وتوجه النبي إلى الله الذي بيده كل شيء بالدعاء والثناء على ما نالهم من الجهد والبلاء، فقال لأصحابه: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل» فصاروا خلفه صفوفا ثم دعا بهذه الكلمات المؤمنة العذاب:
«اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت، ولا مبعّد لما قربت.
اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق» «1» .
__________
(1) رواه الإمام أحمد.
,
كانت قريش تود لو أتيحت لها الفرصة للقضاء على النبي والإسلام، ولا سيما بعد ما أصابها من نكسة بسبب نكوصها عن الخروج في بدر الاخرة.
وكان الأعراب الذين نال منهم النبي وصحابته موتورين ويتحينون الفرصة للانتقام. وكان اليهود من بني قينقاع وبني النضير الذين أجلاهم النبي عن المدينة مغيظين محنقين، ويسعون ما وسعتهم الحيلة في القضاء على هؤلاء الذين أجلوهم عن ديارهم، ونسوا عفو النبي عنهم، وكان يمكنه أن يبيدهم بدل إجلائهم، فلا تعجب إذا كانت قوى الشر الثلاث هذه قد تعاونت قصد القضاء على الإسلام والمسلمين، فكانت غزوة الأحزاب.
,
وحمل اليهود وزر التأليب، فخرج وفد منهم على رأسهم حييّ بن أخطب النضري، وسلّام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، ونفر من وائل حتى قدموا على قريش، فدعوهم إلى حرب النبي وقالوا: إنا سنكون معكم حتى نستأصله، فرحبت قريش بمقدمهم، واستجابوا لدعوتهم، وحرضوهم على مواصلة مسعاهم.
,
وانتهزت قريش وجود هذا الوفد الحانق المضلل فقالوا لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق
منه!! وإنها لسقطة من اليهود وهم أهل كتاب أن يفضلوا الوثنية على التوحيد، وقد سجل الله عليهم هذا الموقف المخزي فقال سبحانه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً «1» .
وكفى اليهود خزيا أن يهوديا مثلهم قد اخذهم على هذا الموقف المشين، قال الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» : كان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم «2» .
,
وخرج هؤلاء النفر، فطافوا على بني مرة، وبني فزارة، وبني أشجع وسليم، وبني سعد وأسد، وكل من له عند المسلمين ثأر، يحرضونهم ويعلمونهم أن قريشا معهم.
,
وتجمعت الأحزاب لحرب رسول الله والمسلمين، فخرجت قريش وعلى رأسها أبو سفيان بن حرب في أربعة الاف، معهم ثلاثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير، ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة الذي قتل أبوه وهو يحمل اللواء يوم أحد. وخرجت غطفان يرأسها عيينة بن حصن الأحمق المطاع، الذي صالحه رسول الله وأقطعه أرضا يرعى فيها سوائمه، وكان معه ألف فارس.
وخرج بنو مرة في أربعمائة برئاسة الحارث بن عوف المري. وتجهزت بنو سليم في سبعمائة مقاتل، وبنو أسد يرأسهم طليحة بن خويلد الأسدي، وبنو أشجع.
__________
(1) سورة النساء: الايتان 51- 52.
(2) حياة محمد ص 320.
وهكذا تحزبت الأحزاب حتى صاروا عشرة الاف قائدهم العام أبو سفيان بن حرب، وساروا قاصدين المدينة.
وكانت الخندق في شوال سنة خمس عند جمهور العلماء من أهل المغازي وغيرهم، وهو الصحيح «1» .
,
واتصل نبأ هذا الجمع الحاشد بالرسول، فاستشار أصحابه، أيقيمون في المدينة أم يخرجون للقاء العدو؟ ولما كان عدد المهاجمين عظيما لا قبل للمسلمين على الوقوف أمامهم في سهل منبسط كسهل بدر دون أن تكون العاقبة عليهم، قرّ رأي المسلمين على أن يتحصنوا بالمدينة، ولكن أيجدي التحصن أمام هذا الجيش الكبير؟ وهنالك تقدم سيدنا سلمان الفارسي إلى رسول الله يعرض عليه أن يحفر المسلمون خندقا في الجهة الشمالية، وهي عورة المدينة لا يستطيع المهاجمون نفاذا إلى المدينة إلا منها، إذ إن بقية مداخل المدينة ضيقة المسالك مشتبكة البيوت والنخيل، لا يفكر العدو في النفاذ منها، لما يخشى أن يصيبه من أسطح المنازل ونحوها، ثم هي لا تتسع إلا لعدد من المهاجمين، مما يسهل على المسلمين تصيدهم وإبادتهم، فاستحسن الرسول الفكرة، ودعا له بخير.
,
وشرع المسلمون في حفر الخندق في جو بارد، ورسول الله معهم يحفر ويحمل التراب بنفسه، وقد جعل لكل عشرة منهم أربعين ذراعا، واحتق المهاجرون والأنصار في سلمان كل يريد أن يكون من قبيله، فحسم الرسول الأمر بقوله: «سلمان منا أهل البيت» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما بهم من النصب والتعب نشّطهم بمثل قوله:
اللهمّ إن العيش عيش الاخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
__________
(1) البداية والنهاية، وفتح الباري، ج 7 ص 364 و 375.
فيجيبون قائلين:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وهكذا تجاوبت المشاعر بالإيمان، والعزائم بالكفاح والجلاد.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته يحمل من تراب الخندق حتى وارى عنه التراب جلدة بطنه وكان كثير الشّعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة وهو ينقل التراب يقول:
اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
ثم يمد صوته باخرها، يعني بقول: أبينا. أبينا «1» .
ولا تسل عما كانت تصنعه هذه الكلمات المؤمنة العذاب في نفوسهم من مضاعفة الجهد، والاستهانة بالنصب والتعب، وبهذا العمل الدائب أتموا حفر الخندق في ستة أيام، وقد استعانوا بالأحجار الصلبة فاتخذوا منها متاريس يتحصنون بها.
,
على حين كان المؤمنون المخلصون يجدّون في حفر الخندق كان المنافقون يتخاذلون، ويتسلّلون إلى أهليهم دون إذن الرسول. أما المؤمنون فقد كان الواحد منهم إذا عرضت له الحاجة الملحة استأذن الرسول، فإذا قضى حاجته
__________
(1) في مدّ الصوت بهذا المقطع من البيت ما فيه من التطابق بين اللفظ والمعنى واللحن المعبر، فهو إباء أبيّ، متصل ممدود، لا يعرف الضعف والاستخذاء، ولا الاستكانة والاستسلام.
رجع إلى عمله رغبة في الخير، وطلبا للأجر، وقد أنزل الله في هؤلاء وأولئك قوله:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» .
,
وفي أثناء الحفر عرضت للمسلمين صخرة بيضاء صلدة شقّ عليهم كسرها، فذهب سلمان إلى رسول الله فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها- يعني المدينة- حتى كأنها مصباح في ليل مظلم، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبّر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك. فسألوا رسول الله عن ذلك، فقال: «لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة، ومدائن كسرى، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا» . فاستبشر المسلمون وقالوا:
موعود صادق «2» .
وقد صدّق الله نبوءة نبيه، فكانت معجزة ظاهرة من معجزات النبي، إذ لم يمض على هذه الحادثة إلا نحو ربع قرن حتى فتحت هذه البلاد كلها
__________
(1) سورة النور: الايتان 62- 63.
(2) روى هذه القصة ابن إسحاق، وابن جرير الطبري، والطبراني. وروى أصلها الإمام البخاري في صحيحه.
ودخلت تحت لواء الإسلام، ولذلك كان أبو هريرة- رضي الله عنه- يقول حين فتحت هذه الأمصار: افتتحوا ما بدا لكم، فو الذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك!!
وكنت أحب من المنكرين لنبوة سيدنا محمد أن يتأملوا في هذه النبوات التي صدّقها الزمن، مع أنها قيلت في ظروف وملابسات ما كانت تشجع عليها، فإن أشد الناس تفاؤلا ما كان يجول بخاطره أن يقول هذا، أو يفكر فيه؛ اللهم إلا أن يكون نبيا يوحى إليه.
ولا جائز لقائل أن يقول: لعلها رمية من غير رام فأصابت، لأنا نقول:
إن تاريخ حياته صلى الله عليه وسلم، وما عرف عنه من الاتئاد والتروي في الأمور، وعدم المجازفة في القول، والبصر بالعواقب ونحو ذلك ما أقر به الأعداء والأصدقاء يرد هذا الجواز، ويبعده، فلم يبق إلا أنها نبوات صادقة من نبوات الوحي، فاعتبروا يا أولي الأبصار!!
,
وبعد أن أتم المسلمون الحفر خرج النبي وأصحابه في ثلاثة الاف من المسلمين بعد أن استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وكان يحمل لواء المهاجرين زيد بن حارثة، ولواء الأنصار سعد بن عبادة، وأمر الذراري والنساء فجعلوا فوق الاطام (الحصون) ، وأسند ظهر الجيش إلى جبل (سلع) ، وجعل الخندق بينه وبين المشركين.
,
وأقبلت قريش بجموعها وهي ترجو أن يكون المسلمون بأحد، فجاوزته إلى المدينة، فإذا بها أمام الخندق، فدهشت وعجبت لأن العرب لم يكن لهم عهد بهذا النوع من الدفاع، واتخذت قريش ومن تابعها مكانا لها حول الخندق، وعسكرت غطفان ومن تبعها من أهل نجد بمكان اخر، ورأوا ألاسبيل إلى اجتياز الخندق، فاكتفوا بالترامي بالنبال عدة أيام، وأيقنوا أنهم سيقيمون أياما
طوالا في هذا الشتاء القارص البرد، العاصف الرياح، المنذر بالمطر بين حين واخر.
,
وخرج حييّ بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عهداهم، فلما سمع به كعب أغلق بابه دونه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له وقال:
يا حيي إنك امرؤ مشئوم، وإني عاهدت محمدا عهدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. وما زال حييّ به حتى فتح له فقال: ويحك يا كعب لقد جئتك بعز الدهر، قال: وما ذاك؟ قال: لقد جئتك بقريش على قادتها وسادتها، وبغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني على ألايبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، فقال كعب: دعني يا حيي، فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا!!
وتكلم عمرو بن سعدى القرظي فذكر وفاء الرسول ومعاهدتهم إياه وقال:
إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه، ولكن حييا ما زال بكعب يفتله في الذروة والغارب «1» حتى غلبت عليه يهوديته فاستجاب له، ونقض ما بينه وبين الرسول من عهد، ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العهد إلا بني سعنة: أسد وأسيد وثعلبة، فإنهم خرجوا إلى رسول الله ووفوا بالعهد.
,
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوّات بن جبير وقال: «انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه «2» ، ولا تفتّوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس» .
__________
(1) هذا مثل يضرب في المراوضة والمخاتلة، وأصله في البعير يستصعب عليك فتأخذ القرادة من ذروته وغارب سنامه وتفتل هناك، فيجد البعير لذة فيأنس عند ذلك.
(2) يعني أسلوب التعريض والتلويح لا التصريح.
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوا أن الخبر صحيح، ووقعوا في رسول الله ونالوا منه، فجعل سعد بن معاذ يشاتمهم فأغضبوه، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة، ثم أقبل السعدان ومن معهما فقالوا: عضل والقارة، أي غدر كغدرهم بأصحاب سرية الرجيع، فقال رسول الله: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين» ، ثم تقنّع بثوبه واضطجع، ومكث طويلا، فعرفوا أنه لم يأته خير عن بني قريظة، ثم رفع رأسه وقال:
«أبشروا بفتح الله ونصره» .
,
وعظم البلاء على المسلمين، واشتد الخوف، فقد أتاهم العدو من فوقهم، ومن أسفل منهم، وتنوعت الظنون، وكثرت الهواجس، فأما المؤمنون المخلصون فازدادوا إيمانا، وأيقنوا أن نصر الله لابدّ أن يكون، وأما المنافقون وضعفاء الإيمان فقد كشفوا عن خبيئة نفوسهم حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!!
وعزم البعض على الرجوع إلى المدينة، وتعلّل بعضهم بأن بيوتهم مكشوفة غير محصّنة، واستأذنوا النبي ورجعوا، وهكذا استحكم البلاء، ولاح الشر من كل مكان. ولن تجد أدق في تصوير هذه الحالة من قوله سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ... الايات «1» .
وقد اضطر الرسول وقد نقضت قريظة العهد أن يرسل مسلمة بن أسلم في مائتين، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة لحراسة المدينة خوفا على النساء والذراري
__________
(1) سورة الأحزاب: الاية 9 وما بعدها.
من غدر اليهود، وهكذا تضاءل عدد الجيش الواقف للدفاع قبالة الخندق بانسحاب بعض المنافقين أولا، ثم بهذا العدد الذي وجهه النبي لحراسة المدينة.
,
وقد شجّع نقض قريظة العهد وطول المقام أمام الخندق بلا قتال بعض المشركين على اقتحام الخندق، فتيمّموا مكانا من الخندق ضيقا وأكرهوا خيلهم فاقتحموه منه، فجالت بهم في أرض سبخة بين الخندق وسلع، منهم عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب بن مرداس، فأسرع إلى الخروج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم.
,
وكان عمرو بن عبد ودّ أشجع فارس في العرب، وقد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا، فلما كان يوم الخندق خرج معلما «1» ليرى مكانه، فلما اقتحم الخندق قال: من يبارز؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب وقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه؟ قال: أجل، قال: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام، فقال:
لا حاجة لي بذلك، فقال له: فإني أدعوك إلى النزال، قال له: لم يا ابن أخي فو الله ما أحب أن أقتلك؟ فقال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه، فخرجت خيل الباقين منهزمة حتى اقتحمت الخندق هاربة.
وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة على فرس له بعد ما غربت الشمس يريد أن يجتاز الخندق، فهوى هو والفرس فصرعا، وقيل بل نزل إليه علي بن أبي طالب فقتله، وقيل قتله الزبير بن العوام.
__________
(1) جعل لنفسه علامة ليعرف بها.
فأرسل أبو سفيان بن حرب يعرض دية جثته مائة من الإبل، فرفض عليه الصلاة والسلام ذلك وقال: «خذوه فإنه خبيث، خبيث الدية، نحن لا نأكل ثمن الموتى» !!
ورمي سعد بن معاذ يومئذ بسهم فقطع أكحله «1» ، وكان جرحه سببا في وفاته كما ستعلم، واستمرت المناوشة والمراماة بالنبال يوما كاملا، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخندق حراسا حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثلمة فيه مع شدة البرد.
,
ثم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخذّل بين الأحزاب ويفرق جمعهم، فبعث إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المرّي- وهما قائدا غطفان- وساومهما على أن يأخذا ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما، فقبلا، ولكن الرسول ما كان ليبرم أمرا لم ينزل فيه وحي حتى يستشير أصحابه.
فأرسل إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما ذلك، فقالا:
يا رسول الله أمرا نحبه فنصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لابدّ لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحد، وكالبوكم- اجتمعوا عليكم- من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» ، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟!!.
والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذاك» .
__________
(1) عرق في الذراع.
ويرى بعض المؤرخين أن عرض الرسول عهد الصلح هذا لم يقصد به العرض حقيقة، وإنما سبرا لغور الأنصار، وتعرفا لمبلغ استعدادهم للذود عن المدينة، والتضحية بالنفس في سبيل العقيدة، وقد ظهر له صلى الله عليه وسلم أن الأخطار والمخاوف وتكالب عوامل الشر لم تزدهم إلا إيمانا وصلابة في الدفاع عن دينهم.
,
إن الله سبحانه إذا أراد شيئا هيأ له الأسباب ويسّر له الوسائل، وقد ساقت الأقدار نعيم بن مسعود الأشجعي- وهو من غطفان- إلى رسول الله، وكان صديقا لقريش واليهود، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي، فمرني بأمرك حتى أساعدك.
وتفتّق العقل الكبير عن هذا التوجيه الرائع والإيمان إلى العمل السياسي البارع، فقال له: «أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة»
» .
وكان نعيم عند حسن ظن النبي وأهلا لتوجيهه، فخرج من عند النبي وتوجّه إلى بني قريظة فقال: يا بني قريظة تعرفون ودّي لكم، وخوفي عليكم، وإني محدثكم حديثا فاكتموه عني، قالوا: نعم لست عندنا بمتهم، فقال: لقد رأيتم ما وقع ببني قينقاع والنضير، وإن قريشا وغطفان ليسوا مثلكم، فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا لبلادهم، وأما أنتم فتساكنون الرجل- يريد الرسول- ولا طاقة لكم بحربه واحدكم، فأرى ألاتدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم، بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفا منهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه. فاستحسنوا رأيه وقالوا: قد أشرت بالرأي.
__________
(1) خدعة بفتح المعجمة وضمها مع سكون المهملة، وبضم أوله وفتح ثانيه وهي أشهر لغاتها، وأفصحها الأولى حتى قال ثعلب: إنها لغة النبي. ومعنى الأولى أن الحرب تنتهي بخدعة واحدة، والثانية أن الشأن في الحرب الخداع، والثالثة صيغة مبالغة أي كثيرة الخداع.
ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم وقال: أنتم تعرفون ودّي لكم ومحبتي إياكم، إني محدّثكم حديثا فاكتموه عني، فقالوا نفعل، فقال لهم: إن بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من قريش وغطفان جمعا من أشرافهم، ونعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أظنكم تتهمونني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال لهم: فاكتموا عني قالوا: نفعل، ثم أخبرهم بما أخبر به قريشا، وحذّرهم مثل ما حذّرهم.
,
فلما كانت ليلة السبت من شوال أرسل أبو سفيان بن حرب رؤوس غطفان وفدا برئاسة عكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ والحافر- الإبل والخيل- فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت، ولم يصبنا ما أصابنا إلا من التعدّي فيه، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم، فإنا نخشى إن ضرّستكم الحرب «1» واشتد عليكم القتال أن تذهبوا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا به.
فلما رجعت إليهم الرسل بذلك قالوا: والله إن الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحق!! فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فلما انتهت إليهم الرسل بذلك قالت قريظة: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق!! فأرسلوا إلى قريش وغطفان: أنا لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهائن. وهكذا بلغ هذا التدبير المحكم غايته بالتفرقة بين قريظة والأحزاب.
__________
(1) ضرستكم: ضعضعتكم ونالت منكم.
,
وفي هذه الغمرة من الشدائد والمخاوف كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا ينفكون عن الدعاء والتوجه إلى رب السماء. ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم وزلزلهم» ، وفي رواية: «اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم» . وعن أبي سعيد الخدري قال: قلت يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟! قال: «نعم، اللهم استر عوراتنا، وامن روعاتنا» «1» .
,
واستجاب الله لرسوله والمؤمنين، ونزل المدد من السماء، وأرسل الله عليهم ريحا شديدة في ليلة شاتية باردة، فهدمت خيامهم، وكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وفعلت فيهم جنود الله غير المرئية الأفاعيل، فامتلأت قلوبهم رعبا وخوفا، وساد الهرج والمرج والجلبة والصياح.
,
وكان رسول الله مستيقظا لا ينام، وقائما لا ينفك عن الصلاة، فلما سمع الجلبة قال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟» ، فما قام رجل من القوم من شدة الخوف والبرد والجوع، فلما لم يقم أحد دعا حذيفة بن اليمان، قال: فلم يكن لي من بدّ من القيام حين دعاني، فقال: «يا حذيفة اذهب فادخل القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثنّ شيئا حتى تأتينا» .
قال: فذهبت فدخلت في القوم وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، فقام أبو سفيان فقال: لينظر كل امرىء من جليسه؟ فأخذ حذيفة بيد الرجل الذي كان جنبه، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، وتنادى الأعراب بالرحيل، وقام طليحة بن خويلد الأسدي فقال: إن محمدا قد بدأكم بشر فالنجاء
__________
(1) رواه أحمد في المسند.
النجاء!! ثم نادى أبو سفيان بالرحيل فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ «1» ، وأخلفتنا قريظة، ولقينا من شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل!! ثم قام إلى بعيره وركبه، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فأسرعت إلى ديار قومها.
ثم رجع حذيفة ورسول الله يصلي وعليه كساء يمني، فلما فرغ من صلاته أخبره الخبر، فغطاه رسول الله بطرف كسائه، حتى ذهب عنه القر، فما زال نائما حتى أصبح.
,
وقد أنزل الله سبحانه في هذه الغزوة بضع عشرة اية من سورة الأحزاب، وإليك تفسيرها موجزا:
قال عزّ شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: خطاب للمؤمنين الذين هم أهل العبرة والذكرى. اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: وهي رجوع الأحزاب مدحورين مخذولين، ورجوعكم منصورين امنين. إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ قريش وغطفان وأتباعهما فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً عاصفة في ليلة مطيرة، فضرّست أجسامهم، واقتلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وكفأت قدورهم وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الملائكة ألقوا في قلوبهم الرعب والخوف، فذهبت معنوياتهم ورجعوا وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً بتاء الخطاب أي من نصرة نبيكم، فيجازيكم أحسن الجزاء. وقرىء في السبع بالياء، أي من تأليبهم على نبيّه، وتحزبهم عليه، فهو وعيد لهم.
ثم صور سبحانه ما نزل بهم من بلاء وشدة لتعظم النعمة بأبلغ عبارة، فقال: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ هم قريش وغطفان وأحلافهما وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ هم بنو قريظة لما نقضوا العهد وأرادوا أن يطعنوهم من ظهورهم «1»
__________
(1) وقيل: «من فوقكم» بنو قريظة «ومن أسفل منكم» قريش وغطفان. وقيل من فوقكم عيينة بن حصن ومن معه، ومن أسفل منكم أبو سفيان ومن معه. والأول أولى، ويشهد له ما رواه الحاكم عن حذيفة قال: (لقد رأيتنا ليلة الأحزاب وأبو سفيان ومن معه من مكة من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون: إن بيوتنا عورة. فمرّ بي النبي-
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ فلا تثبت ولا تستقر على حال من شدة الخوف وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ لما كان من شأن الخائف المذعور أن تنتفخ رئتاه فتضغطان على القلب فيرتفع قليلا، كنّى بذلك عن شدة الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الحسنة من جانب المؤمنين، وهي أن الله ناصر رسوله مهما اشتد البلاء والجهد، والسيئة من جانب المنافقين وضعفاء الإيمان الذين زعموا أن الله خاذل رسوله ودينه.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً تصوير بالغ في الإعجاز لما اعتراهم من الضيق والانحصار بين عدوين لدودين: الأحزاب واليهود.
ثم قصّ الله سبحانه ما قاله المنافقون وضعفاء الإيمان فقال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً باطلا وزخرفا من القول، ويمثل هؤلاء من قال: إن محمدا يعدنا ملك كسرى وقيصر، ولا يقدر الواحد منا أن يذهب إلى الغائط، وهناك طائفة أخرى وهم عبد الله بن أبي وأصحابه حرّضت على الرجوع إلى المدينة متعلّلين بالتعلّات الباطلة، وهم المعنيون بقوله سبحانه: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا يثرب هي المدينة وكانت تعرف بهذا في الجاهلية، سماها النبي (طابة) و (طيبة) ، وهناك طائفة ثالثة اعتذرت بالأعذار الواهية وهم المرادون بقوله سبحانه: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ يعني مكشوفة للعدو والسرّاق غير محصنة، وهم قوم من بني حارثة ويمثلهم أوس بن قيظي، وقيل هم قوم من بني حارثة وبني سلمة، وقد أكذبهم الله في هذا فقال:
وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً.
ثم بيّن سبحانه أن القائلين ذلك قوم جبناء لا ينتصرون لدين ولا حق ولا فضيلة، ولا تهمهم إلا أنفسهم، فقال سبحانه: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ
__________
- ولم يبق معه إلا ثلاثمائة فقال: «اذهب وأتني بخبر القوم» ودعا لي، فأذهب الله عني القر والفزع، فدخلت عسكرهم، فإذا الريح فيه لا تجاوزه شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس في طريقي فقالوا: أخبر صاحبك أن الله عز وجل كفاه اليوم) . فتح الباري ج 7 ص 401.
أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها بالمد، أي لأعطوها، وبغيره أي لجاؤوا بها، والمراد بالفتنة الشرك والردة، أقطارها: جوانبها وهي المدينة وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً يعني أنهم لو سئلوا الفتنة لما تريّثوا في الإجابة إلا قليلا ثم أعطوها، وهذا يدل على نفاقهم وضعف اعتقادهم وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ، وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا هم بنو حارثة همّوا أن ينكصوا يوم أحد مع بني سلمة فثبتهما الله، ثم عاهدوا الله ألايعودوا لمثلها أبدا، فلما كانت غزوة الأحزاب نكصوا وعادوا لما هموا به.
ثم بيّن سبحانه أن الجبن لا ينجي من القدر، وأن الموت بسيف، أو بدونه لابد أن يكون، وهبوا أنكم فررتم من أسباب الموت فما تتمتعون في الحياة إلا قليلا، فإن الحياة مهما طالت فهي قصيرة وعمر تأكله ذرات الدقائق والثواني وإن كثر فهو قليل، فقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ثم بيّن سبحانه أن الموت والحياة، والخير والشر بيد الله، ولو أراد الله بكم سوا نزل بكم، ما عصمكم منه أحد منكم ولو أراد بكم خيرا ما منعه أحد عنكم، فقال: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وليا ينفعكم، ونصيرا يدفع الضر عنكم.
ثم قال سبحانه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المنكّصين من القتال ونصرة الإسلام وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا، وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا هلمّ: تعالوا، البأس: الحرب، وهم عبد الله بن أبيّ ومن رجع معه إلى المدينة، فلم يكتفوا بزلتهم بل حاولوا استزلال غيرهم إلى القعود عن نصرة رسول الله أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء بالمعونة والإنفاق في سبيل الله.
ثم صوّر الله جبنهم أبلغ تصوير بقوله: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ جاء الخوف أي أسبابه لم تستقر أعينهم على حال، كالذي غشيته سكرات الموت فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ نالوكم بألسنة بذيئة سليطة أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يعني أن
شحّهم عليكم إنما هو لأن أنفسهم شحيحة بالخير أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً فإن من شأن النفاق أن يحبط الله به الأعمال فلا ثواب لها.
ثم بينّ الله شدّة خوفهم وجبنهم فقال: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ- يعني مرة ثانية- يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي مقيمون في البادية حتى لا يصيبهم أذى يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا يعني أنهم حتى وهم مقيمون بالبادية لا يجرؤون أن يتعرفوا أخباركم بأنفسهم، بل يتعرّفونها ممن يأتي من ناحيتكم، ومثل هؤلاء لا ترجون قتالهم معكم ونصرتهم لكم، لأنهم إن قاتلوا فمرااة وسترا لنفاقهم وتضليلا لغيرهم.
ثم أقبل على المؤمنين فقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً الأسوة بضم الهمزة وكسرها:
القدوة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محل القدوة في الصبر والشدائد، والثبات في الحروب، والصدق عند اللقاء، وفي كل شيء محل الائتساء، وإنما يأتسي برسول الله الذين يرجون رحمة الله وثواب الاخرة، ولا ينفكون عن ذكر الله، ومثل هؤلاء قلوبهم حاضرة، وضمائرهم حية، وأعمالهم كلها خير وصلاح.
ثم ذكر الله سبحانه المؤمنين وصدقهم في عقيدتهم، وتصديقهم بما وعدهم الله ورسوله مهما عظم البلاء، وأن ذلك لا يزيدهم إلا ثباتا على الإيمان، وصبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، فقال سبحانه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا:
هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً فانظر الفرق بين الصورتين: صورة المؤمنين المشرقة، وصورة المنافقين المخزية.
ثم بيّن سبحانه أن من المؤمنين من سبق إلى الشهادة، ووفى بعهده، وأن منهم من ينتظرها ويترقبها، وأن هؤلاء وأولئك صدقوا الله بالإيمان، وثبتوا على الوفاء، فقال عزّ شأنه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا النحب: النذر اللازم،
وقد أريد به هنا الموت، وكأن المجاهد الذي خرج مخاطرا بنفسه فاستشهد قد نذر نفسه لله ثم وفى بنذره، ومن هؤلاء الذين قضوا نحبهم من استشهدوا في بدر وأحد وغيرها.
ثم بيّن سبحانه أن الغاية من البلاء والاختبار بالمحن والشدائد أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق، فيجازي الأول خيرا والثاني شرا، فقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ- يعني إن تابوا- إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. ثم ختم الله القصة بتذكيرهم بنعمة الله عليهم بهزيمة الأحزاب، وارتدادهم صاغرين، فقال: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً- نصرا- وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ومن كان ملاذه القويّ العزيز الذي لا يغالب فقد اوى إلى ركن شديد وحليف عظيم.