,
وقبيل النبوة حبّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلوة عن الخلق، والانصراف إلى الخالق، لما في الخلوة من صفاء النفس، وهدوء البال، والتفكر في ملكوت الله، وعظيم خلقه، وجليل قدرته، فكان يخلو بغار حراء «1» في رمضان من كل عام، ويطعم من جاءه من الفقراء والمساكين، فإذا قضى جواره من شهره كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، وكانت السيدة خديجة- رضي الله عنها- تعينه على هذه الخلوة وتعدّ له الزاد والطعام، وكان رسول الله يرجع إليها في أثناء الخلوة ليتعهدها، ويأخذ زاده، وما زال يخلو ويتعبد»
بهذا الغار حتى أكرمه الله بالنبوة، ونزل عليه الوحي.
,
وحراء جبل في أعلى مكة على ثلاثة أميال منها، عن يسار المار إلى منى، له قنة مشرفة على الكعبة منحنية. والغار في تلك الحنية. قال رؤبة بن العجاج:
فلا وربّ الامنات القطن ... وربّ ركن من حراء منحني
وسمي الغار باسم هذا الجبل، وكان هذا الغار معروفا عند العرب في الجاهلية، وكان بعضهم يخلو فيه ويتعبد، وقد ذكره أبو طالب في قصيدته المشهورة فقال:
وثور ومن أرسى ثبيرا «3» مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
__________
(1) حراء بمد ويقصر، ويصرف، ويمنع من الصرف.
(2) وقد اختلف في تعبده صلّى الله عليه وسلّم قبل النبوة: أكان على شرع أم لا؟ فقيل: كان يتعبد بالتفكر والتأمل في ملكوت الله، وبديع صنعه، وقيل: كان يتعبد بشرع من قبله، وقد اختلف في: على أي شرع كان يتعبد؟ والأصح أنه كان يتعبد على شريعة أبيه وأبي الأنبياء الخليل- عليه السلام- وكانت قد بقيت منها شرائع لا زالت مأثورة عند العرب.
(3) هو جبل اخر بمكة.
وللغار مدخل يتسع للرجل البدين، ويقف فيه الرجل الفارع، ويتسع لبضعة رجال يصلون ويجلسون، وقد صعدت إليه وأنا في سن الشباب في أكثر من ساعة، وجلست فيه، وصليت ركعتين، فلله الحمد والمنة.
والغار في مكان يبعث على التأمل والتفكر، تنظر إلى منتهى الطرف فلا ترى إلا جبالا كأنها ساجدة متطامنة لعظمة الله، وإلا سماء صافية الأديم، وقد يرى من يكون فيه مكة إذا كان حاد البصر.