والذي يترجح عندي بعد النظر والبحث أن يكون تشريع الجهاد في أوائل السنة الثانية للهجرة، وذلك لأن المسلمين في السنة الأولى كانوا مشتغلين بتنظيم أحوالهم الدينية والدنيوية، كبنائهم المسجد النبوي، وأمور معايشهم، وطرق اكتسابهم، وتنظيم أحوالهم السياسية: كعقد التاخي بينهم، وموادعتهم اليهود
__________
(1) سورة البقرة: الاية 190.
(2) سورة التوبة: الاية 111.
المساكنين لهم في المدينة، كي يأمنوا شرورهم، ولا يقال: إن النبي أرسل سرايا في السنة الأولى، لأنها في نظرنا كانت للمناوشات وإرغامهم على أن يفكروا جديا في تغيير خطتهم تجاه المسلمين، وتركهم يبلّغون دين ربهم وهم امنون مطمئنون.
,
لقد تضمنت ايات سورة الحج المذكورة انفا الأسباب والأغراض التي اقتضت تشريع الجهاد، ولن أخرج في بيان ذلك عن منطق الاية وفحواها، حتى يكون في هذا إلقام الحجر لمن يتقوّل على الإسلام، ومن هذه الايات نستخلص الأسباب والحكم الاتية:
1- تأمين دعوة الإسلام، الدين العام الخالد، الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء، ومساندة هذه الدعوة التحريرية الكبرى، حتى يتمكن النبي من تبليغ رسالة ربه حسبما صدع به الوحي في قوله:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ «1» .
وقوله:
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «2» .
وتأمين المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام عن رضا واطمئنان، وحمايتهم من أذى المشركين، ومنحهم حقهم في الإعلان عن عقيدتهم وهم امنون، وليس من الحق والعدل أن يدافع أصحاب المذاهب الباطلة عن باطلهم بالقوة، وأن يترك أصحاب العقائد الصحيحة والشريعة السمحة من غير أن يؤذن لهم في الدفاع عن عقيدتهم ودينهم، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وأي
__________
(1) سورة المائدة: الاية 67.
(2) سورة الأنعام: الاية 19.
ظلم أظلم من ألايجد الهداة والمصلحون متنفسا لدعواتهم في أرض الله الواسعة؟ ومن أن يحجر عليهم فلا يستطيعون الإعلان عن عقائدهم، ولا إظهار شعائرهم؟ والمظلوم إن لم يجد النصر من أهل الأرض فسيجده لا محالة من السماء، وصدق الله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
2- الانتصاف للمظلوم من الظالم، والانتصار للنفس، فها هم المشركون قد اذوا المسلمين، وحاولوا ما وسعهم الجهد أن يفتنوهم عن دينهم، فلما لم يفلحوا أخرجوهم من ديارهم وأهليهم وأموالهم. والانتصار للنفس أمر فطري، وحق من حقوق الإنسان، قررته الشرائع السماوية والقوانين الأرضية، وقد قرر الله هذه الحقيقة الإنسانية في قوله سبحانه:
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» .
وقد أمر الله المسلمين بالصبر على أذى المشركين والتسامح معهم طوال العهد المكي وأوائل العهد المدني؛ عسى أن يرعووا، ولكنهم لم يزدادوا إلا بطرا وظلما واستعلاء في الأرض، فأما إذا لم تفلح معهم سياسة المهادنة والتسامح، فلتقابل القوة بالقوة، والسلاح بالسلاح، وإلّا صار السكوت والإغضاء عجزا وضعفا ومهانة.
وليس من العدل والحق أن يترك المشركون يمرحون في الأرض، ويجوبون الجزيرة من الجنوب إلى الشمال، ولا يؤذن للمسلمين في محاربتهم من جنس ما حاربوهم به، وأن يقطعوا عليهم تجارتهم، ويأخذوا منها ما تصل إليه أيديهم نظير ما اغتصبوا من أموالهم، وأن يضيّقوا عليهم مثل ما ضيقوا عليهم، وصدق الله حيث يقول:
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» .
__________
(1) سورة الشورى: الايتان 41، 42.
(2) سورة الشورى: الايتان 39، 40.
وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى هذا بقوله:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ «1» .
3- إن في تشريع الجهاد نشر للسلام والأمان في الأرض، وتأمين كل ذي دين على دينه، واحترام مقدسات الأديان في الأرض. والإسلام هو الدين الذي ألزم معتنقيه بالإيمان بجميع رسل الله، وجميع كتبه المنزلة من عنده، وإذا كان اعتبر القران هو الشاهد والمهيمن على الكتب السماوية كلها، فلأنه هو الكتاب الذي سلم من التحريف والتبديل، لأنه نقل بأقوى طرق النقل والإثبات، وهو التواتر المفيد للقطع واليقين.
فالمسلمون حينما تكون لهم السلطة والغلبة في الأرض فلا خشية على أهل الأديان الاخرى منهم، لأن لهم من وصايا دينهم ما يعصمهم من الظلم والجور والتعنت، ولا كذلك الحال لو ساد غيرهم، وهذا ما صدقه الواقع والتاريخ الصادق، فحينما كان السلطان للمسلمين في الأرض، لم يضارّ أحد من أهل الذمة في دينه، ولا في دنياه، ولا في نفس ولا عرض ولا مال، فلما ذهبت ريحهم، وغلبوا على أمرهم، ذاقوا من أعدائهم ألوان العذاب من تقتيل وتخريب وانتهاك للحرمات.
وليس أدل على ذلك من أن الإسلام قبل من أهل الكتاب إما أن يسلموا، وإما أن يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية، وهي ليست للإكراه على الدخول في الإسلام أو المضايقة، ولكنها نظير ما تقوم به الدولة الإسلامية من رعاية وحماية لأهل الأديان الاخرى، وما تؤديه لهم من خدمات اجتماعية واقتصادية، وقد أشار الله سبحانه إلى هذا الغرض النبيل في قوله سبحانه:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ
__________
(1) سورة الحج: الاية 40.
وَمَساجِدُ «1» يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» .
4- إن الإسلام بما خصه الله به من عموم الدعوة للناس أجمعين، وبما جاء به من عقائد وتشريعات واداب، أكسبته الصلاحية لكل زمان ومكان، وهو الحقيق بأن يسود في الأرض، والمسلمون المتمسكون به هم الأحق بالسيادة والاستخلاف في الأرض، لأنهم هم الذين ينشرون فيها الهدى والحق والعدل والرحمة والبرّ والخير، وهم يأمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وهما أساس كل خير وإصلاح، وليس من شك في أن هذا يتطلب الجهاد والكفاح وبذل النفس والمال في سبيل هذه الغاية الشريفة.
وقد أشار الله إلى هذا في قوله:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «2» .
وقد أشار الله سبحانه بهذه الأصول إلى ما عداها، فالصلاة رأس العبادات البدنية التي تزكّي النفس، وتحسّن علاقة المخلوق بالخالق، والإنسان بأخيه الإنسان. والزكاة رأس العبادات المالية التي تقيم المجتمع على أساس من التعاون والتكافل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس كل خير ديني أو دنيوي، وهما دعامتا كل إصلاح، ودرء كل شر وفساد في الأرض.
,
الجهاد في الإسلام من الفروض الكفائية عند جمهور أهل العلم من السلف والخلف، ومعنى هذا أنه إذا قام به من يكفي في دفع غائلة الأعداء ونصر الإسلام سقط عن الباقين، ولا يكونون اثمين، وإن لم يقم به من يكفي
__________
(1) سورة الحج: الاية 40.
(2) سورة الحج: الاية 41.
أثمت الأمة كلها، ولا يرتفع هذا الإثم إلا بخروج من فيهم الكفاية، ولو أدّى ذلك إلى تجنيد الجميع.
والدليل على هذا قول الله تعالى:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1» .
ويصير الجهاد فرض عين في أحوال ثلاثة:
الأولى: إذا التقى الجيشان وتقابل الصفّان، تعيّن الجهاد على من حضر، وحرم عليه الفرار، إلا أن يكون ذلك لمكيدة أو خدعة حربية، أو لأخذ مكان أفضل وأحسن، أو للانحياز إلى فئة أخرى من الجيش. قال جل شأنه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «2» .
وقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ «3» .
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: «الشرك
__________
(1) سورة التوبة: الاية 122. يعني ما كان المؤمنون لينفروا إلى الجهاد جميعا بل لتنفر طائفة، ولتقم طائفة مع النبي ليتفقهوا في الدين ويتلقوا القران حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم من القران وما سمعوه من الحديث.
(2) سورة الأنفال: الاية 45.
(3) سورة الأنفال: الايتان 15، 16.
بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
والفرار كبيرة مهما كان عدد الأعداء، وإلى هذا ذهب بعض العلماء.
ومنهم من يرى ذلك إذا لم يزد الأعداء عن ضعف عدد المسلمين، فإن زادوا فلا، وذلك لقوله تعالى:
الْآنَ خَفَّفَ «1» اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «2» .
والرأي الأول هو الذي يؤيده ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الثبات والصبر، وعدم الفرار مهما بلغ جنود الأعداء، فقد صمد المسلمون في «مؤتة» وهم ثلاثة الاف أمام مائتي ألف من الروم، وأحلافهم من العرب من لخم وجذام، ولم يروا الفرار.
وليس من الفرار ما يراه قائد الجيش من الانسحاب الكلي أو الجزئي، حتى لا يحاط به أو يفنى الجيش عن اخره أو لتنظيمه، وإنما ذلك داخل في قوله سبحانه: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، وذلك كما حدث من سيف الله خالد بن الوليد في «مؤتة» ، ولذلك لما عيّر أهل المدينة الجيش بقولهم لهم:
يا فرّار، قال النبي صلى الله عليه وسلم مدافعا عنهم: «بل هم الكرّار» !!
الثانية: إذا هاجم الكفار بلدا من بلاد الإسلام أو نزلوا فيه تعين على أهله قتالهم ودفعهم بما استطاعوا، ووجب على إخوانهم المسلمين في كل قطر وبلد أن يخفوا إليهم بالعون والمساعدة أداء لحق الأخوة الإسلامية، ففي
__________
(1) وقد كان في أول الأمر يجب الثبات إذا لم يزد جيش الأعداء عن عشرة أضعاف جيش المسلمين.
(2) سورة الأنفال: الاية 66.
الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله» ، وفي رواية أخرى للبخاري: «ولا يسلمه» أي لا يخذله إذا استنصر به، ولا يسلمه أو يتركه لأعدائه ينالون منه.
الثالثة: إذا استنفر ولي الأمر- خليفة أو ملكا أو رئيسا- قوما أو أقواما لزمهم الخروج، وتعيّن عليهم الجهاد، وذلك لقول الحق تبارك وتعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» .
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» . وفي معنى الاستنفار العام إعلان التعبئة العامة في العرف الحديث ودعوة الأمة للجهاد، وقد يكون الاستنفار خاصا بفئة، فيكون تعبئة جزئية.
,
ومن السلف الصالح من كان يرى أن الجهاد فرض عين على أي حال وفي جميع الأزمان، ويستدلون بقول الحق تبارك وتعالى:
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «2»
أي شبابا وشيبا، ورجالا وركبانا، وأغنياء، وفقراء، وأقوياء وضعفاء.
__________
(1) سورة التوبة: الايتان 38، 39.
(2) سورة التوبة: الاية 41.
,
وممن كان يرى هذا الرأي السادة الأخيار: أبو أيوب الأنصاري، وأبو طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود من الصحابة، وسعيد بن المسيّب من التابعين. وقد كان أبو أيوب يستدل بالاية السابقة، وكان يرى أن الرغبة عن الجهاد والاشتغال بالأهل والمال إلقاء بالنفس إلى التهلكة، مستدلا بقول الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1» .
وقد لزم رضي الله عنه الجهاد في حياة الرسول وبعده، ولم يتخلّف عن غزوة قط، ولما حدثت الفتنة بين علي ومعاوية انحاز إلى جانب علي، وشهد معه قتال الخوارج، ولما أرسل معاوية ابنه يزيد على رأس جيش لغزو القسطنطينية تحرج في أول الأمر أن يخرج في جيش تحت إمرة يزيد، ولكن نفسه التواقة للجهاد نازعته إليه وقال: (ما ضرني من استعمل على الجيش) ، فلحق بهم وأبلى بلاء حسنا، ثم مرض فعاده يزيد فقال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي إذا أنا متّ، فاركب بي ما وجدت مساغا في أرض العدو، فإذا لم تجد فادفني ثم ارجع، فلما توفي صلّى عليه يزيد والمسلمون، وفعلوا به ما أوصى به، فدفن بجوار أسوار القسطنطينية شاهدا على لون رائع من ألوان البطولة الإسلامية الفذّة، وكانت وفاته سنة اثنتين وخمسين، فرضي الله عنه وأرضاه.
وروي أن أبا طلحة الأنصاري صاحب رسول الله وأحد الذين أحاطوا بالنبي يوم أحد، قرأ سورة التوبة وهو شيخ كبير، فأتى على هذه الاية: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا..، فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا جهزوني يا بنيّ، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر غازيا، فمات، فلم يجدوا جزيرة يدفنونه بها إلا بعد تسعة أيام ولم يتغير، فدفنوه بها.
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 1، ص 438، ط المنار.
وروى ابن جرير الطبري عن أبي راشد أنه رأى المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص يريد الغزو- وكان شيخا كبيرا همّا قد سقط حاجباه على عينيه- فقال له: لقد أعذر الله تعالى إليك، فقال: أبت علينا سورة البعوث، يريد هذه الاية من سورة التوبة.
وقال الإمام الزهري: خرج سعيد بن المسيّب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنّي الحرب كثرت السواد، وحفظت المتاع «1» .
وبحسب هؤلاء السادة الأمجاد أنهم مجتهدون في فهم الاية «2» ، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر، وبحسبهم فضلا ومثوبة هذه النية الصادقة، وبهؤلاء الأبطال المغاوير وأمثالهم- وما أكثرهم- مكّن الله للمسلمين في الأرض، وانتشر الإسلام حتى بلغ المشرق والمغرب.
,
لمّا كان الجهاد هو الوسيلة لحماية العقيدة، وتأمين الدعوة، ونشر الشريعة شريعة التوحيد والحق والعدل والخير، رغّب الله ورسوله فيه أيما ترغيب.
ففي الكتاب الكريم يقول الله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «3» .
__________
(1) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 4، ص 174، ج 1، ص 428.
(2) ويرى ابن عباس وغيره أن حكم هذه الاية كان في مبدأ الأمر ثم نسخت بقوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ....
(3) سورة التوبة: الاية 111.
وقال مبيّنا الفرق ما بين المجاهدين والقاعدين:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً «1» .
وقال مرشدا إلى أعظم طرق الخير:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «2» .
وقال مبيّنا أن القتال وإن كان مكروها للنفس بحسب الفطرة، لكنه قد يكون فيه الخير الكثير:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «3» .
وإذا جاز لغير المسلم أن يخشى الجهاد أو يفرّط فيه فلا يجوز ذلك للمسلم، إذ مال الجهاد له إما نصر وغنيمة وإما أجر وشهادة، وكلا الأمرين غنم وجميل، قال سبحانه:
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «4» .
__________
(1) سورة النساء: الاية 95. والمراد بالقاعدين أولا أصحاب الأعذار، وبالقاعدين ثانيا من لا عذر لهم.
(2) سورة الصف: الايتان 10، 11.
(3) سورة البقرة: الاية 216.
(4) سورة التوبة: الاية 52.
وفي السنة النبوية الكثير من الأحاديث المرغبة في الجهاد، المنفّرة من التفريط فيه، ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي وبرسلي أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، بما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلّفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله، فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» ، وفي صحيح البخاري مرفوعا: «رباط «1» يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» ، وفي صحيح مسلم مرفوعا: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه» ، وعين المرابط التي تبيت وتحرس، وتراقب الأعداء في سبيل الله، ولا تذوق طعم الكرى هي عين أوجب الله لها الجنة، ففي الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» «2» . وفي مواقف الرسول في الغزوات مواطن مشهودة تشجع الجبان، وتجرىء الشجاع، حتى يصير منه ليثا هصورا.
,
وكذلك رغّب الإسلام في الاستشهاد في سبيل الله، ففي الكتاب الكريم:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «3» .
__________
(1) الرباط والمرابطة: الإقامة في الثغور وهي: المواضع التي يخاف منها هجوم الأعداء كالموانىء والمطارات ونقط المراقبة.
(2) حديث حسن.
(3) سورة ال عمران: الايتان 169، 170.
وهي حياة برزخية روحية تتمتاع فيها الروح بشتى أنواع الملذات الحسية والمعنوية «1» ، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاية فقال: «أرواحهم في جوف طيور خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع الله عليهم إطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» .
وفي مسند الإمام أحمد نحو حديث مسلم وفي اخره: «فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلّغ عنا إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ..
الاية. فلا تعجب وهذا موقف القران والسنة من الجهاد والاستشهاد أن ضرب المسلمون الأولون في باب الجهاد وحب الاستشهاد مثلا عليا نادرة، وأن جادوا بأرواحهم طيبة بذلك نفوسهم، وأن حرصوا على الموت أكثر من حرصهم على الحياة، وكانت لهم في هذا المضمار بطولات لم يعرفها التاريخ لغيرهم، وسيأتيك من أنباء هذه البطولات الشيء الكثير.
الأطوار التي مرّ بها الجهاد
,
لقد كان القتال في هذا الدور مقصورا على القرشيين الذين عذّبوهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، والذين لا يزالون يعذبون المستضعفين الذين
__________
(1) وهذه الحياة البرزخية فوق الحياة الدنيوية لتجرد الأرواح فيها من شوائب المادة، وخلوها من البلاء، والالام، والمنغصات التي لا تسلم منها الحياة الدنيوية، ودون الحياة الاخروية لعودة الأرواح فيها إلى أجسادها، وكمال التمتاع فيها باللذائذ الروحية والجسمانية.
لم يستطيعوا أن يهاجروا، أما من لم يحارب المسلمين ولم يتسبب في إخراجهم فلا يحارب، وهذا هو ما صدعت به الاية الكريمة:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ إلى قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» .
,
إن بعض القبائل كانوا أحلافا لقريش، أو صاروا أحلافا لها بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فحملوا على المسلمين تمشيا مع سياسة قريش العامة، أو أخذا بثأرها، ومن هؤلاء من فكروا في مهاجمة المدينة، أو هاجموها بالفعل، كما فعل كرز بن جابر الفهري، فقد أغار على سرح المدينة، وكان ذلك سببا في خروج المسلمين إليه في غزوة بدر الأولى فلم يدركوه.
ومنهم من تحرشوا بالمسلمين أو قتلوا بعوثا منهم غدرا وغيلة كما حدث في سريتي الرجيع والقرّاء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبادر إلى لقائهم أو يرسل إليهم السرايا والبعوث ليعاقبهم على بغيهم، ويرد عليهم كيدهم، ومن هذه القبائل:
بنو غطفان، وبنو سليم، وبنو عامر، والأحابيش أحلاف قريش، وقبائل نجد وثقيف، وقد أفادت حروبه مع هؤلاء كثيرا، فقد اطّلعوا على الإسلام، وعرفوا سماحته، فأسلم منهم الكثيرون، وصاروا أعوانا للإسلام بعد أن كانوا حربا عليه.
,
لمّا تمالأ المشركون في مكة وخارجها على المسلمين وصاروا يدا واحدة في قتالهم لم يكن بدّ من قتال هؤلاء جميعا، كما يقاتلون جميعا المسلمين، وهذا هو ما أراده الله سبحانه بقوله:
__________
(1) سورة البقرة: الايات 190- 193.
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «1» .
وبذلك صار الجهاد عاما لكل من ليس له كتاب سماوي، وفي هذا الدور من الجهاد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» «2» .
,
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وادع اليهود وعاهداهم، وبذلك أمّنهم على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوا العهد، وتمالأوا مع المشركين وصاروا يحرّضونهم على قتال النبي كما حدث في أحد وغيرها، بل حاولوا طعن المسلمين في ظهورهم كما حدث في غزوة الأحزاب، وطالما سعوا في إفساد ما بين الأوس والخزرج، وإفساد ما بين المهاجرين والأنصار، وبذلك أصبحوا شوكة في ظهور المسلمين، وجراثيم إفساد في المجتمع المدني لابدّ من القضاء عليها، فلذلك أمر الله سبحانه نبيّه بقتالهم بعد إيذانهم بنقض ما بينه وبينهم من عهود بقوله سبحانه:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «3»
وهو أدب من اداب الحرب في الإسلام لم تصل إليه المدنيّة في القرن العشرين!! وقد قتل المسلمون البعض، وأجلوا البعض الاخر عن المدينة، ولم يلبثوا أن قطع دابرهم من جزيرة العرب كلها، وأراح الله منهم العباد والبلاد.
__________
(1) سورة التوبة: الاية 36.
(2) صحيح البخاري كتاب الإيمان- باب «فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة» .
(3) سورة الأنفال: الاية 58.
,
لما فتح المسلمون مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت لهم الطائف وما حولها، ونجد وما جاورها، لم تلبث الجزيرة العربية أن صارت مؤمنة مواحدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل كتبا إلى الملوك والأمراء في الهدنة ما بين الحديبية والفتح، عارضا عليهم الدخول في الإسلام، فمنهم من أسلم، ومنهم من أبى وتوعّد، وبذلك أصبحت دعوة الإسلام معروفة عند الدول المتاخمة للجزيرة، والمعروفة للمسلمين وقتها، ثم تحفّزت الروم لغزو بلاد المسلمين، فلما علم الرسول جمع الجموع وخرج إليهم فلم يجد أحدا، فرجع بعد أن أراهم أن سلطان الله في الأرض لا يرهب أحدا.
وهذا الدور من أهم أدوار الكفاح والجهاد، فقد انتقلت الدعوة إلى العالمية، وانتقل ميدان الجهاد إلى خارج الجزيرة، وحدثت بعد وفاة الرسول الوقائع المشهورة بين الدولة الناشئة ودولتي الفرس والروم، وتمت الفتوحات العظيمة في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، وتحققت سنّة الله في الكون من تغليب المؤمنين على الكافرين، والمحقّين على المبطلين وصدق الله:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «1» .
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «2» .
,
من الأكاذيب التي يرددها أعداء الإسلام والمسلمين أن الإسلام قام على السيف، وأنه لم يدخل فيه معتنقوه بطريق الطواعية والاختيار، وإنما دخلوا فيه
__________
(1) سورة القصص: الاية 5.
(2) سورة الأنبياء: الاية 105.
بالقهر والإكراه، وقد اتخذوا من تشريع الجهاد في الإسلام وسيلة لهذا التجنّي الكاذب الاثم، وشتان ما بين تشريع الجهاد وما بين إكراه الناس على الإسلام، فإن تشريع الجهاد لم يكن لهذا، وإنما كان لحكم سامية، وأغراض شريفة كما علمت انفا.
وهذه الدعوى الباطلة الظالمة كثيرا ما يرددها المبشرون والمستشرقون، الذين يتأكلون من الطعن في الإسلام وفي نبيّ الإسلام، ويسرفون في الكذب والبهتان، فيتصايحون قائلين: أرأيتم؟!! هذا محمد يدعو إلى الحرب، وإلى الجهاد في سبيل الله، أي إلى إكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام، وهذا على حين تنكر المسيحية القتال، وتمقت الحرب، وتدعو إلى السلام، وتنادي بالتسامح، وتربط بين الناس برابطة الإخاء في الله وفي السيد المسيح عليه السلام «1» .
وقد فطن لسخف هذا الادعاء كاتب غربي كبير هو: «توماس كارليل» صاحب كتاب الأبطال وعبادة البطولة، فإنه اتخذ نبيّنا محمدا- عليه الصلاة والسلام- مثلا لبطولة النبوّة، وقال ما معناه: (إن اتهامه- أي سيدنا محمد- بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم، إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا امن به من لا يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدّقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها) «2» .
ومن الإنصاف أن نقول: إن بعض المستشرقين لم يؤمن بهذه الفرية، ويرى أن الجهاد كان لحماية الدعوة، ورد العدوان، وأنه لا إكراه في الدين، وإليك ما كتبه «أميل در منغم» في هذا قال «3» :
__________
(1) من حياة محمد لهيكل ص 246.
(2) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد ص 227 ط الهلال.
(3) حياة محمد لدر منغم ص 166 ترجمة عادل زعيتر.
(لم يشرع الجهاد لهداية الناس بالسيف، ففي القران لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، والقران يأمر المسلمين بالاعتدال، وبأن لا يبدؤوا بالاعتداء، وما تجده في القران من الايات المتتابعة، أو المبثوثة، أو المبعثرة في سوره حول الجهاد، فيشير إلى حوادث ذلك الزمن الراهنة، وإلى ما يجب على محمد أن يسلكه هو وأصحابه في المغازي تبعا لتبدل الأحوال، ولذلك نرى من اللغو جعل تلك الايات شاملة لأحوال أخرى، واستخراج مبدأ عام) «1» .
وهاتان الشهادتان الحقتان من «كارليل» و «در منغم» لهما قيمتهما العلمية في هذا الموضوع الخطير، إذ إنهما من رجلين لا يدينان بالإسلام.
وأحب قبل الشروع في ردّ هذه الفرية أن أبيّن كذب مزاعمهم في أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه، وتمقت الحرب، وتدعو إلى السلام، من كلام السيد المسيح نفسه قال: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا، وإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها» «2» ، فما رأي المبشرين والمستشرقين في هذا؟ أنصدقهم ونكذب الإنجيل؟ أم نكذبهم ونصدق الإنجيل؟! الجواب معروف ولا ريب.
وأما التوراة فشواهد تشريع القتال فيها أكثر من أن يحصى، على ما فيه من الصرامة وبلوغ الغاية في الشدة، مما يدل دلالة قاطعة على الفرق ما بين اداب الحرب في الإسلام، وغيره من الأديان «3» .
__________
(1) وذلك مثل قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ سورة الأنفال: الاية 39، وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً سورة التوبة: الاية 36.
(2) إنجيل متى، الإصحاح العاشر فقرة 35 وما بعدها.
(3) أدلة اليقين في الرد على مطاعن المبشرين ص 409.
وليس أدل على افترائهم من أن تاريخ الأمم المسيحية في القديم والحديث، شاهد عدل على رد دعواهم، فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا، خضبت أقطار الأرض جميعها بالدماء باسم السيد المسيح.
خضّبها الرومان، وخضّبتها أمم أوروبا كلها، والحروب الصليبية إنما أذكى المسيحيون- ولم يذك المسلمون- لهيبها، ولقد ظلّت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوروبا خلال مئات السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل، وتحارب، وتريق الدماء، وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح كما يزعمون- يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس، والبلاد المقدسة عند المسيحية، وتخريب بلاد الإسلام.
أفكان هؤلاء البابوات جميعا هراطقة، وكانت مسيحيتهم زائفة؟! أم كانوا أدعياء جهالا، لا يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟! أجيبونا أيها المبشّرون والمستشرقون المتعصبون!!.
فإن قالوا: تلك كانت العصور الوسطى عصور الظلام، فلا يحتج على المسيحية بها، فماذا يقولون في هذا القرن العشرين الذي نعيش، والذي يسمونه عصر الحضارة الإنسانية الراقية؟!.
لقد شهد هذا القرن من الحروب التي قامت بها الدول المسيحية، ما شهدت تلك العصور الوسطى المظلمة بل وأشد وأقسى!! ألم يقف «اللورد اللنبي» ممثل الحلفاء: إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، ورومانيا، وأميركا في بيت المقدس في سنة (1918) حين استولى عليه في أخريات الحرب الكبرى الأولى قائلا: (اليوم انتهت الحروب الصليبية) ؟!.
وأ لم يقف القائد الفرنسي «غورو» ممثل الحلفاء أيضا- وقد دخل دمشق- أمام قبر البطل المسلم «صلاح الدين الأيوبي» قائلا: (لقد عدنا يا صلاح الدين) ؟!!.
إن الإسلام إنما غزا القلوب وأسر النفوس بسماحة تعاليمه: في العقيدة، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات، وادابه في السلم والحرب، وسياسته الممثلة
في عدل الحاكم، وإنصاف المحكومين، والرحمة الفائقة، والإنسانية المهذبة في الغزوات والفتوح، إنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فلا عجب أن أسرعت إلى اعتناقه النفوس، واستجابت إليه الفطرة السليمة، وتحمّلت في سبيله ما تحملت، فاستعذبت العذاب، واستحلت المر، واستسهلت الصعب، وركبت الوعر، وضحت بكل عزيز وغال في سبيله.
والان وقد فرغنا من تفنيد ما بنوا عليه مزاعمهم الكاذبة، من دعوة الإسلام إلى الجهاد، وتحريم المسيحية له، فلنأخذ في تفنيد هذه الدعوى الظالمة من واقع تاريخ الدعوة المحمدية قبل فرض الجهاد، ومن حكم تشريعه في الإسلام، ومن نصوص القران والسنّة المتكاثرة، ومن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير خلفائه الراشدين وأصحابه، ومن واقع تاريخ المسلمين اليوم، وما تعرضوا له من اضطهاد وحروب ومظالم، لم تزدهم إلا صلابة في التمسك بالإسلام، والعض عليه بالنواجذ، فأقول وبالله التوفيق:
1- لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو إلى الله بالحجة والموعظة الحسنة، وقد دخل في الإسلام في هذه الفترة من الدعوة خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء، ولم يكن عند رسول الله من الثراء ما يغري هؤلاء، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، وقد تحمّل المسلمون ولا سيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم من صنوف العذاب والبلاء ألوانا، فما صرفهم ذلك عن دينهم، وما تزعزعت عقيدتهم، بل زادهم ذلك صلابة في الحق، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم، وما سمعنا أن أحدا منهم ارتدّ سخطا عن دينه، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء، وكالحديد لا يزيده الصهر إلا قوة وصلابة، بل بلغ من بعضهم أنهم وجدوا في العذاب عذوبة، وفي المرارة حلاوة.
ثم كان أن هاجر بعضهم إلى بلاد الحبشة هجرتين، ثم هاجروا جميعا الهجرة الكبرى إلى المدينة، تاركين الأهل والولد والمال والوطن، متحملين الام
الاغتراب، ومرارة الفاقة والحرمان. واستمر الرسول بالمدينة عاما وبعض العام يدعو إلى الله بالحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، وقد دخل في الإسلام من أهل المدينة قبل الهجرة وبعدها عدد كثير عن رضا واقتناع ويقين واعتقاد، وما يكون لإنسان يحترم عقله ويذعن للمقررات التاريخية الثابتة، أن يزعم أنه كان للنبي والمسلمين في هذه الأربعة عشر عاما أو تزيد حول أو قوة ترغم أحدا على الدخول في الإسلام، إلا إذا ألغى عقله وهدم التاريخ الصحيح.
2- إن تشريع الجهاد في الإسلام لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام كما زعموا، وإنما كان للدفاع عن العقيدة، وتأمين سبلها ووسائلها، وتأمين المعتنقين للإسلام، وردّ الظلم والعدوان، وإقامة معالم الحق، ونشر عبادة الله في الأرض، وبحسبنا في هذا المقام ما ذكرته انفا في حكمة مشروعية الجهاد من نص القران، وما عرضت له في الأطوار التي مرّ بها الجهاد، من أن القتال كان للمقاتلين والمعتدين، فلما تمالأ المشركون على المسلمين أمرهم الله بقتالهم عامة، ثم ماذا يقول هؤلاء المغرضون في قوله تعالى:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» .
فالإسلام لم يقف عند حدّ أن من سالمنا سالمناه، بل لم يمنع من البر بهم والعدل معهم، وعدم الجور عليهم، وكذلك كان موقف القران كريما جدا مع الذين قاتلوا المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، أو ساعدوا عليه، فلم يأمر بظلمهم أو البغي عليهم، وإنما نهى عن تولّيهم بإفشاء الأسرار إليهم، أو نصرتهم وإخلاص الودّ لهم، فإن حاربونا حاربناهم، وإن كفوا عنّا كففنا عنهم، وصدق الله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا.
__________
(1) سورة الممتحنة: الايتان 8، 9.
3- نصوص القران والسنة الصحيحة تردان على هذا الزعم وتكذبانه.
وقد صرح الوحي بذلك في غير ما اية قال تعالى:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» .
وإليك ما ذكره ثقات المفسرين في سبب نزول هذه الاية: روي أنه كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصران قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما وقال:
لا أدعكما حتى تسلما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ... ، فخلّى سبيلهما، وقال الزهري: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوه، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له. ومعنى «لا إكراه في الدين» أي دين الإسلام ليس فيه إكراه عليه.
وقال سبحانه:
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» .
وقال:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «3» .
فالاية نص في أن من اختار الإيمان فباختياره، ومن اختار الكفر فباختياره، فلا إكراه، ولكن مع هذا التخيير فالله سبحانه يحب الإيمان ويرضاه
__________
(1) سورة البقرة: الاية 256.
(2) سورة يونس: الاية 99.
(3) سورة الكهف: الاية 29.
ويدعو إليه، ويكره الكفر ويحذّر منه، ونصوص القران حافلة في هذا المعنى، ولهذا عقّب الله التخيير بقوله محذرا ومنفرا:
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها.
والكفر رأس الظلم، فلا يتوهمن أحد أن حمل الاية على التخيير وعدم الإكراه يشعر بإباحة الكفر أو الرضا، حاشا لله أن يكون هذا، ولعل خوف هذا التوهم هو الذي حدا كثيرا من المفسرين على حمل الاية على التهديد والوعيد، حتى مثّل علماء البلاغة للأمر الذي يراد به التهديد بهذه الاية، فالاية بنصها تخيير، ولكنه تخيير يستلزم تهديدا ووعيدا لا محالة في حال اختيار الكفر على الإيمان، وهي نصوص صريحة في عدم الإكراه على الإسلام.
وأما السنة فقد جاءت مؤيدة لما جاء به القران، وإليك طرفا منها:
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا «1» ، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» «2» .
وهكذا ترى أن النبي لم يأمر بالقتال إلا بعد أن تستنفد الوسائل السلمية، وليس بعد استنفادها إلا أنهم قوم مفسدون أو يريدون الحرب، وقد بينت فيما سبق أن الجزية ليست للإرغام على الإسلام، وإنما هي نظير حمايتهم
__________
(1) الغلول: الخيانة في الغنيمة، الغدر: عدم الوفاء بالعهود في الحروب، المثلة: تقطيع أعضاء المقتول، وتشويه جسده بعد القتل أو قبله.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 37، 39.
وتأمينهم وتقديم شتى الخدمات لهم، وليس أدل على هذا مما رواه البلاذري في فتوح البلدان أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لواقعة اليرموك ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الجزية وقالوا: (قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم) ، فقال أهل حمص:
(لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل- مع أنه على دينهم- عن المدينة مع عاملكم) ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.
وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد «1» ...
وقد يقول قائل فما تقول في الحديث الشريف: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ؟
قلنا: المراد بالحديث فئة خاصة، وهم وثنيو العرب، أما غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم على التخيير بين الأمور الثلاثة التي نص عليها حديث مسلم.
على أن بعض كبار الأئمة كمالك والأوزاعي ومن رأى رأيهما يرون أن حكم مشركي العرب كحكم غيرهم في التخيير بين الثلاثة: الإسلام، أو الجزية أو القتال، واستدلوا بحديث مسلم السابق، ويقولون: إن حديث «أمرت أن أقاتل الناس» منسوخ، أو أن فيه إيجازا واقتصارا على بعض الأمور الثلاثة «2» .
وإذا نظرنا بعين الإنصاف إلى الذين حملوا حديث المقاتلة على وثنيي العرب، لا نجده يجافي الحق والعدل، فهؤلاء الوثنيون الذين بقوا على شركهم لم يدعوا وسيلة من وسائل الصد عن الإسلام إلا فعلوها، ثم هم أعرف الناس بصدق الرسول، فهو عربي من أنفسهم والقران عربي بلغتهم، فالحق بالنسبة
__________
(1) أشهر مشاهير الإسلام، ج 1 ص 52.
(2) فتح الباري، ج 1 ص 64.
إليهم واضح ظاهر، فلم يبق إلا أنهم متعنتون معوّقون لركب الإيمان والعدل والحضارة عن التقدم.
هذا إلى أن الشرك مذهب فاسد، والمذاهب الفاسدة تحارب ويحارب دعاتها بكل الوسائل، من قتل أو نفي أو سجن، وهذا أمر مقرر في القديم والحديث. وها هي دول الحضارة اليوم في سبيل تأمين سلامتها، بل وفي سبيل إرضاء نزواتها وأهوائها تزهق الالاف من الأرواح، ويغمض الناظرون أعينهم عن هذا ولا يعترض المعترضون، فهل هذا حلال لهم حرام على غيرهم؟!.
فالإسلام حينما لم يقبل من مشركي العرب المحاربين إلا الإسلام بعد ما تبين لهم الحق، وأصبحوا قلة تعتنق مذهبا فاسدا بجانب الكثرة الكاثرة من العرب التي أسلمت طواعية واختيارا لم يكن متجنيا ولا ظالما، فالحديث كيفما فهمناه لا ينهض دليلا للمفترين على الإسلام.
4- ويرد هذه الفرية ويقتلعها من أساسها ما التزمه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته من التسامح مع أناس أسروا وهم على شركهم، فلم يلجئهم على الإسلام، بل تركهم واختيارهم. ذكر الثقات من كتّاب السير والحديث أن المسلمين أسروا في سرية من السرايا سيد بني حنيفة- ثمامة بن أثال الحنفي- وهم لا يعرفونه، فأتوا به إلى رسول الله فعرفه وأكرمه، وأبقاه عنده ثلاثة أيام، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضا كريما فيأبى ويقول: إن تسأل مالا تعطه، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، فما كان من النبي إلا أن أطلق سراحه.
ولقد استرقت قلب ثمامة هذه السماحة الفائقة، وهذه المعاملة الكريمة، فذهب واغتسل، ثم عاد إلى النبي مسلما مختارا، وقال له: (يا محمد، والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلي من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح أحب البلاد إلي) .
وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه سرورا عظيما، فقد أسلم بإسلامه كثير من قومه، ولم يقف أثر هذا التسامح في المعاملة عند إسلام ثمامة وقومه بل كانت له اثار بعيدة المدى في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد ذهب إلى مكة معتمرا، فهمّ أهلها أن يؤذوه ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة، فالى على نفسه أن لا يرسل لقريش شيئا من حبوب اليمامة حتى يؤمنوا، فجاهدوا جهدا شديدا فلم يروا بدّا من الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ترى ماذا كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم؟ أيدع ثمامة حتى يلجئهم بسبب منع الحبوب عنهم إلى الإيمان؟ لا، لقد عاملهم بما عرف عنه من التسامح، وألاإكراه في الدين، فكتب إلى ثمامة أن يخلّي بينهم وبين حبوب اليمامة، ففعل!! فما رأيكم أيها المفترون؟
بل امتد أثر دخوله في الإسلام على أساس من الاختيار والرغبة الصادقة إلى ما بعد حياة النبي، ذلك أنه لما ارتد بعض أهل اليمامة ثبت ثمامة ومن اتبعه من قومه على الإسلام، وصار يحذر المرتدين من اتباع مسيلمة الكذاب، ويقول لهم: (إياكم وأمرا مظلما لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاء على من لم يأخذ به منكم) ، ولما لم يجد النصح معهم خرج هو ومن معه من المسلمين وانضموا للعلاء بن الحضرمي مددا له، فكان هذا مما فتّ في عضد المرتدين، وألحق بهم الهزيمة «1» .
وإليك قصة أخرى: لما فتح النبي مكة ودخلها ظافرا منتصرا كان صفوان بن أمية «2» ممن أهدرت دماؤهم لشدة عداوتهم للإسلام، والتأليب على المسلمين، فاختفى وأراد أن يذهب ليلقي بنفسه في البحر، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال: يا نبي الله، إن صفوان سيد قومه، وقد هرب
__________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة، والاستيعاب بالهامش، ج 1 ص 203.
(2) صفوان هذا هو الذي كان أغرى عميرا هذا على قتل النبي بعد بدر، فلما قدم عمير لتنفيذ ما اتفقا عليه أخبره النبي بما جرى، فما كان منه إلا أن أسلم وحسن إسلامه لما استيقن أنه نبي يوحي إليه من ربه.
ليقذف نفسه في البحر فأمّنه، فأعطاه عمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له: (فداك أبي وأمي. جئتك من عند أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس؛ وهو ابن عمك؛ وعزه عزك؛ وشرفه شرفك، وملكه ملكك) فقال صفوان:
إني أخافه على نفسي. قال عمير: هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه علامة الأمان وهي العمامة، وقيل برده، فرجع إلى رسول الله فقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني، فقال النبي: «صدق» ، فقال صفوان: أمهلني بالخيار شهرين، فقال له رسول الله: «بل أربعة أشهر» ، ثم أسلم بعد وحسن إسلامه.
فهل بعد هذه الحجج الدامغة يتقوّل متقوّل على الإسلام زاعما أنه قام على السيف والإكراه؟!
5- ثم ما رأي المبشّرين والمستشرقين في أن من أكره على شيء لا يلبث أن يتحلل منه إذا وجد الفرصة سانحة له، بل ويصبح حربا على هذا الذي أكره عليه؟ ولكن التاريخ الصادق يكذب هذا، فنحن نعلم أن العرب- إلا شرذمة، تسور الشيطان عليها- ثبتوا على ما تركهم عليه الرسول، وحملوا الرسالة، وبلّغوا الأمانة كأحسن ما يكون البلاغ إلى الناس كافة، ولم يزالوا يكافحون ويجاهدون في سبيل تأمين الدعوة وإزالة العوائق من طريقها حتى بلغت ما بلغ الليل والنهار في أقل من قرن من الزمان، ومن يطّلع على ما صنعه العرب في حروبهم وفتوحاتهم لا يسعه إلا أن يجزم بأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم رخيصة لله، لا يمكن أن يكون قد تطرق الإكراه إلى قلوبهم، وفي صحائف البطولة التي خطوها أقوى برهان على إخلاصهم وصدق إيمانهم، وسل سهول الشام وسهول العراق، وسل اليرموك والقادسية، وسل شمال إفريقيا تخبرك ما صنع هؤلاء الأبطال.
6- ثم ما رأي هؤلاء المفترين على الإسلام في حالة المسلمين لمّا ذهبت ريحهم، وانقسمت دولتهم الكبرى إلى دويلات، وصاروا شيعا وأحزابا، وتعرضوا لمحن كثيرة في تاريخهم الطويل كمحنة التتار، والصليبيين في القديم، ودول الاستعمار في الحديث، وكل محنة من هذه المحن كانت كافية للمكرهين
على الإسلام أن يتحللوا منه ويرتدوا عنه، فأين هم الذين ارتدوا عنه، أخبرونا يا أصحاب العقول؟!!
إن الإحصائيات الرسمية لتدل على أن عدد المسلمين في ازدياد، على الرغم من كل ما نالهم من اضطهاد وما تعرضوا له من عوامل الإغراء، وقد خرجوا من هذه المحن بفضل إسلامهم وهم أصلب عودا وأقوى عزيمة على استرداد مجدهم التليد وعزتهم الموروثة.
بل ما رأي هؤلاء في الدول التي لم يدخلها مسلم مجاهد بسيفه، وإنما انتشر فيها الإسلام بوساطة العلماء والتجار والبحّارة كأندونيسيا، والصين، وبعض أقطار إفريقيا، وأوروبا وأمريكا، فهل جرّد المسلمون جيوشا أرغمت هؤلاء على الإسلام؟ ألا فليسألوا أحرار الفكر الذين أسلموا من أوروبا وغيرها، وسيجدون عندهم النبأ اليقين.
لقد انتشر الإسلام في هذه الأقطار بسماحته، وقربه من العقول والقلوب، وها نحن نرى كل يوم من يدخل في الإسلام، وذلك على قلة ما يقوم به المسلمون من تعريف بالإسلام، ولو كنا نجرد للتعريف به عشر معشار ما يبذله الغربيون من جهد ومال لا يحصى في سبيل التبشير بدينهم وحضارتهم، لدخل في الإسلام ألوف الألوف في كل عام. ولن ترى- إن شاء الله- من يحل عروة الإسلام من عنقه أبدا مهما أنفقوا وأسرفوا في سبيل دعاياتهم التبشيرية، وبعثاتهم التعليمية والتنصيرية.
أما بعد: فقد لاح الصبح لذي عينين، وتبيّن الحق لكل ذي عقل وقلب، وما إخالك- أيها القارىء المنصف- إلا ازددت يقينا بسماحة الإسلام وسماحة الرسول في الدعوة إليه، وأن ما ردّده المستشرقون والمبشرون ما هو إلا فرية كبرى:
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً «1» .
__________
(1) سورة الكهف: الاية 5.