وكان من عادة أشراف العرب أن يتلمّسوا المراضع لأولادهم في البوادي ليكون ذلك أنجب للولد، وأصح للبدن، وأصفى للذهن، وأبعد عن الوخم،
__________
(1) بضم الثاء، وفتح الواو، وسكون الياء، فباء مواحدة، فتاء تأنيث، وقد اختلف في إسلامها، ولم يذكر إسلامها إلا ابن منده. وأما مسروح فقال البرهان: لا أعلم أحدا ذكره بإسلام.
(2) أي اجتمع في تحريمها سببان. كونها ربيبة، وكونها ابنة أخيه من الرضاع.
والكسل. وكانوا يقولون: إن المربّى في المدن يكون كليل الذهن، فاتر العزيمة، ضعيف البنية. هذا إلى ما في نشأتهم بين الأعراب من استقامة اللسان بالفصيح من الكلام، والسلامة من اللحن، والبراءة من الهجنة. ولما قال الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه- للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما رأيت من هو أفصح منك يا رسول الله؟» فقال: «وما يمنعني، وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد» .
فمن ثمّ كانوا يرسلون أبناءهم إلى البادية حتى يبلغوا الثامنة أو العاشرة، ومن القبائل من كان لها في المراضع شهرة، وفي الفصاحة مكان، ومنها قبيلة بني سعد التي منها حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية مرضعة النبي، وقد مكث عندها سنتين، ثم عادت به كي تراه أمه، فما إن رأته، وملأت عينيها منه حتى احتضنته وقبلته، وسرها ما رأته عليه من علامات الصحة، والنضارة، والنمو، وتوسلت حليمة إلى أمه أن ترجعه معها حتى يكبر؛ فإنها تخشى عليه وباء مكة، وما زالت بها حتى قبلت، ثم عادت به بعد سنتين «1» ، وهي بادية القلق، شديدة التخوف عليه، حتى أحسّت ذلك منها السيدة امنة، فسألتها عن سبب ذلك، فأنكرت أن يكون هناك شيء، ثم لم تلبث أن أخبرتها بقصة الملكين اللذين جاا إليه وهو في غنم لهم مع أخيه السعدي، فشقّا صدره، فطمأنتها أمّه أنه لا سبيل للشيطان عليه، وأنه سيكون له شأن، وقالت لها: دعيه عنك، وانطلقي راشدة.
وسأدع السيدة حليمة تقص القصة لما فيها من العبرة والروعة، ورعاية الله لنبيه من الصغر، قالت:
قدمت مكة في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء «2» في سنة شهباء «3» ،
__________
(1) هذا هو الذي جزم به الحافظ زين الدين العراقي في نظم السيرة، والحافظ ابن حجر في سيرته، وهي صغيرة مفيدة التزم فيها الأصح، فقد قالا: إن شق الصدر كان في الرابعة، وكفى بهما إمامين حافظين، لا ما ذكره ابن إسحاق من أنه كان في أوائل الثالثة بعد شهرين أو ثلاثة من رجوع حليمة به.
(2) جمع رضيع.
(3) ذات جدب وقحط.
على أتان لي، ومعي صبي لنا «1» ، وشارف لنا «2» ، والله ما تبضّ «3» بقطرة، وما ننام ليلنا ذلك مع صبينا ذاك، لا يجد في ثديي ما يغذيه «4» ، ولا في شارفنا ما يغذيه، فقدمنا مكة، فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتأباه إذا قيل إنه يتيم!! وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أب الصبي، فكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه؟ فكلنا نكرهه لذلك.
فو الله ما بقيت من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، فلما لم أجد غيره قلت لزوجي «5» : والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقنّ إلى ذلك اليتيم فلاخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي عسى أن يجعل الله لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فإذا به مدرج في ثوب من صوف أبيض من اللبن، يفوح منه المسك، وتحته حرير أخضر، راقد على قفاه يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدا «6» ، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكا، وفتح عينيه لينظر إلي، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء، وأنا أنظر!! فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديي الأيمن، فأقبل عليه بما شاء من لبن «7» ، فحوّلته إلى الأيسر، فأبى، فكانت تلك حالته بعد «8» .
__________
(1) هو عبد الله بن الحارث الذي كانت ترضعه.
(2) ناقة مسنة والشارف يطلق على الذكر والأنثى ولكن المراد هنا الأنثى.
(3) بفتح التاء وكسر الباء أي تدر.
(4) عند ابن إسحاق بالدال المهملة، وعند ابن هشام بالذال المعجمة، وهي أتم من الأولى لأن فيها الاقتصار على الغداء دون العشاء.
(5) هو الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة السعدي، يكنى: أبا ذؤيب، أدرك الإسلام، وأسلم، وعدّه من الصحابة صاحب الإصابة، وهو الذي يقال له: أبو كبشة، وهو الذي عنته قريش لما قالوا: إن ابن أبي كبشة يزعم أنه يكلّم من السماء!!
(6) بتؤدة وتمهل.
(7) در الثدي لبنا كثيرا.
(8) هذا من الصفات التي فطره الله عليها من الصغر من القناعة والعدل والبر، فقد ألهمه الله أن له شريكا في اللبن، فأبى أن يتناول نصيبه.
فروي، وروي أخوه، ثم أخذته بما هو إلى أن جئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء الله من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، فقام صاحبي «1» إلى شارفنا تلك، فإذا بها لحافل «2» ، فحلب لنا، فشرب، وشربت حتى روينا، وبتنا بخير ليلة.
فقال صاحبي: تعلّمي «3» يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، قلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا فركبت أنا أتاني «4» ، وحملته عليها معي، فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك ارفقي علينا «5» ، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟! فأقول لهن: بلى- والله- إنها لهي هي!! فيقلن: والله إن لها لشأنا!!
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح عليّ حين قدمنا به معنا شباعا لبّنا «6» فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم «7» : ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبّنا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه، وفصلته، وكان يشب شبابا لا يشبّه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا «8» .
قالت: فقدمنا به على أمه، ونحن أحرص شيء على مكثه هاهنا، لما كنا
__________
(1) تعني زوجها.
(2) ممتلئة الضرع من اللبن.
(3) أي اعلمي.
(4) حمارتي.
(5) انتظري وتمهلي.
(6) جمع لبون.
(7) جمع راع.
(8) قويا شديدا.
نرى من بركته، فكلّمنا أمه، وقلت لها: لو تركت بنيّ عندي حتى يغلظ «1» ، فإني أخشى عليه وباء مكة «2» قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا «3» .
,
وكانت حليمة- رضي الله عنها- تداعب النبي، وترقّصه، وتناغيه كما تفعل الأمهات مع الأبناء، فمن ذلك قولها:
يا ربّ إذ أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا ورقّه
وادحض أباطيل العدا بحقّه
وكانت الشيماء «4» ، أخته من الرضاعة، تقول:
هذا أخ لي لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي
فديته من مخول معمّي «5» ... فأنمه «6» اللهمّ فيما تنمي
وكانت تقول أيضا:
يا رب أبق أخي محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا
ثم أراه سيدا مسوّدا ... واكبت أعاديه معا والحسدا
وأعطه عزا يدوم أبدا
__________
(1) يقوى أكثر ويكبر.
(2) بفتح الواو والمد أو القصر: الطاعون.
(3) روى هذه القصة ابن إسحاق، وابن راهواه، وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، يزيد بعضهم عن بعض. انظر سيرة ابن هشام ج 1، ص 163، 164؛ شرح المواهب ج 1، ص 171- 174.
(4) بفتح الشين وسكون الياء، ويقال: الشماء بلا ياء، وهي ابنة الحارث بن عبد العزّى وابنة السيدة حليمة، اسمها جدامة- بضم الجيم وفتح الدال- وقيل: حذامة بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة، وقيل: خذامة بضم الخاء المعجمة.
(5) كريم الأخوال والأعمام، والياء لضرورة الشعر.
(6) نمى من باب رمى كثر وزاد ويتعدى بالهمزة، والتضعيف.
,
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أعرف الناس بالجميل وأشدهم مكافأة عليه، وقد قدم عليه بعد أن أظهر الله الإسلام أبواه من الرضاع فأكرمهما، وبسط لهما رداءه، ووصلهما، وكانت الشيماء وقعت في سبايا هوازن، فلما عرفها قال لها: «إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك، وترجعي إلى قومك فعلت» ؟ فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي. فوصلها، وأكرمها، وردّها إلى قومها، ويقال: إنه أعطاها غلاما وجارية، فزوجتهما، وتناسلا.