوشحون سيوفهم، والكل يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» والبطل المقدام عبد الله بن رواحة اخذ بزمام الناقة وهو يرتجز ويقول:
خلّوا بني الكفار عن سبيله ... خلّوا فكل الخير في رسوله
يا ربّ إني مؤمن بقيله ... أعرف حقّ الله في قبوله
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وأنكر ابن هشام أن البيتين الأخيرين من كلام ابن رواحة وأنهما لعمار بن ياسر يوم صفّين، وقال: إنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل. وفيما قاله نظر،
__________
(1) العلامات الدالة عليه.
فإن موسى بن عقبة والحافظ البيهقي رويا هذا، والمسلمون قد قاتلوا المشركين على تأويله، كما قاتلوهم على ما أوجبه التنزيل «1» .
ودخل المسلمون المسجد الحرام ليطوفوا بالبيت، وكان المشركون قد أرجفوا وقالوا: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمّى يثرب، وتطلعوا من رؤوس الجبال ليروا الذين أضعفتهم الحمى والغربة، فلما علم النبي بهذه المقالة اضطبع بردائه وصار يهرول «2» ، وأمر المسلمين أن يضطبعوا ويهرولوا وقال: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة» فكان إذا استلم الحجر الأسود هرول وهرولوا، حتى إذا استلم الركن اليماني وواراه البيت منهم مشى ومشوا حتى يستلم الركن عند الحجر الأسود، هكذا فعل الأشواط الثلاثة الأولى ومشى في الأربعة الباقية، ولولا الرحمة بهم، والإشفاق عليهم لهرول بهم الأشواط كلها.
وبعد الطواف وصلاة ركعتين عند مقام إبراهيم سعوا بين الصفا والمروة، ثم حلقوا وذبحوا هداهم، وبذلك تمت عمرتهم. ورأى المشركون هذا المشهد المؤثر المعبّر فخاب ظنهم، ولم يكتموا ما بأنفسهم، فقالوا: ما يرضون بالمشي، أما إنهم لينفرون نفر الظباء، وازدادوا كمدا إلى كمد.