,
ها أنت قد رأيت طرفا من تعذيب المشركين للمسلمين ولا سيما ضعفاؤهم، وأن النبي قد أذن لهم في الهجرة إلى الحبشة، فهاجر بعضهم إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم هاجر الكثيرون منهم إليها الهجرة الثانية.
وها هي طلائع النور قد بدت من جهة يثرب- المدينة- بعد التقاء بأهلها في موسم الحج، فقد التقى بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في العقبة الأولى والثانية، فامن من امن، وعاهد من عاهد منهم على الولاء والنصرة، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، ونساءهم، وأبناءهم، وما كان من انتشار الإسلام بين أهل المدينة انتشارا لم يكن يتوقعه أحد حتى أذهل ذلك مشركي مكة، وبذلك أصبح للمسلمين إخوان مؤمنون صادقون في دار أمن وإيمان، وإسلام وسلام، وهي المدينة «1» .
وقد الم المشركين وأقض مضاجعهم انتشار الإسلام بالمدينة هذا الانتشار السريع، فأوغلوا في إيذاء المسلمين، ونالوا منهم غاية النيل، وضيّقوا عليهم السبل والمسالك، فلم يكن لهم بدّ من الهجرة إليها، فقد أضحى لهم بها أهل
__________
(1) علم بالغلبة على مدينة الرسول، والظاهر أنها كانت معروفة بهذا الاسم في الجاهلية، وإن كان الاسم الغالب لها حينذاك «يثرب» ، حتى نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تسميتها بيثرب فيما صحّ عنه، وسماها «طابة» و «طيبة» ، ولا يزال اسم المدينة هو الغالب، وأشهر الأسماء.
بأهل، ودور بدور، وأيضا فلم تعد مكة بوقوفها في سبيل الإسلام والمسلمين صالحة لأن تكون مركزا لانتشار الدعوة الإسلامية، وأصبحت المدينة بفتح صدرها للإسلام والمسلمين جديرة بأن تكون مركزا لانتشار هذه الدعوة، فكان من الضروري أن تنتقل الدعوة من مكة إلى المدينة وهذا ما كان.
,
وكان الصحابة يشتكون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يجدونه من المشركين من الأذى والعنت، فيثبتهم، ويصبرهم، ويعدهم فرجا ومخرجا من هذا الكرب.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رأى فيما يرى النائم أنه هاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظنه إلى أنها اليمامة، أو هجر «1» ، ثم استبان له صلّى الله عليه وسلّم أنها المدينة، ففي صحيح البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين «2» » وهما الحرتان «3» .
فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم بعد هذه الرؤية مسرورا وقال: «قد أريت دار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد أن يخرج فليخرج إليها» وقال: «إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» وقد صادف هذا الإذن بالهجرة إلى المدينة هوى في نفوسهم، فخرجوا إليها أرسالا «4» وفرادى، منهم من خرج مستعلنا كالفاروق عمر- رضي الله عنه- ومن صحبه، وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ومنهم من خرج مستخفيا وهم الضعفاء والموالي كصهيب الرومي، ورجع الكثيرون ممن هاجر إلى الحبشة إلى مكة، ثم هاجروا منها إلى المدينة.
__________
(1) اليمامة: بلد بنجد بالجزيرة، هجر: بلد بالبحرين، وهي من بلاد عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام.
(2) اللابة، والحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة، والمدينة بين حرتين.
(3) صحيح البخاري- باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
(4) جمع رسل- بفتح الراء والسين- أفواجا وجماعات.
,
والذي ظهر لي بعد البحث والتأمل أن الإذن في الهجرة كان بعيد بيعة العقبة الأولى، وأن ذلك كان قبل بيعة العقبة الثانية بنحو عام، كما تدل على ذلك قصة هجرة أبي سلمة وزوجه أم سلمة الاتية عند ابن إسحاق، وكما قال موسى بن عقبة في «مغازيه» «1» .
,
وكان أول من هاجر إليها سيدنا أبو سلمة بن عبد الأسد «2» ، وذلك قبل بيعة العقبة الثانية بسنة، وكان قد عاد من الحبشة إلى مكة، فاذاه أهلها، فلما بلغه إسلام من أسلم من الأنصار، وأذن النبي لأصحابه كان أول مهاجر إليها، وكان خرج بزوجه أم سلمة، ومعهما ابنهما سلمة، فخرج يقود بهما بعيره، فلما رأته رجال من بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- وهم عشيرة زوجه وابنة عمه أم سلمة- قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك قد غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فنزعوا خطام البعير من يده، وانتزعوها منه، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد- رهط أبي سلمة- فقالوا:
والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا «سلمة» فيما بينهم حتى خلعت يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وأما أم سلمة فقد حبسها بنو المغيرة عندهم، وفرّقوا بينها وبين زوجها وولدها، ومع كل هذا انطلق أبو سلمة إلى الله مهاجرا، ولم يلو على أهل، ولا ولد، ولا مال حتى وصل إلى قباء فأقام بها حتى وصلت إليه زوجه بعد عام.
,
أما أم سلمة فكانت تخرج كل غداة فتجلس في الأبطح، فما تزال تبكي
__________
(1) شرح المواهب ج 1 ص 384.
(2) هو أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرضاع، أرضعتهما ثويبة جارية أبي لهب، وابن عمته برة بنت عبد المطلب. وهو من السابقين الأولين، ومن خيار المسلمين، استشهد بعد أحد في أوائل السنة الرابعة للهجرة.
حتى تمسي، سنة أو قريبا منها، حتى مر بها رجل من بني عمها، فرأى ما بها، وحزنها على فراق زوجها، فرق لها ورحمها، وذهب لأهلها وقال لهم:
ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟! فقالوا لها:
الحقي بزوجك إن شئت، وحينئذ ردّ بنو عبد الأسد إليها ابنها سلمة، وسأدع السيدة الجليلة أم سلمة تتحدث عن هجرتها قالت:
فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني- سلمة- فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، فقلت: أتبلّغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم «1» لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية «2» ؟
فقلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أوما معك أحد؟! فقلت: لا والله إلا الله، وبنيّ هذا قال: والله مالك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل «3» أناخ بي- أي البعير- ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحطّ عنه- أي الرحل- ثم قيده في الشجرة، ثم تنحّى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله «4» ، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى، فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي.
فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية- وكان أبو سلمة بها نازلا- فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت السيدة
__________
(1) موضع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة.
(2) هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، وهي ابنة عم أبي سلمة، وكانت تكنى هي وزوجها بابنهما سلمة.
(3) المكان الذي يستريحون فيه في السفر.
(4) وضع عليه الرحل، وهو للبعير كالسرج للفرس.
أم سلمة تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب ال أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة «1» .
وإن لنا هنا لوقفة عند قصة عثمان هذا، فقد كان يومئذ كافرا، لأنه لم يسلم إلا أوائل عام الفتح، وهي تشهد لما ذكرته من نفاسة معدن العرب، وفضائلهم في الجاهلية، ولا سيما خلق المروءة والنجدة، وحماية الضعيف، فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يدع امرأة شريفة تسير واحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش!!
فأين من هذه الأخلاق- يا قومي المسلمين والعرب- أخلاق الحضارة في القرن العشرين، من سطو على الحريات، واغتصاب للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعنا به الصحافة كل يوم من أحداث يندى لها جبين الإنسانية، ومن تفنن في وسائل الاغتصاب، وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال.
إن هذه القصة- ولها مثل ونظائر- لتشهد لما قلته حينما تحدثت عن العرب من أن رصيدهم في الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثمّ اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله، وكانوا أهلا لحمل الرسالة وتبليغها إلى الناس كافة.
,
ثم قدمها بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب، ومعه زوجه السيدة ليلى بنت أبي حثمة، قال الإمام ابن عبد البر: إنها أول ظعينة «2» قدمت المدينة، وقال موسى بن عقبة: أول ظعينة السيدة أم سلمة، ولكل وجهة، فالسيدة أم سلمة أول من خرجت مهاجرة من النساء، ولولا منع أهلها
__________
(1) أسلم عثمان بن طلحة بعد الحديبية، وهاجر إلى المدينة في صفر عام ثمان، وقد قتل أبوه، وإخوته: الحارث، وكلاب، ومسافع، وعمه عثمان بن أبي طلحة يوم أحد.
(2) الظعينة: المرأة تركب البعير.
لها لكانت أول من وصلت المدينة، والسيدة ليلى أول من وصلت إليها من النساء.
,
ثم تتابع المسلمون سراعا إلى الهجرة، فهاجر مصعب بن عمير، وعبد الله ابن أم مكتوم، وكانا يقرئان القران للأنصار، وبلال بن رباح، وسعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهم-. روى البخاري في صحيحه بسنده عن البراء بن عازب قال: «أول من قدم علينا- زاد في رواية الحاكم في الإكليل:
من المهاجرين- مصعب بن عمير وابن أم مكتوم» .
,
ثم هاجر بنو جحش: عبد الله بن جحش بن رياب الأسدي، ينتهي نسبه إلى أسد بن خزيمة حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله، ومعه أخوه أبو أحمد عبد بن جحش «1» ، وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بلا قائد، وكان شاعرا، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكان معهما محمد بن عبد الله بن جحش، وكان منزلهما ومنزل أبي سلمة بن عبد الأسد على مبشّر بن عبد المنذر بقباء في بني عمرو بن عوف.
وكذلك هاجر نساؤهم: زينب بنت جحش، وحمنة بنت جحش- زوج مصعب بن عمير- وأم حبيب بنت جحش- زوجة عبد الرحمن بن عوف، فغلّقت دار بني جحش بسبب الهجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام، وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا «2» ليس بها ساكن، فلما راها كذلك تنفّس الصعداء ثم قال:
__________
(1) عبد من غير إضافة، وكانوا ثلاثة: عبد الله، وعبيد الله، وعبد. أما عبيد الله فقد هاجر إلى الحبشة مع زوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم تنصّر ومات هناك، وأما عبد الله فقد استشهد بأحد، وأما عبد فطالت به الحياة، وهم أولاد أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(2) قفرا.
كل دار وإن طالت سلامتها ... يوما ستدركها النكباء والحوب «1»
ثم قال عتبة: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها، فقال أبو جهل:
وما تبكي من فل ابن فل «2» ، ثم قال للعباس: هذا من عمل ابن أخيك هذا، فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.
وقد عدا أبو سفيان بن حرب على دار بني جحش فتملكها، وقيل: باعها من عمرو بن علقمة العامري، فذكر ذلك عبد الله بن جحش- لما بلغه- لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها» ؟ قال: بلى، قال: «فذلك لك» .
فلما فتحت مكة كلّم أبو أحمد عبد بن جحش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دارهم، فأبطأ عليه الرسول، فقال الناس: يا أبا أحمد إنه- صلّى الله عليه وسلّم- يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله، فأمسك أبو أحمد عن الكلام في ذلك، وقد سجل أبو أحمد هجرة بني جحش في قصيدة له «3» .
,
ثم قدم المسلمون أرسالا، وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام قد أوعبوا إلى المدينة هجرة: رجالهم ونساؤهم، منهم- غير بني جحش ونسائهم-:
عكاشة بن محصن، وشجاع وعقبة ابنا وهب، وأربد بن حميرة «4» ، ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، ويزيد بن رقيش وغيرهم.
ومن نسائهم: جذامة بنت جندل، وأم قيس بنت حصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وامنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم «5» .
__________
(1) الحوب: التوجع. وهذا البيت لأبي دؤاد الإيادي في قصيدة له.
(2) هكذا في السيرة لابن إسحاق، وفل: فلان، وفي السيرة لابن هشام «من قل» بالقاف، قال ابن هشام: القل: الواحد، واستشهد ببيت لبيد بن ربيعة.
(3) سيرة ابن هشام ج 1 ص 472، 473.
(4) بضم الحاء، وفتح الميم، وتشديد الياء المكسورة، وقال ابن هشام: ويقال: ابن حميرة بإسكان الياء.
(5) السيرة ج 1 ص 470- 472؛ والبداية والنهاية ج 3 ص 170، 171.
هجرة عمر بن الخطاب، وعيّاش في ركب من المسلمين
ثم هاجر الفاروق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وكان تواعد هو وعيّاش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي على مكان من أضاة بني غفار «1» ، وقالوا: أينا لم يصبح فقد حبس، فليمض صاحباه، قال عمر: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند هذا المكان، وحبس هشام، وفتن فافتتن.
وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن علي- رضي الله عنه- قال: ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّب قوسه، وأخرج أسهما من كنانته، وجعلها في يديه، واختصر عنزته «2» ، ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام فصلّى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس «3» ، من أراد أن تثكله أمه، أو يؤتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علّمهم ما أرشدهم إليه، ثم مضى لوجهه، وقد صحبه في هجرته بعض أهله وقومه. كما صحبه بعض المستضعفين ليحتموا به.
وكان في ركب عمر نحو من عشرين راكبا، منهم: زيد بن الخطاب «4» ، وعيّاش بن أبي ربيعة، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر العدوي،
__________
(1) موضع على عشرة أميال من مكة.
(2) حملها مضمومة إلى خاصرته، والعنزة: العصا.
(3) شاهت: قبحت. لا يرغم الله: لا يلصق بالرغام وهو التراب. إلا هذه المعاطس: الأنوف.
(4) أخو عمر، وهو أسن منه، أسلم قبله، وشهد بدرا والمشاهد، واستشهد باليمامة وراية المسلمين بيده سنة اثنتي عشرة، وحزن عليه عمر حزنا شديدا، وكان يقول: سبقني إلى الحسنيين: أسلم قبلي، واستشهد قبلي، ولما رثى متمم بن نويرة أخاه مالكا في شعره قال له: لو كنت أحسن الشعر لرثيت أخي مثل ما رثيت أخاك، فقال متمم: لو مات أخي على ما مات عليه أخوك لما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به.
وخنيس بن حذافة السهمي «1» ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ابن عم عمر وزوج أخته فاطمة، وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم، وخولي بن أبي خولي، ومالك بن أبي خولي حليفان لهم، وبنو البكير الأربعة: إياس، وعاقل، وعامر، وخالد.
ولم يذكر ابن إسحاق غير هؤلاء الثلاثة عشر، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «فلعل الباقين كانوا من أتباعهم» فنزل سيدنا عمر ومن معه، وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث على رفاعة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف بقباء.
,
ولما قدموا المدينة خرج أبو جهل بن هشام وأخوه الحارث إلى عياش بن أبي ربيعة»
، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما المدينة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يزال بمكة، فكلم أبو جهل عياشا، وقال له: إن أمك نذرت ألايمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل عن شمس حتى تراك، فرقّ لها، فقال له عمر: إنه- والله- ما يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو اذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حرّ مكة لاستظلت، فقال له: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فاخذه، فقال له عمر: والله إنك لتعلم إني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما، ولكنه أبى عليه إلا أن يخرج معهما فقال له: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل: يا ابن أخي والله- لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني «3» على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ عياش، وأناخا ليتحول عليها، فلما استوى بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه،
__________
(1) كان صهر عمر على ابنته حفصة واستشهد في بدر.
(2) اسم أبي ربيعة: عمرو- ويلقب: ذا الرمحين- ابن المغيرة، بن عبد الله، بن عمر، ابن مخزوم القرشي من السابقين الأولين، وهاجر الهجرتين.
(3) أي تجعلني أعقبك عليها لركوبها.
وربطاه، ثم دخلا به مكة وفتناه، فافتتن، وكان دخولهما به مكة نهارا موثقا، فصارا يقولان: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.
,
وروى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: فكنّا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أنزل الله تعالى فيهم، وفي قولنا، وقولهم لأنفسهم:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) «1» .
فكتبها عمر بيده في صحيفة وبعث بها إلى هشام بن العاص، قال هشام:
فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى «2» أصعّد فيها وأصوّب، ولا أفهمها حتى قلت: اللهمّ فهّمنيها، قال: فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فركبت عليه ثم لحقت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة.
هذا ما ذكره ابن إسحاق.
وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال وهو بالمدينة:
«من لي بعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص؟» فقال الوليد بن الوليد «3» بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة فدخلها
__________
(1) الايات 53- 55 من سورة الزمر.
(2) بالقصر مكان بأسفل مكة.
(3) أخو خالد أسلم قبله، وهاجر الهجرتين، وكان له قصة مع خالد في إسلامه ستأتي.
مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت:
أريد هذين المحبوسين- تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة «1» ، فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه «ذو المروة» لذلك، ثم حملهما على بعيره، وساق بهما، فعثر فدميت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
ثم قدم بهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة.
,
ولما أراد صهيب- رضي الله عنه- أن يهاجر قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» . هكذا قال ابن هشام في السيرة.
وروى الإمام البيهقي بسنده قصة هجرة صهيب على نحو اخر قال: قال صهيب: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد، فقالوا:
قد شغله الله عنكم ببطنه- ولم أكن شاكيا- «2» ، فناموا فخرجت منهم يعني متسللا، فلحقني أناس بعدما سرت يريدون ليردوني، فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقيّ من ذهب تخلّوا سبيلي وتوفون لي؟ ففعلوا، فتبعتهم إلى مكة فقلت:
احفروا تحت أسكفة «3» الباب، فإن بها أواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقباء قبل أن يتحول عنها، فلما راني قال: «يا أبا يحيى ربح البيع» ، فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك
__________
(1) يعني قطعة من الحجر.
(2) يعني أنه تصنّع ذلك، ولم يكن به مرض كي يفلت منهم.
(3) عتبة الباب.
أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام: وكان نزول صهيب بن سنان على خبيب بن إساف «1» أخي بلحارث بن الخزرج بالسّنح.
,
منزل طلحة بن عبيد الله: ونزل طلحة بن عبيد الله بن عثمان على خبيب بن إساف الذي نزل عليه صهيب، وقيل: إنه نزل على أسعد بن زرارة نقيب بني النجار.
منزل حمزة واخرين: ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن حصن، قال ابن هشام ويقال: ابن حصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة بن عبد المطلب، وأنسة «2» ، وأبو كبشة «3» ، موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: بل نزلوا على سعد بن خيثمة، ويقال: نزل حمزة على أسعد بن زرارة أخي بني النجار.
منزل عبيدة بن الحارث واخرين: ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخوه الطفيل بن الحارث، والحصين بن الحارث، ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار،
__________
(1) ولم يكن حين نزول المهاجرين عليه مسلما، بل تأخر إسلامه حتى خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بدر- كما قال ابن عبد البر- في الاستيعاب، وخبيب هذا هو الذي خلف على بنت خارجة بن زيد بعد وفاة الصديق، وقد مات في خلافة عثمان، وهو جد خبيب بن عبد الرحمن الذي يروي عنه الإمام مالك في الموطأ.
(2) كان من مولدي السراة، ويكنى «أبا مسروح» شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
(3) أصله من فارس ويقال: هو من مولدي أرض دوس، واسم أبي كبشة سليم، وقد شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله، ومات في خلافة عمر في اليوم الذي ولد فيه عروة بن الزبير، وأما الذي كانت قريش تنسب النبي إليه فالصحيح أنه أبوه من الرضاع كما قدمنا.
وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي، وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخي بلعجلان بقباء.
منزل عبد الرحمن بن عوف في اخرين: ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخي بلحارث بن الخزرج في دارهم.
منزل الزبير وأبي سبرة: ونزل الزبير بن العوام، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة- دارهم.
منزل مصعب بن عمير: ونزل مصعب بن عمير بن هاشم أخو بني عبد الدار على سعد بن معاذ بن النعمان أخي بني عبد الأشهل في دار عبد الأشهل.
منزل أبي حذيفة وسالم مولاه: ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة «1» ، وقال الأموي: على خبيب بن إساف أخي بني حارثة.
منزل عتبة بن غزوان: ونزل عتبة بن غزوان بن جابر على عباد بن بشر بن وقش أخي بني عبد الأشهل في دار عبد الأشهل.
منزل عثمان بن عفان: ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار، فلذلك كان حسان يحب ذا النورين عثمان، وبكاه لما قتل.
وكان يقال: إن الأعزاب من المهاجرين نزلوا على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا، فكان أيسر لهم، وأبعد من الحرج.
__________
(1) هكذا في «البداية والنهاية» وعزاه لابن إسحاق، وأما السيرة لابن هشام فلم تذكره.
هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة