ها هي السنة السادسة كادت تنتهي، وقد أصبح المسلمون مرهوبي الجانب في الجزيرة، ولئن لم تكن فيها موقعة فاصلة فقد حفلت بسرايا كثيرة تمخضت عن قوة المسلمين، ورعب المشركين وهزيمتهم، وها هم المسلمون قد اشتاقوا إلى زيارة الكعبة البيت الحرام: بيت ابائهم وأجدادهم ومتعبدهم وقبلتهم، فقد مضى نحو ست سنين ولمّا يتشرفوا بزيارة هذا البيت، ويقضوا شيئا من حاجات النفس المشوقة إليه.
وأذكى هذا الشوق، وقوّى الأمل في نفوسهم رؤيا راها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأى أنهم يدخلون المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصرين، ولكن كيف للمسلمين هذا، والمشركون حريصون على صدهم عن البيت، وأهون عليهم أن يموتوا جميعا من أن يدخلها عليهم المسلمون عنوة؟ لذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم بثاقب فكره أن يستنفر العرب ومن حوله من الأعراب، ليخرجوا معه معتمرين، كي تعلم قريش أنه لا يريد حربا، فاستجاب له بعض الأعراب، وأبطأ عنه الكثيرون.
,
وفي ذي القعدة من هذا العام خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في زهاء ألف
__________
(1) الحديبية- بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة وباء مواحدة مكسورة وياء منهم من خففها ومنهم من شددها- قرية بالقرب من مكة على مرحلة منها سميت ببئر هناك.
وخمسمائة «1» من المهاجرين والأنصار، ومن لحق بهم من الأعراب، واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي، وأحرم بالعمرة «2» هو والكثيرون من أصحابه، وساق معه الهدي سبعين بعيرا حتى يكون إيذانا للناس أنه لم يرد حربا، وإنما خرج زائرا للبيت ومعظما له.
,
وخرج رسول الله حتى إذا كان بعسفان «3» لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل «4» ، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموا إلى كراع الغميم «5» .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟! فو الله لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» «6» .
__________
(1) ذكر ابن إسحاق في سيرته أنهم كانوا سبعمائة، وهو خلاف ما ذكره المحدّثون في الصحاح وغيرها وكتب السير من أنهم كانوا بضع عشرة مائة، وقد استنتج ذلك مما روي أن النبي ساق سبعين بدنة، كل بدنة عن عشرة، وهذا ليس بلازم، فإن بعضهم قد يهدي بغير الإبل، كما أن بعضهم لم يكن محرما كأبي قتادة كما ثبت في الصحيح (صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب غزوة الحديبية) .
(2) هذا هو الصحيح، وهو ما ذكره المحدثون وكتاب السير، لا ما ذكره الدكتور هيكل في كتابه «حياة محمد» من أن النبي أذّن في الناس بالحج.
(3) قرية على مرحلتين من مكة أي مسيرة يومين.
(4) العوذ: جمع عائذ، وهو من الإبل الحديثة النتاج. والمطافيل جمع مطفل: التي معها أولادها، والمراد أنهم خرجوا ومعهم النساء والأولاد، والكلام على الاستعارة.
(5) واد أمام عسفان بثمانية أميال.
(6) السالفة صفحة العنق وهو كناية عن الموت.
ثم تفادى رسول الله الاصطدام بخيل المشركين فقال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» ، فقال رجل من أسلم: أنا، فسلك بهم طريقا وعرا صعبا خرجوا منه بعد مشقة وجهد، فأفضوا إلى أرض سهلة منبسطة، فقال رسول الله: «قولوا، نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوها، فقال:
«والله إنها للحطّة «1» التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها» ثم سلكوا طريقا انتهى بهم إلى ثنيّة المرّار قرب الحديبية.
وفي هذا المكان بركت ناقة رسول الله فزجروها فلم تقم، فقالوا: خلأت حرنت- القصواء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما هو بخلق لها، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» ثم قال للناس: «انزلوا» فقالوا:
ما بالوادي من ماء ينزل عليه، فأخرج سهما من كنانته، فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل به في بئر فغرزه في جوفه، فجاش بالماء حتى ضرب الناس بعطن، فشربوا وسقوا دوابهم.
,
رأت قريش ألاقبل لها بحرب المسلمين، وإلّا دارت عليهم الدائرة، ونمى إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد حربا، فأرسلت إليه من يفاوضه تعرفا على قوة المسلمين وعزمهم على القتال من جهة، وطمعا في صد المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهة أخرى.
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، وَقُولُوا حِطَّةٌ ... سورة البقرة: الايتان 58- 59، فبدّلوا، وغيروا، وسخروا، وتهكموا، ومعنى «وقولوا حطة» أي حط يا رب عنا ذنوبنا، واغفرها لنا. وفي المقارنة دلالة على طيب عنصر الصحابة وطاعتهم للرسول، وخبث اليهود، ولؤم طباعهم، وعصيانهم لنبي الله موسى.
,
فأتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة وكانت خزاعة عيبة «1» نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها وكافرها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة- فسألوه عما جاء به، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظّما له، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإنه لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرا للبيت، فاتهموهم وقالوا: وإن جاء لا يريد قتالا فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة!!.
,
ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص، فلما راه رسول الله قال: «هذا رجل غادر» ، فلما انتهى إلى رسول الله قال له نحو ما قال لبديل، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال.
,
ثم بعثوا بحليس سيد الأحابيش، فلما راه رسول الله قال: «إنّ هذا من قوم يتألّهون «2» ، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه» فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله إعظاما لما رأى، فأخبرهم بما رأى، فقالوا له:
اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب الحليس وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاءه معظّما له!! والذي
__________
(1) عيبة- بفتح المهملة وسكون التحتانية- ما توضع فيها الثياب لإخفائها، أي موضع النصح له والأمانة على أمره، كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب.
(2) يتألهون: يتعبدون ويعظمون شعائر الله.
نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنّ بالأحابيش «1» نفرة رجل واحد، قالوا: مه، كفّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
,
ثم بعثوا إلى رسول الله حكما يطمئنون إليه، وهو عروة بن مسعود الثقفي، فخشي أن يناله من التعنيف وسوء المقالة ما نال من سبقه وهو من يعرفون، فقالوا له: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله، فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أو شاب «2» الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك- بلدك- لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وايم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
فلم يتمالك الصدّيق نفسه- وقد أحفظته هذه المقالة الكاذبة- أن ردّ على عروة ردا جارحا مؤلما، فقال: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أبي قحافة» ، فقال له: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بهذه.
,
وكان عروة يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله وهو مدجّج في السلاح، فجعل يقرع يد عروة بنعل سيفه ويقول له: اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل ألاتصل إليك، فاغتاظ عروة
__________
(1) الأحابيش جمع أحبوش- بفتح الهمزة والباء- وهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة. كانوا قد تحالفوا تحت جبل يقال له الحبشي أسفل مكة، وقيل سموا بذلك لتجمعهم. والتحبش والحباشة الجماعة «فتح الباري، ج 5 ص 342» .
(2) أوشاب: أخلاط.
وقال: من هذا يا محمد!: قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» ، فقال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس «1» !!.
فكلمه رسول الله بنحو ما كلم به من سبقه وأنه ما جاء يريد حربا، وكان عروة يرمق أصحاب رسول الله ويتعرف أحوالهم، فرأى أمرا عجيبا: رأى رسول الله لا يتنخّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده!! وإذا أمرهم ابتدروا أمره: أيهم ينفذه أولا!! وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه!! وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له!!.
فرجع عروة إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه، لقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فإني لكم ناصح، فقالت قريش: لا تتكلم بهذا، ولكن نرده عامنا هذا ويرجع من قابل.
,
وقد رأى رسول الله حرصا على حرمة البيت، وإيثارا للسلام على الحرب أن يرسل رسلا إلى قريش بمكة، لاحتمال ألايكون عند رسل قريش من الشجاعة ما يحملهم على المصارحة بالحقيقة. فأرسل خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش، حمله على بعير له ليبلّغ أشرافهم ما جاء الرسول إليه، لكنهم استبد بهم الحمق والغضب، فعقروا به البعير، وأرادوا قتله، لولا أن منعتهم الأحابيش أحلافهم، فخلّوا سبيله.
,
ثم دعا رسول الله عمر بن الخطاب ليكون رسولا إلى أهل مكة، فقال:
يا رسول الله، إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي من
__________
(1) كان المغيرة قد قتل الجماعة في الجاهلية، فتحمل ديتهم عمه عروة هذا، فلهذا استنكر معاملته له، ولكنه الإيمان يسمو بصاحبه عن الأهل والولد والمال!! وغدر- بضم الغين وفتح الدال- كثير الغدر.
يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني: عثمان بن عفان، فقبل الرسول منه الاعتذار، واستحسن ما عرضه عليه، فدعا عثمان فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش ليخبرهم بقصد رسول الله، فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي «1» ، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
,
وأرسلت قريش نحوا من خمسين رجلا منهم، عليهم مكرز بن حفص ليطيفوا بعسكر المسلمين عسى أن ينالوا منهم غرّة، فأسرهم حارس الجيش محمد بن مسلمة؛ وهرب رئيسهم، وأتى بهم إلى رسول الله فعفا عنهم تشبثا منه صلى الله عليه وسلم بخطة السلم، واحتراما للشهر الحرام أن يسفك فيه دم، وقد بهتت قريش حين عرفوا ذلك، وسقطت كل حجة لهم في أن النبي يريد حربا، وأيقنوا أن أي اعتداء من جانبهم على المسلمين لن تنظر إليه العرب إلا على أنه غدر لئيم، للمسلمين الحق كل الحق في أن يدفعوه- وما أقدرهم- بكل ما أوتوا من قوة، وفي هذا نزل قول الله:
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً «1» .
,
لم يكن بدّ لقريش وقد جرى ما جرى من أن تفكر في الصلح جديا، وأن تنتهي هذه الحالة التي قد تدور بسببها الدائرة عليهم، فأرسلوا سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ائت محمدا وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فلما انتهى سهيل إلى رسول الله وراه تفاءل به وقال: «لقد سهل لكم من أمركم» وتكلم سهيل فأطال الكلام، وتراجع هو والنبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهيا إلى صيغة الصلح، وتم الاتفاق ولم يبق إلا الكتاب.
__________
(1) سورة الفتح: الاية 24.
,
وكانت شروط الصلح على ما يأتي:
1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين «1» ، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، وأن بينهم عيبة مكفوفة، فلا إسلال- سرقة- ولا إغلال- خيانة-.
2- من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه.
3- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهداهم دخل. فدخلت خزاعة في عهد الرسول، ودخلت بنو بكر في عقد قريش.
4- أن يرجع النبي وأصحابه من غير عمرة هذا العام، فإذا كان العام القابل خرج عنها المشركون، فيدخلها المسلمون ويقيمون بها ثلاثا ليس معهم من السلاح إلا السيوف في قربها- أغمادها-.
وقبل النبي هذه الشروط على ما في بعضها بادىء الرأي من إجحاف بالمسلمين؛ لأنه يصدع بأمر الله وإلهامه ولن يضيعه الله أبدا، ولحرصه على أن يسود السلام ويحفظ للبيت حرمته.
__________
(1) ذكر الشيخ محمد الخضري رحمه الله في كتابه «نور اليقين» ص 190 أن مدة الصلح كانت أربع سنين، وقد تابعه بعض الكتاب المعاصرين، والذي في السير وكتب الحديث أن المدة عشر سنين، وأما رواية الأربع فضعيفة منكرة.
,
أما المسلمون فرأى بعضهم كالصدّيق ما رأى الرسول في الشروط وسلّموا بها، ورأى بعضهم ولا سيما في الشرط الثاني إجحافا بحق المسلمين، وقالوا:
سبحان الله!! كيف نرد إليهم من جاء مسلما، ولا يردّون إلينا من جاء مرتدا؟
فأجابهم الرسول بهذا الجواب الحكيم: «إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا» .
ومن هذا الفريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكما هو معروف عنه من الصلابة في الحق وحب المراجعة فيما لم يستبن له فيه وجه الحق والصواب؛ أبى إلا أن يعلن عما في نفسه، فذهب إلى الصدّيق رضي الله عنه، فقال:
يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!! فقال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه «1» - طريقته-، فإني أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
وكأن الفاروق لما يزل في نفسه بعض الحرج في قبول هذا الشرط، فرأى أن يستبين من الرسول وجه الحق وأن يسمع منه، فأتى رسول الله وقال له:
ألست برسول الله؟ قال: «بلى» ، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» ، قال:
أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال الرسول: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني «2» » ، فلم يكن بدّ من أن يذعن الفاروق وينتظر ما تجيء به الأيام، ولم تلبث الأحداث أن أظهرت بعد نظر الرسول كما ستعلم عن كثب.
__________
(1) الغرز للبعير: كالسرج للفرس، والمراد الزم أمره وطريقته وإياك والمخالفة.
(2) هذا ما ورد في السيرة لابن إسحاق، وفي الصحيح أنه أتى النبي أولا فسأله، ثم أتى أبا بكر بعد ذلك فسأله، وقد رجّحت ما في السيرة على ما في الصحيح لأن بقاء شيء من الشك بعد سؤال الفاروق للصدّيق حتى سأل النبي فأزال ما بقي عنده أقرب من بقاء شيء من الشك بعد سؤال عمر للنبي حتى سأل الصدّيق فأجابه وأزال ما بقي عنده، والله أعلم.
وقد استشعر الفاروق وقد هدأت ثورته النفسية أنه ربما يكون قد جانبه الصواب في التردد في السؤال، أو احتمال أن يظن به الشك، فكان يقول:
ما زلت أصوم وأتصدّق، وأصلّي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمات يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا، وفي صحيح البخاري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، أي الأعمال الصالحة المذكورة.
,
وكذلك كانت هناك مسألة أخرى تتردد في نفس بعض المسلمين وهي الرؤيا التي راها رسول الله في دخولهم المسجد الحرام، فقد ظنّوا أنها هذا العام، فلما لم تتحقق وانتهى الصلح بالتأجيل وجدوا لذلك أسى وحزنا في نفوسهم، حتى بين لهم الرسول أن الرؤيا ليس بلازم أن تتحقق هذا العام، فقد سأل الفاروق عمر رسول الله عن هذا، فقال: «أفأخبرتك أنك تأتيه هذا العام؟» ، قال: لا، قال: «فإنك اتيه ومطوّف به» ، وكذلك سأل الفاروق الصديق عن الرؤيا، فأجابه بما أجاب به الرسول «1» .
,
ودعا رسول الله علي بن أبي طالب ليكتب الكتاب، فقال له: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال سهيل: أما الرحمن فلا أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم، فأبى المسلمون، فقال النبي: «اكتب باسمك اللهم» ثم قال: «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» ، فقال سهيل: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله: «والله إني لرسول الله حقا وإن كذبتموني» ، ثم أمر عليا بمحو ما كتب وكتابة محمد بن عبد الله، فامتنع علي
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب الشروط- باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وصحيح مسلم- كتاب الجهاد والسير- باب أسباب صلح الحديبية.
تأدبا، فأخذ رسول الله الصحيفة فمحاها وكتب محمد بن عبد الله وهو لا يحسن أن يكتب «1» .
وبعد أن فرغ علي من كتابة الشروط أشهد الرسول على الكتاب رجالا من المسلمين، وهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة. وشهد من المشركين حويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص. وكتب من شروط الصلح نسختان: نسخة للنبي ونسخة لقريش.
,
وإن لنا هنا لوقفة ترينا مبلغ صبر الرسول واحتماله، وتنازله عن بعض حقوقه في سبيل إتمام الصلح، ولو أن النبي استجاب لرغبات بعض المسلمين أو لهوى في نفسه لما تمّ الصلح، وهذا يدل على أنه نبي يوحى إليه، كما يدل على سمو نفسه سموا يعلو على الجاه وعن هوى النفس وعن الألقاب، وكل ذلك كان حرصا على الوفاء بما وعد به حيثما قال: «والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» .
وإن ما حدث في صلح الحديبية ليعتبر مثلا يحتذى في المساهلة في الشروط طلبا للأمن والسلام، فهل يكون فيما صنعه رسول الله قدوة للقواد والزعماء والرؤساء في عالمنا المضطرب الخائف، الذي يشاهد كل يوم مؤتمرات واجتماعات في سبيل السلام والحد من التسابق المجنون في سبيل التسلح ثم تنتهي إلى لا شيء؟!!.
,
وبينا علي يكتب الكتاب جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيود الحديد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبوه فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه وقال: يا محمد هذا أول من أقاضيك عليه أن ترده، فقال النبي: «إنا لم نقض الكتاب بعد» ،
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب عمرة القضاء، وباب الحديبية، وكتاب الشروط- باب الصلح في الجهاد.
فقال سهيل: فو الله إذا لم أصالحك على شيء أبدا، فقال النبي: «فأجزه لي» فأبى فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت؟ فازداد الناس غما فقال له الرسول: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم» .
,
ولما فرغ النبي من كتابة العهد قال لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» ثلاث مرات- فما قام منهم أحد، فقد أذهلهم ما هم فيه من الغم، والحزن عن أمر الرسول، فدخل رسول الله على زوجه أم سلمة وكانت خرجت القرعة عليها في سفر رسول الله هذا، فذكر لها ما وجد من الناس، فقالت- وكانت عاقلة حازمة-: يا نبي الله، اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج فلم يكلّم أحدا منهم حتى فعل ذلك، فلما رأوا ما فعل الرسول قاموا فنحروا، وحلق بعضهم وقصّر اخرون، فقال الرسول: «يرحم الله المحلّقين» قالوا: والمقصّرين يا رسول الله، قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصّرين، قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصّرين، قال: «والمقصرين» قالوا:
يا رسول الله لم ظاهرت- كررت- الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال:
«لأنهم لم يشكّوا» .
,
ثم اب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغتبط بما أتمّ من صلح، وفي الطريق أنزلت عليه سورة الفتح. روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثلاثا- قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل فيّ القران، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن
يكون نزل فيّ قران، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّمت عليه، فقال: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس» ثم قرأ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
ورواه أيضا الإمام أحمد الترمذي والنسائي والطبراني، وقد بيّنات رواية الطبراني ورواية أخرى لأحمد أن نزولها كان مرجعه من الحديبية، وهو المراد بالسفر المذكور، وقد اختلف في مكان نزولها، فقيل: بالجحفة، وقيل: بكراع الغميم، وقيل بضجنان، والأماكن الثلاثة متقاربة «1» . وهذا يدل على أن هذه السورة نزلت بعد صلح الحديبية لا بعد فتح مكة، كما يزعم بعض الناس.
,
وقد بيّنات هذه الرواية الصحيحة وغيرها أن المراد بالفتح في مفتتح السورة هو صلح الحديبية وما جرى فيها من البيعة، وقد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمّع بن حارثة قال:
وشهدنا الحديبية، فلما انصرفنا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم، وقد جمع الناس يقرأ عليهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، فقال رجل:
يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: «أي والذي نفسي بيده إنه لفتح» . كما ورد ذلك صريحا عن بعض الصحابة، روى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: الحديبية. وروى بسنده عن البراء بن عازب قال:
تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، يعني الفتح في قوله: إِنَّا فَتَحْنا ... «2» .
وما أحسن ما ورد عن الصدّيق رضي الله عنه في هذا قال: (ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد) .
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي ج 7 ص 158 وفتح الباري ج 8 ص 473.
(2) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة الفتح.
وقال الإمام الزهري: (ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلّم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تيناك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر) . وليس أدل على هذا من أن المسلمين كانوا في الحديبية حوالي ألف وخمسمائة، وكانوا في فتح مكة عشرة الاف «1» .
ولكي تزداد يقينا بأن صلح الحديبية فتح مبين نسوق لك ما أفاده المسلمون من هذا الصلح.
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 2 ص 322.
,
1- اعترفت قريش بالمسلمين اعتراف الندّ بالندّ، وفي ذلك دعاية للإسلام لا يستهان بها إن لم تكن ذات بال عند قريش فسوف يسمع بها العرب، وفي ذلك تمهيد لا تساع نفوذ الإسلام وسطوته.
2- إنّ هذه الهدنة ضمنت للمسلمين الانصراف إلى تبليغ دعوة الإسلام في كافة أنحاء الجزيرة وما يتاخمها من الدول والإمارات، وهذا ما كان، فقد كاتب النبي الملوك والأمراء وبذلك انتشر الإسلام أضعاف انتشاره من قبل.
3- اعتراف المشركين بمجيء المسلمين معتمرين من العام القابل أكسب المسلمين الحق في زيارة البيت من غير مناجزة ولا حرب، وهذا ما كان يريده المسلمون.
4- كان أشد ما أحفظ بعض المسلمين من الصلح: أن من أتى المسلمين من قريش ردّ، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يرد، وقد أثبت الواقع أنه لم يرتد مسلم، وبذلك أصبح هذا البند من الشرط غير ذي خطر، كما كان النبي يعلم بثاقب فكره، واستضاءة قلبه بنور الوحي وفيوضاته أن الفقرة الأولى من هذا الشرط ستجر على قريش متاعب كثيرة، قد تضطرها إلى التنازل عنه، بل والإلحاح في ذلك، وهذا ما صدّقته الحوادث بأسرع مما كان يظن.
,
فقد جاء أبو بصير عروة بن أسيد الثقفي من قريش إلى المسلمين بالمدينة، فأرسلت قريش في طلبه رجلين فسلّمه لهما النبي وقال له: «يا أبا بصير، إنا قد
أعطينا هؤلاء القوم عهدا ولا يصح في ديننا الغدر، وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك» ، فقال أبو بصير:
يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فكرّر عليه النبي قوله.
فخرج مع الرجلين، حتى إذا كان بذي الحليفة تحايل على أحد الرجلين فأخذ منه سيفه فضربه به حتى برد «1» ، وفرّ الاخر يعدو حتى دخل مسجد المدينة فلما راه رسول الله قال: «قد رأى هذا ذعرا» وأخبر رسول الله بما جرى فأمنه، ولم يلبث أبو بصير أن جاء وقال: يا رسول الله قد- والله- أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي: «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد» «2» .
ففطن الرجل لمقالة الرسول، وخرج حتى نزل (العيص) على ساحل البحر في طريق قريش إلى الشام، ولم يلبث أن انفلت أبو جندل ولحق به، وهكذا صنع كل من ضيّق عليه واحتجز بمكة حتى تكوّن منهم نحو السبعين رجلا، فقطعوا على قريش تجارتها، فماذا كان من أمر قريش؟ لقد أرسلت إلى رسول الله تناشده الله والرحم أن يرسل إليهم ويؤويهم، وأن من أتاه مهاجرا من المسلمين فهو امن ولا يرد.
وهكذا صدّق الله فراسة نبيّه، وعلم المسلمون الذين امتعضوا من هذا الشرط أن أمر رسول الله أعظم بركة من أمرهم، وأن رأيه لهم أولى من رأيهم لأنفسهم، وازدادوا إيمانا بأن الله ناصر نبيه، وناشر دينه، ورضي الله عن الصحابي الجليل سهل بن حنيف، فقد كان يقول: (اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله أمره لرددت، والله ورسوله
__________
(1) برد: مات.
(2) ويل أمه: كلمة ذم. والمراد بها هنا المدح. مسعر حرب: مثيرها ومحركها، ومسعر بالنصب على التمييز وهو وصف له بالإقدام.
أعلم) «1» . وأخرج البزار عن عمر قال: (اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي، وما ألوت عن الحق) ، وفيه قال:
(فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت، حتى قال لي: «يا عمر تراني رضيت وتأبى» ) ؟!!.
__________
(1) رواه البخاري.
,
كان من شروط الصلح كما أسلفنا أن من جاء من قريش إلى النبي مسلما ردّ، فما استقر المقام للنبي بالمدينة حتى جاءت نسوة مؤمنات من قريش منهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فيها أن يردها إليهما فأبى، وروي أنه قال: «كان ذلك في الرجال لا في النساء» ، فأنزل الله سبحانه قوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ... الاية «1» .
__________
(1) سورة الممتحنة: الاية 10.
وهكذا صدّق الله نبيه فيما قال، وأن النساء لا يدخلن في العهد الذي مضى، وأنهن يختبرن، فإن ظهر إيمانهن لا يرجعن إليهم أبدا.
,
فَامْتَحِنُوهُنَّ: وكانت صيغة الامتحان كما روى ابن جرير عن ابن عباس: أن تقسم بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، ولا عشقا لرجل، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله، فإذا قالت ذلك اكتفي به في إيمانها وحرم إرجاعها إلى المشركين، وذلك لأنّ المرأة لا يؤمن عليها الفتنة، أما الرجل فله في أرض الله الواسعة ملجأ كما صنع أبو جندل وأبو بصير وغيرهما. اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ: يعني يكفيكم هذا في اختبارهن فلكم الظاهر والله يتولى السرائر.
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ: وهذه الاية هي التي حرمت النساء المسلمات على أزواجهن المشركين، فإن أسلم زوجها فهو أحق بها ما لم تتزوج غيره، وقد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب لأبي العاص بن الربيع لمّا أسلم، بعد نزول هذه الاية، قيل: بالعقد الأول، وقيل بعقد ومهر جديدين. وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا:
أي أعطوا أزواج المهاجرات المسلمات من المشركين ما أنفقوا من مهور.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ: أيها المسلمون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ:
أي مهورهن بشرط انقضاء عدتهن. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ: جمع كافرة، والمراد المشركات لا الكتابيات، نهي المسلمون عن الاستمرار مع زوجاتهم المشركات بهذه الاية كما نهوا عن زواجهن ابتداء بقوله سبحانه: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. ولما نزلت اية الممتحنة طلّق المسلمون أزواجهم المشركات، فقد كان لسيدنا عمر زوجتان بمكة فطلقهما، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، وتزوج الاخرى أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما قبل أن يسلما.
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ: يعني إذا لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة
فاسألوا ما أنفقتم من المهر ممن تزوجها منهم، قيل لم ترتد امرأة مسلمة قط، وقيل ارتدت واحدة ثم عادت فأسلمت فيما بعد، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا: يعني للمشركين الذين لحقت زوجاتهم المؤمنات بكم أن يسألوا ما أنفقوا من المهر ممن تزوجها منكم. وهذا غاية العدل في التشريع ولذا قال: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: أي عليم بما يصلح العباد حكيم في تشريعه.
ولما نزلت قال المسلمون: رضينا بما حكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا من أداء مهور من ارتددن أو ثبتن على كفرهن، فأنزل الله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا يعني لو ذهبت إليهم امرأة مرتدة ولم يعطوا زوجها ما أنفق من مهر، فأعطوه مما بأيديكم من مهور النساء اللاتي جئن مهاجرات، ولا تعطوا مهورهن لأزواجهن المشركين، وذلك على سبيل المعاقبة والمقابلة بالمثل.
وقيل معنى عاقَبْتُمْ: غنمتم، أي من ذهبت زوجته مرتدة إلى المشركين ولم يعطوه ما أنفق من مهر فأعطوه مما غنمتم وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ: أي اتقوا الله واحذروا أن تتعدّوا ما شرعه الله لكم، ولا تستجيبوا لأهوائكم في معاملة أعدائكم لأن الشأن في المؤمن أن يتقي على كل حال.