وقد كان لما أسلم عمر وأعزّ الله به الإسلام، وتمكن المسلمون من أداء
__________
(1) اللحي بكسر اللام عظم الفك.
صلاتهم بالمسجد الحرام حصلت مهادنة بين قريش والمسلمين، ثم لم تلبث قريش أن جن جنونها لما رأت تزايد المسلمين كل يوم وثباتهم على دينهم وعقيدتهم، فعادت إلى ما كانت أولا من ابتلاء للمسلمين وتعذيبهم.
وكان نمي إلى المسلمين بالحبشة خبر هذه المهادنة، كما بلغهم إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، هذا إلى أنه كانت قد قامت ثورة ضد النجاشي في ملكه «1» ، فخشي المسلمون أن يصاب بهزيمة، وربما يأتي ملك لا يعرف للمسلمين حقهم كما كان النجاشي أصحمة يعرف ذلك.
لذلك رأى مهاجرة الحبشة، أو معظمهم الرجوع إلى موطنهم «مكة» «2» ، فلما وصلوا وجدوا الأمر على غير ما سمعوا، وأن البلاء ما زال قائما، بل وعادت الفتنة إلى أشد مما كانت، فدخل من دخل منهم مكة بجوار أو مستخفيا، ومنهم من عاد من حيث أتى.
,
وفي هذا العام وفد على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من بقي من مهاجري الحبشة وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب، ومعه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن وهم الأشعريون، منهم أبو موسى الأشعري، وأخوه أبو بردة، وأبو رهم. ففي صحيح البخاري «1» عن أبي موسى أنه بلغهم مخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم باليمن، فخرجوا مهاجرين إليه وركبوا سفينة، ولكن الرياح عاكستها، وألقت بها إلى الحبشة، فوافوا جعفرا وأصحابه هناك، فأقاموا معهم حتى بعث النبي عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي أن يجهّز إليه جعفرا ومن معه، فجهزهم وحملهم في سفينتين وعادوا مكرمين إلى المدينة.
وكان قدومهم بعد فتح خيبر، وقد سر النبي بمقدم جعفر وأصحابه، وقال: «ما أدري بأيهما أنا أسر: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟» وكان فيمن قدم مع جعفر زوجته أسماء بنت عميس والسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج الرسول، وخالد بن سعيد بن العاص، وزوجته، وولده، وعمرو بن سعيد بن العاص، والأشعريون.
ولما قدمت أسماء وراها الفاروق عمر قال لها: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله، يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البعداء البغضاء، وذلك في الله،
__________
(1) فتح الباري، ج 7 ص 334.
وفي رسول الله. ثم أخبرت النبي بمقالة سيدنا عمر فقال لها: «ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» أي هجرتهم إلى الحبشة، ثم هجرتهم إلى المدينة، فما فرح أصحاب السفينة بشيء أعظم من فرحهم بمقالة الرسول.
ولما لهم من منزلة، ولما تحمّلوه في سبيل الإسلام قسم لهم جميعا من غنائم خيبر، ولم يقسم لأحد لم يشهدها غيرهم، إلا ما كان من أمر أبي هريرة فقد قدم على النبي مسلما وهو بخيبر بعد فتحها، فكلم النبي أصحابه في شأنه فأشركوه في غنيمتهم.