وما كان لنا أن نمر بهذه القصة دون أن نعلّق عليها ففيها دلالة قوية على صدقه صلّى الله عليه وسلّم، فلو كان طالب ملك، أو جاه، أو يتجر بالمبادىء يصنع كما يصنع دهاقين السياسة في القديم والحديث من استمالة الناس بالأحاديث الكاذبة والوعود الخادعة البراقة، ويمنّيهم الأماني الفارغة حتى إذا تم له ما أراد نسي ما قال، ورجع في وعوده، بل قد يتنكر لهم، ويسفّه عليهم، وينكل بهم، وهذا فرق ما بين النبوة وغيرها، وما بين الداعي إلى الحق وطالب الدنيا.
,
ولم ييأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما كان له أن ييأس، واستمر يغشى القبائل
__________
(1) هكذا في السيرة بباء مفتوحة، وياء ساكنة، وفي البداية والنهاية نقلا عن ابن إسحاق بحيرة.
(2) ما تقوّلها: يعني النبوة.
(3) السيرة ج 1 ص 422- 425؛ البداية والنهاية ج 3 ص 138- 140.
والبطون في المواسم، والمجامع، والمنازل، ويكلم أشراف كل قوم، لا يسألهم مع ذلك شيئا إلا أن يؤووه ويمنعوه، وكان يقول لهم: «لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، وإنما أريد أن تحرزوني «1» فيما يراد لي من القتل حتى أبلّغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي، ولمن صحبني بما شاء» فلم يقبل أحد منهم، وما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا، وقد أفسد قومه، ولفظوه؟!
وقد شاء الله تعالى أن يدخر فضل الاتباع والنصرة للأنصار- رضي الله عنهم-.
,
ولجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى وسيلة أخرى عسى أن يكون من ورائها خير للدعوة، فكان لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدّى له، ودعاه إلى الله تعالى وعرض عليه ما جاء به من الهدى والحق.
,
فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده، وشعره، وشرفه، ونسبه، فتصدى له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما الذي معك» ؟ قال: مجلة «2» لقمان، فقال له رسول الله: «اعرضها علي» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا: قران أنزله الله علي، هو هدى ونور» فتلا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القران، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة
__________
(1) تحفظوني وتحرسوني ففي القاموس: «وحرزه: حفظه، أو هو إبدال، والأصل حرسه» .
(2) المجلة: الصحيفة، وتطلق على الحكمة أي حكمة لقمان.
على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، وقد كان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتل قبل يوم بعاث.
,
لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فجلس إليهم، فقال: «هل لكم في خير مما جئتم له» ؟
قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا، وأنزل عليّ الكتاب» ، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القران، فقال إياس بن معاذ- وكان غلاما حدثا-: هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر كفا من تراب، وضرب به وجهه، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس.
وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وقد روى من حضره من قومه أنه ما زال يهلّل الله ويكبره، ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما سمع.