واشتركت أسماء وعائشة ابنتا الصديق في تجهيز السفرة التي سيأخذها المهاجران، ووضعتاها في جراب «4» ، فلما أرادتا ربط فم الجراب لم تجدا شيئا،
__________
(1) هكذا في صحيح البخاري، وفي السيرة: إنما هما ابنتاي، وقد فسرت المراد بالأهل، فعائشة كان عقد عليها النبي، وأسماء صارت بمنزلة الأهل بعد خطبة أختها، أو أن هذا من أبي بكر تنزيل لأهله منزلة أهل النبي.
(2) أي أريد الصحبة.
(3) إنما اشترط النبي أن يكون ذلك بالثمن مع أن أبا بكر أنفق ماله في سبيل الله ورسوله، لأنه أحب ألاتكون هجرته إلا من مال نفسه، وكان ثمنها أربعمائة درهم، وقد قال الواقدي: إن هذه الناقة هي القصواء، وأنها كانت من نعم بني قشير، وقد عاشت بعد النبي قليلا، وكانت مرسلة ترعى في البقيع، وماتت في خلافة أبي بكر، وذكر ابن إسحاق أنها الجدعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا روى ابن حبان من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنها الجدعاء. (فتح الباري، ج 7 ص 187) .
(4) الوعاء من الجلد.
فشقّت السيدة أسماء نطاقها «1» نصفين، فربطت فم الجرب بنصفه وانتطقت بالاخر، فلذلك سميت ذات النطاقين أو ذات النطاق.
وقال ابن سعد: شقّت نطاقها فأوكأت بنصف منه الجراب، وشدّت فم القربة بالاخر، فسميت ذات النطاقين، وقد ذكر ابن إسحاق في سيرته قصة النطاق بعد خروج النبي وصاحبه بالغار لما جاءهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما، وفي صحيح البخاري أن القصة كانت في بيت الصديق قبل خروج النبي وصاحبه، وما «في الصحيح» هو الصحيح.
مبيت عليّ على فراش النبي
ثم عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدما أخبر أبا بكر بالإذن له في الهجرة، وبعد أن أعدّا العدة للهجرة- إلى بيته، وكان جبريل عليه السلام أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لا يبيت على فراشه، فلما كانت عتمة الليل اجتمع فتيان من قريش على بابه، وبيدهم السيوف المرهفة، ويتطاير من عيونهم شرر الغدر والمكيدة، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: «نم على فراشي، وتسج «2» ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فإنه لن يخلص إليك منهم شيء تكرهه» .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينام في برده هذا إذا نام، فسمع عليّ لما أشار به رسول الله وأطاع طيّبة بذلك نفسه، وبذلك كان أول فدائي شاب في الإسلام، فقد وقى رسول الله بنفسه، وهو يعلم أنه على قيد أذرع من سيوف المشركين ورماحهم، وكان هذا التدبير المحكم الذي أشار به جبريل عليه السلام مما لبّس الأمر على المشركين المتربصين للنبي، فكانوا إذا نظروا من خلل الباب «3» وجدوا النائم فيظنونه النبي، بينما هو الفتى الشجاع علي.
__________
(1) هو ما تشد به المرأة وسطها، وكان الانتطاق من عادة النساء العربيات.
(2) تغط.
(3) شقوق الباب.
خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وفي هجعة من الليل خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أخذ الله على أبصارهم فلم يبصروا به، وكان أخذ كفا من تراب، فصار ينثر منها على رؤوسهم زيادة في النكاية بهم «1» ، وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى:
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) » .
ثم انصرف رسول الله لشأنه، وبقي المشركون ينتظرون النائم حتى يخرج، فيفعلوا به ما اتفقوا عليه.
ذهاب الرسول إلى بيت الصدّيق
وذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فوره إلى بيت الصدّيق «3» - رضي الله عنه-
__________
(1) قيل: الحكمة في وضع التراب دون غيره الإشارة إلى أنهم الأذلون الأصغرون، وأن مصيرهم إلى الذل والرغام.
(2) الايات 1- 9 من سورة يس.
(3) هذا الذهاب خلاف الذهاب الأول في نحر الظهيرة، فالأول كان لإخبار الصديق بالإذن للهجرة، والثاني كان ليلا بعد ما أفلت من المشركين للخروج إلى الغار، وقد تحيّر بعض كتاب السيرة وشرّاحها في هذا، فخروج الرسول من بيته كان ليلا، ووصوله إلى بيت الصديق كان في الظهيرة كما ثبت في الصحيح وغيره، فأين كان النبي في هذه الساعات الطوال؟! وهذا الذي ذهبت إليه هو الذي ينبغي أن يصار إليه، وقد جوّز بعضهم أن النبي مكث في بيت الصديق حتى كانت الليلة المقبلة، فخرجا ليلا وهو بعيد، والبعض جوز أنه خرج إلى الغار، ثم عاد إلى بيت أبي بكر في الظهيرة، ثم عادا إلى الغار معا، وهو أشد بعدا من الأول، والحق ما هداني الله إليه، وهو الذي يتفق ومنطق العقل وتسلسل الحوادث.
وكان الصدّيق يترقب وصوله في أية ساعة بعد أن اتفقا على الصحبة في الهجرة، وأعدّا للسفر عدته.
,
خرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه وقد تزودا بالزاد والماء ليلا من خوخة «1» في ظهر بيت أبي بكر حتى لا يراهما أحد، وسلكا طريقا غير معهودة، فبدلا من أن يسيرا نحو الشمال ذهبا إلى الجنوب حيث يوجد (غار ثور) وكان خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- كما قال ابن إسحاق- لهلال ربيع الأول، وقيل: في أواخر صفر.
,
ولما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة توجه إلى البيت وقال: «والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» «2» .
ثم توجه إلى الله بهذا الدعاء: «الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهمّ أعنّي على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام.
اللهمّ اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللني، وعلى صالح خلقي فقوّني، وإليك ربي فحببني، وإلى الناس فلا تكلني.
ربّ المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والاخرين، أن تحلّ عليّ غضبك، وتنزل بي سخطك.
أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك، وجميع سخطك، لك العتبى عندي خير ما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بالله» «3» .
__________
(1) باب صغير في ظهر البيت.
(2) رواه أحمد والترمذي وصححه.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 178، وقال: رواه أبو نعيم.
,
وفي الطريق إلى الغار رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبي بكر عجبا، راه مرة يسير أمامه، ومرة يسير خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن شماله!! فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا، فقال: يا رسول الله أذكر الطّلب «1» فأمشي خلفك، وأذكر الرّصد «2» فأكون أمامك، ومرة عن يمينك، ومرة عن شمالك، لا امن عليك «3» !
فقال له النبي: «يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟» قال: نعم والذي بعثك بالحق!!
وما زالا يسيران في ظلمة الليل وبين الرمال والصخور حتى وصلا إلى الغار.
,
ولما وصلا إلى الغار وأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل فيه قال له الصديق:
مكانك حتى أستبرىء لك، فإن كان به أذى نزل بي قبلك، ثم نزل فتحسس الغار فلم يجد به شيئا، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد بلغ منه الإعياء والتعب مبلغه «4» ، فما إن دخلا حتى توسّد الرسول قدم أبي بكر ونام.
وكان الصدّيق يأخذ من ثوبه ويسدّ فم الأجحار خشية أن يكون شيء من الهوامّ فتؤذي رسول الله، فبقي منها جحر فألقمه عقبه، وكانت به حية فلدغته،
__________
(1) الطالب للإنسان، وإنما يأتي من الخلف.
(2) الرصد: المترصد في الطريق.
(3) روى هذه القصة الإمام البيهقي (البداية والنهاية، ج 3 ص 180) .
(4) لقد صعدت إلى هذا الجبل نهارا في رفقة ونحن شباب، فاستغرقنا أكثر من ساعة، وقد حفيت أقدامنا من الصخور، فما بالك إذا كان ليلا، وطلبا للنجاة من عدو مغيظ محنق؟ فلله ما لقي النبي وصاحبه في هذه الليلة، وأذكر أن رحلتنا تلك كانت في مثل يوم الذكرى المجيدة، ذكرى الميلاد، وقد صليت في الغار ركعتين، وألقيت كلمة يومها في جلال هذه الذكرى.
فمنعه مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه أن يتململ، ولكن الألم لمّا اشتد به تحدّرت دموعه، فسقطت على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستيقظ، فقال: «ما لك يا أبا بكر؟» فأخبره بما حدث، فتفل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبرئت بإذن الله تعالى «1» .
فلا عجب إذا كان شيخ الإسلام أبو بكر جديرا بأن يكون شيخ الفدائيين في القديم والحديث.
,
وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل هو وصاحبه الصديق بالغار أمر الله سبحانه شجرة فنبتت على فم الغار، وانتشرت أغصانها على بابه، وألهم العنكبوت فنسجت على أغصان الشجرة، وألهم حمامتين وحشيّتين فعششتا وباضتا بين أغصان الشجرة «2» ، وقد كان لهذه الايات الثلاث أثرها في تضليل المشركين وصدّهم عن اقتحام الغار ودخوله كما سترى عن كثب، وهكذا وقى الله نبيه وصاحبه بأضعف جنده.
,
ويحاول أميل درمنغم أن يقلل من هذه المعجزات فيقول: هذه الأمور الثلاثة هي واحدها المعجزة التي يقص التاريخ الإسلامي الجد: نسيج عنكبوت، وهوى حمامة، ونماء شجرة، وهي أعاجيب ثلاث لها كل يوم في أرض الله نظائر.
وهي شنشنة نعرفها من أخزم، فالمستشرقون- إلا القليل- يحرصون على التقليل من معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم الحسية، ويشككون فيها، وإني لأقول لدر منغم
__________
(1) روى هذه القصة رزين العبدري صاحب «تجريد الصحاح» (شرح المواهب، ج 1 ص 404) .
(2) روى القصة الإمام أحمد في مسنده، والبزار في مسنده، وقاسم بن ثابت في الدلائل (شرح المواهب، ج 1 ص 399) ؛ ورواها أيضا الحافظ ابن عساكر (البداية والنهاية، ج 3 ص 181، 182) .
ومشايعيه: من الذي أخذ بأبصار المشركين فلم ينظروا تحت أرجلهم، ولو فعلوا لرأوا طلبتهم المنشودة؟ ومن الذي سمّر أرجلهم في الأرض فلم يتقدموا نحو فم الغار؟! ومن الذي صرفهم عن الغار، وقد همّ بعضهم بدخوله؟
أليست هذه ايات بيّنات على أن النبي ممنوع ومحفوظ من ربه؟ وأنه نبي الله حقا؟ ولو أن الأمور تجري على السنن العادي- كما زعم- لكان الأمر على غير ما كان، فسبحان الله تعالى الذي يسخر ما شاء من خلقه، لمن شاء من عباده المخلصين.
تخلف عليّ لردّ الودائع إلى أهلها
ولم يكن أحد يعلم بخروج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين خرج إلا أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، وقد أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتخلّف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس، إذ لم يكن أحد بمكة عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه، وأمانته حتى كان يلقّب «بالأمين» .
,
ولنعد إلى الفتيان المشركين الذين وقفوا يتربصون على باب الدار، يحرسون النائم ظنا منهم أنه النبي، بل صاروا يتشاورون فيما بينهم أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى اتاهم ات فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا:
محمدا، قال: قد خيّبكم الله، قد- والله- خرج محمد عليكم، ثم ما ترك أحدا منكم إلا وضع على رأسه التراب، وانطلق لشأنه، أفما ترون ما بكم؟! فوضع كل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، فكأنهم لم يصدّقوا، فجعلوا يطّلعون فيرون النائم على فراشه متسجيّا ببرده، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم، عليه برده.
فما زالوا كذلك حتى تنفس الصباح، فدخلوا على النائم، وكشفوا البرد فإذا به علي! فقالوا له: أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري، فعلموا وتيقنوا
أنه أفلت منهم، فأصابهم الحزن والكمد، «ويمكرون، ويمكر الله، والله خير الماكرين» «1» .
,
ولما تبينت قريش إفلات النبي منهم جنّ جنونهم، وصاروا يهيمون على وجوههم طلبا له، وجعلوا لمن يأتي به حيا أو ميتا مائة ناقة، وبعثوا القافة «2» إثره في كل وجه، منهم: كرز بن علقمة، وسراقة بن جعشم، فصاروا يتبعون الأثر حتى انتهوا إلى جبل (ثور) ، ثم صعدوا الجبل حتى وقفوا على فم الغار.
,
إذا كان دخل الغار فكيف لم يتهدم نسج العنكبوت، ولم ينكسر بيض الحمام؟!
ووقفوا مترددين، أيدخلون الغار أم لا؟ حتى إن أحدهم همّ أن يدخل الغار فقال له الاخر: إن هذا العنكبوت لمن قبل ميلاد محمد!! وهكذا نرى أن الله صرف المشركين عن النبي وصاحبه، ويرحم الله الإمام البوصيري حيث قال:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم
,
وكان المشركون واقفين على فم الغار يتحدثون بمسمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه، وكان الصدّيق شديد الخوف على رسول الله حتى قال: يا رسول الله
__________
(1) قد يراد بالمكر التدبير المحكم، وهو بهذا المعنى يجوز إسناده إلى الله، وقد يراد به التدبير في خفاء خشية الاستعلان، وهو بهذا المعنى لا ينسب إلى الله، وعليه فتكون الاية من قبيل المشاكلة اللفظية، أي ومكروا بالنبي هذا المكر السيىء فجازاهم الله على مكرهم بما هو أنكى لهم والم.
(2) جمع قائف، وهو الذي يتبع أثر الأقدام في الأرض حتى يعلم أين ذهب صاحبه.
لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما ظنك يا أبا بكر- باثنين الله ثالثهما» ، وفي هذا نزل قول الله تبارك وتعالى:
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) «1» .
ومكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه في الغار ثلاث ليال حتى انقطع عنهم الطلب.
,
قالت أسماء رضي الله عنها: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فقلت: لا أدري- والله- أين أبي؟
فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي!!.
وهكذا وصل السفه بأبي جهل أن يؤذي امرأة، وأن يتخلّى عن أخلاق العرب في الترفع عن مثل هذا، وأن ينزل بنفسه إلى هذا الدرك من الإسفاف.
كياسة السيّدة أسماء
روى ابن إسحاق بسنده عن السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت:
لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخرج معه أبو بكر احتمل ماله كله معه، خمسة الاف درهم أو ستة الاف، فانطلق بها معه، فدخل علينا جدّي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لا أراه إلا قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في
__________
(1) الاية (40) من سورة التوبة.
البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا، فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، وإذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكّن الشيخ بذلك.
,
وقد كان لال أبي بكر- رضي الله عنه- تضحيات، ومفاخر خالدة في سبيل الهجرة، وقد علمت ما كان من السيدة أسماء لمّا شقّت نطاقها نصفين، وستسمع ما كان من الشاب عبد الله بن أبي بكر، وما كان من مولى الصدّيق عامر بن فهيرة، وبذلك اجتمعت هذه المفاخر الكبرى للصدّيق- رضي الله عنه- وإليك ما رواه البخاري في هذا بسنده عن عائشة، قالت:
«ثم لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت في الغار عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف «1» لقن «2» ، فيدلج «3» من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به «4» إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة «5» من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن- منحتهما ورضيفهما «6» حتى ينعق «7» بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة» وبذلك كان عامر
__________
(1) بفتح الثاء وكسر القاف ويجوز إسكانها: حاذق.
(2) بفتح اللام وكسر القاف: سريع الفهم جيد الوعي.
(3) بفتح الياء وتشديد الدال بعدها جيم: أي يخرج بغلس.
(4) من الكيد، وهو بضم الياء مبنيا للمجهول.
(5) غنما فيها لبن.
(6) رضيف كرغيف: هو اللبن المرضوف، أي الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته.
(7) يصيح، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم.
يعفّي على اثار عبد الله فلا يتفطن أحد إليه، ولا يستدل باثاره على المهاجرين الكريمين.
,
وبعد ثلاث ليال وقد هدأ الطلب، ويئس المشركون من إدراكهما خرجا من الغار، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر استأجرا رجلا من بني الديل «1» يسمّى عبد الله بن أريقط، وهو من بني عبد بن عدي، وكان هاديا خرّيتا «2» قد غمس حلفا «3» في ال العاص بن وائل السهمي، وكان على دين كفار قريش «4» فأمناه «5» ، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقبه، فكانوا ثلاثة والدليل.
,
فلما خرج بهما عبد الله بن أريقط «6» دليلهما سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من (عسفان) «7» ، ثم سلك
__________
(1) بكسر الدال، وإسكان الياء، وقيل بضم أوله وكسر ثانيه مهموزا.
(2) الخريت: الماهر بالهداية العارف بالطريق، وسمي كذلك لأنه يهدي بمثل خرت الإبرة أي ثقبها، أو لأنه يهتدي لاخرات المفازة وهي طرقها الخفية.
(3) أي كان حليفا لهم.
(4) وهذا يدل على مروءة العرب ووفائهم وأمانتهم، وإلا فقد كان يمكنه أن يدل المشركين عليهما ويأخذ الجعل الكبير.
(5) بفتح الهمزة وكسر الميم.
(6) لم يعرف له إسلام كما جزم بذلك الحافظ عبد الغني المقدسي في سيرته وتبعه النووي، وقال السهيلي: لم يكن أسلم ولا وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد، ولا يعترض بأن الواقدي ذكر أنه أسلم لأنه ليس بصحيح، وضعف الواقدي معلوم خصوصا مع الانفراد، وكأنه سلف الذهبي في عده صحابيا، وقال في الإصابة: لم أر من ذكره من الصحابة إلا الذهبي في التجريد (شرح المواهب، ج 1 ص 409) .
(7) عسفان: موضع بين مكة والمدينة بينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، قال الفيومي في المصباح: ويسمى في زماننا مدرج عثمان.
بهما على أسفل (أمج) «1» ، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديدا «2» ، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما (الخرّار) «3» ، ثم سلك بهما ثنية المرة «4» ، ثم سلك بهما لقفا»
، قال ابن هشام: ويقال: لفتا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاج- ويقال: مجاج «6» فيما قال ابن هشام-، ثم سلك بهما مرجح «7» من ذي الغضوين، قال ابن هشام:
ويقال: العضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد «8» ، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلّم من بطن أعداء مدلجة تعهن «9» ، ثم على العبابيد «10» ، قال ابن هشام: ويقال: العبابيب، ويقال: العيثانة يريد: العبابيب.
ثم أجاز بهما الفاجة «11» ، ويقال: القاحة فيما قال ابن هشام، ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهما، فحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من أسلم يقال له: أوس بن حجر على جمل له يقال له: ابن الرداء إلى المدينة، وبعث معه غلاما له يقال له: مسعود بن هنيدة.
__________
(1) يفتح الهمزة والميم: موضع.
(2) على صيغة المصغر: موضع.
(3) بفتح الخاء وتشديد الراء: موضع قرب الجحفة.
(4) بفتح الميم والراء المخففة، قال السهيلي: كذا وجدته مخفف الراء، مقيدا كأنه مسهّل الهمزة من المرأة.
(5) بفتح اللام والقاف في قول ابن إسحاق، وفي رواية ابن هشام «لفتا» بكسر اللام، والفاء.
(6) مجاج: بكسر الميم وجيمين قال ابن هشام: ويقال فيها مجاج بفتح الميم وقيل مجاح بالحاء المهملة بعد الجيم.
(7) مرجح: بتقديم الجيم على الحاء.
(8) الجداجد بجيمين ودالين: كأنها جمع جدجد، وأحسبها ابارا، قاله السهيلي.
(9) تعهن: بكسر التاء والهاء، والتاء فيه أصلية.
(10) العبابيد: كأنه جمع عباد، وقال ابن هشام: وهي العبابيب كأنها جمع عباب من عبيت الماء عبا.
(11) الفاجة: بفاء وجيم وقال ابن هشام: القاحة بالقاف والحاء.
ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية العائر عن يمين ركوبة، ويقال: ثنية الغائر- فيما قال ابن هشام- حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل.
,
وفي الطريق إلى المدينة مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بأم معبد، وإليك قصتها لما فيها من معجزة ظاهرة للنبي، ولما فيها من صورة صادقة للمرأة العربية في عفتها وشهامتها، ومروءتها، وكرمها، وبلاغتها وفصاحتها، فقد وصفت النبي صلّى الله عليه وسلّم بما يعجز عنه بيان غيرها.
روى البيهقي وغيره «1» عن أخي أم معبد حبيش صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعه أبو بكر، وعامر بن فهيرة، وابن أريقط يدلهم على الطريق مرّوا بقديد على أم معبد: عاتكة بنت خالد بن خليد «2» الخزاعية، وكانت برزة «3» ، جلدة «4» ، تحتبي بفناء القبة «5» ، ثم تسقي وتطعم من يمر بها، وكان القوم مرملين «6» مسنتين «7» ، فسألوها: هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئا، وقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى «8» .
__________
(1) ورواها أيضا ابن خزيمة، والحاكم وصحّحها، وصاحب الغيلانيات، ومن طريقه اليعمري عن أبي سليط الأنصاري البدري، وابن عبد البر، وابن شاهين، وابن السكن، والطبراني وغيرهم.
(2) على صيغة المصغر كما صرّح به ابن الأثير في الجامع، وقيل: ابن خنيف مصغرا، وقيل ابن منقذ، وهي صحابية خرّج لها ابن السكن.
(3) كضخمة عفيفة مسنة فلم تتخدر لسنها، وخرجت من حد المحجوبات.
(4) قوية.
(5) الفناء: المكان الواسع أمام البيت أو القبة وهي الخيمة.
(6) نفدت أزوادهم.
(7) أصابتهم سنة أي جدب.
(8) القرى: إكرام الضيف أي ما منعناه عنكم.
فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى شاة في كسر الخيمة «1» خلّفها الجهد «2» عن الغنم، فسألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل بها من لبن» ؟ فقالت: هي أجهد من ذلك، فقال: «أتأذنين لي أن أحلبها «3» ؟ فقالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت حلبا «4» فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها «5» ، ومسح ضرعها- وفي رواية وظهرها- وسمّى الله- وفي رواية: ودعا لها في شائها- فتفاجّت «6» ، ودرّت، ودعا بإناء يربض «7» الرهط، فحلب فيه ثجا «8» ، وسقى القوم حتى رووا، وسقى أم معبد حتى رويت، ثم شرب اخرهم وقال: «ساقي القوم اخرهم شربا» ثم حلب فيه مرة أخرى فشربوا عللا بعد نهل «9» ، ثم حلب فيه اخرا، وغادره عندها- وفي رواية أنه قال لها أن «ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك» - ثم ركبوا، وذهبوا.
فقلما لبث أن جاء أبو معبد «10» زوجها يسوق أعنزا عجافا «11» ، يتساوكن هزلا «12» لا نقي بهن «13» ، فلما رأى اللبن أبو معبد عجب، وقال:
__________
(1) بكسر الكاف وفتحها: جانب الخيمة.
(2) بضم الجيم وفتحها: المشقة والهزال.
(3) بضم اللام وكسرها.
(4) أي لبنا في الضرع.
(5) وضع رجلها بين ساقه وفخذه.
(6) فتحت ما بين رجليها كما هو شأن الغنم إذا حلبت.
(7) أي يشبع الجماعة ويرويهم حتى يربضوا: أي يناموا ويمتدوا على الأرض.
(8) أي حلبا كثيرا.
(9) النهل: الشربة الأولى، والعلل: الشربة الثانية.
(10) قال السهيلي: لا يعرف اسمه، وله رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوفي في حياته، وقال العسكري: اسمه أكثم بن أبي الجون، وقال الذهبي: قيل اسمه حبيش بضم الحاء، وفتح المواحدة، وسكون الياء، اخره شين معجمة على الأصح، وقيل بمعجمة مضمومة ونون مفتوحة، وقيل: أكثم قديم الوفاة.
(11) جمع عجفاء أي هزالا.
(12) يتمايلن في مشيتهن من الهزال.
(13) النقي: مخ العظام أي مخهن قليل.
ما هذا يا أم معبد؟ أنّى لك هذا؟! والشاء عازب، حيال «1» ولا حلوب «2» بالبيت، فقالت: لا- والله- إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك فمن حاله كذا، وكذا «3» ، فقال: صفيه يا أم معبد، فقالت:
رأيت رجلا ظاهر الوضاءة «4» ، مبلج الوجه»
، حسن الخلق «6» ، لم تعبه ثجلة «7» ، ولم تزر به صعلة «8» ، وسيم قسيم، في عينيه دعج «9» ، وفي أشفاره وطف «10» ، وفي صوته صحل «11» ، أحور «12» ، أكحل «13» ، أزج «14» ، أقرن «15» ، شديد سواد الشعر، في عنقه سطح «16» ، وفي لحيته كثاثة «17» ، إذا صمت فعليه
__________
(1) العازب: بعيدة المرعى، الحيال: بكسر الحاء المهملة جمع حائل وهي التي ليس بها حمل.
(2) ذات لبن.
(3) كناية عن القصة التي حدثت بها.
(4) الحسن والبهجة.
(5) مشرقه.
(6) بفتح الخاء وسكون اللام، أو بضم الخاء واللام، وعرفت ذلك من تواضعه وحسن معاملته لرفقته.
(7) بفتح الثاء وسكون الجيم عظم البطن.
(8) صغر الرأس.
(9) شدة سواد العينين.
(10) أشفاره: رموش عينيه، وطف: طول وغزارة.
(11) بفتح الصاد والحاء بحة خفيفة فليس في صوته غلظ.
(12) الحور بفتح الحاء والواو: شدة بياض العينين، وشدة سواد سوادهما.
(13) الكحل بفتح الكاف والحاء: سواد في أجفان العينين خلقة، والرجل أكحل وكحيل، والمرأة كحلاء.
(14) دقيق الحاجبين في طول.
(15) مقرون الحاجبين.
(16) ارتفاع وطول.
(17) غزارة من غير دقة.
الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن «1» ، حلو المنطق، فصل «2» ، لا نزر «3» ، ولا هذر «4» ، أجهر الناس «5» ، وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب «6» ، ربعة لا تشنؤه «7» من طول، ولا تقتحمه «8» عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفّون به «9» ، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره «10» محفود محشود «11» ، لا عابس، ولا مفنّد «12» .
فقال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتّبعته، ولأجهدنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلا «13» .
,
وقد روي أنها كثرت غنمها ونمت حتى جلبت منها جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر، فراه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك،
__________
(1) أي كلام متناسق، ومتصل بعضه ببعض، فأشبه في تناسقه الدرر، وفي تواليه الخرزات إذا تتابعت.
(2) بسكون الصاد: أي كلام بيّن يفصل الحق من الباطل، أو تفسيره ما بعده.
(3) قليل الكلام.
(4) كثير الكلام فهو وسط بين هذا وذاك، والفضيلة وسط بين رذيلتين.
(5) أرفعهم صوتا من غير إفراط مع الوضوح.
(6) أفرد الضمير حملا على لفظ الناس أو لإرادة الجنس.
(7) لا يبغض لفرط طوله.
(8) لا تتجاوزه إلى غيره ازدراء له وإعراضا.
(9) يحيطون به.
(10) تسابقوا إلى امتثاله.
(11) محفود: مخدوم، ومن ذلك ما ورد في دعاء القنوت: «وإليك نسعى ونحفد» ، محشود: عنده حشد وهم الجماعة.
(12) عابس: مقطب الوجه، والمفنّد بكسر النون مع التشديد اسم فاعل الذي يكثر من اللوم.
(13) شرح المواهب ج 1 ص 410- 416؛ البداية والنهاية ج 3 ص 192- 193.
فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أوما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعطاها- وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت.
وذكر صاحب «الوفاء» أنها هاجرت هي وزوجها، وأسلما، وفي شرح السنة للبغوي: هاجرت هي وزوجها، وأسلم أخوها حبيش، واستشهد يوم الفتح.
,
وكان أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- شيخا «1» يعرف، لأنه كان كثير التردد على هذا الطريق الذي يمر بالمدينة في أسفار تجارته، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم شابا «2» ، فيلقى الرجل أبا بكر وهو يعرفه، فيقول: يا أبا بكر: من هذا الرجل الذي بين يديك؟! فيقول: هذا رجل يهديناي السبيل، فيحسب السامع أنه يعني الطريق المحسوس، وإنما يعني الصديق طريق الخير والهداية.
وقد كان ما فعله الصديق بإيحاء من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذكر ابن سعد في طبقاته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: «أله الناس عني «3» » وهذا من التحوط الحكيم في وقت اشتد فيه الطلب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان إذا سئل الصديق ممن
__________
(1) أدركه الشيب.
(2) يعني لم يلحقه الشيب، وقد يفهم من ظاهر هذا الكلام أن الصديق- رضي الله عنه- كان أسن من رسول الله وهو غير صحيح، وأما الأثر المشهور على الألسنة أن النبي قال لأبي بكر: «أينا أسن أنا أم أنت» ؟ قال: «أنت أكبر وأكرم، وأنا أسن منك» فقد قال فيه الإمام ابن عبد البر: هذا مرسل ولا أظنه إلا وهما، وقال الحافظ ابن حجر: وهو كما ظن، وإنما يعرف هذا للعباس، وأما أبو بكر فقد ثبت في صحيح مسلم عن معاوية أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وكان قد عاش بعد النبي سنتين وأشهرا، فيلزم على الصحيح أن يكون أصغر من النبي بأكثر من سنتين.
(3) أي اصرفهم عن معرفة حقيقة أمري.
لا يعرفه: من أنت؟ قال: باغي حاجة، فإذا قيل له من هذا معك؟ قال: هاد يهديناي.
,
كانت قريش قد جعلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم من يأتي به حيا أو ميتا، وصاحبه أبي بكر دية كل واحد منهما مائة ناقة- كما ذكر موسى بن عقبة في مغازيه- وكان هذا الجعل مما حمل سراقة على متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وإليك قصة سراقة كما رواها قال:
«فبينما أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد وجدت انفا أسودة «2» بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم «3» ، قال: لعل وسكت.
ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض»
، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها «5» تقرب بي «6» حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها «7» ، فأهويت يدي إلى
__________
(1) جعشم: بضم الجيم، وسكون العين، وضم الشين، والمدلجي بضم الميم، وسكون الدال، وكسر اللام، وهو مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة.
(2) جمع سواد يعني أشخاصا.
(3) يقصد التعمية على قومه.
(4) الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(5) أسرعت بها السير.
(6) التقريب دون العدو، وفوق العادة، وقيل: أن ترفع الفرس يديها معا وتضعهما معا.
(7) سقطت.
كنانتي «1» فاستخرجت الأزلام «2» فاستقسمت بها «3» أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، وكنت أرجو أن أرده فاخذ المائة ناقة.
فركبت فرسي- وعصيت الأزلام- تقرّب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فقال أبو بكر:
يا رسول الله هذا فارس قد لحق بنا، والتفت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا عليه قائلا:
«اللهمّ اصرعه، اللهم اكفناه بما شئت» قال سراقة: فساخت يدا «4» فرسي حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، وصرعتني، ثم زجرتها، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان «5» في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان «6» قائلا: أنا سراقة بن مالك بن جعشم، أنظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه، ادع الله لي ولا أضرك فدعا له.
فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه ممنوع «7» ، وأن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزاني «8» مما معي شيئا، ولم يسألاني، فقلت:
__________
(1) كيس من جلد التي بها السهام.
(2) جمع زلم وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها، والقدح قطعة من خشب كالسهم إلا أنها لا ريش لها ولا نصل.
(3) أي ضرب ليعرف حظه ونصيبه وقد حرمه الإسلام.
(4) أي غاصتا في الأرض.
(5) غبار صاعد جهة السماء.
(6) هكذا في رواية الصحيح أنه ناداهم بالأمان بعد أن غاصت قدما فرسه في التراب في المرة الثانية، وفي السيرة لابن إسحاق أنه واصل الطلب، وأنه سقط عنها ثلاث مرات، وغاصت قدما فرسه في الثالثة فقام فناداهم بالأمان. (السيرة ج 1 ص 489) فلعل في رواية الصحيح اقتصارا على المرتين.
(7) محفوظ من الله تعالى ولن ينال منه أحد.
(8) ينقصاني مما معي شيئا.
يا رسول الله مرني بما شئت فقال: «قف مكانك، ولا تترك أحدا يلحق بنا، وأخف عنا» .
وهكذا كان في أول النهار جاهدا «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان في اخر النهار مسلحة له «2» قال سراقة: فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم «3» ثم ألقاه إلي، فأخذته ووضعته في كنانتي ثم رجعت «4» .
,
ولم يقف الأمر في قصة سراقة عند هذه المعجزة الظاهرة البيّنة الدالة على حماية الله لنبيه وحفظه له، بل تعدّاه إلى نبوءة أخرى ما كان يجول مصداقها بخلد إنسان قط إلا أن يكون نبيا يوحى إليه من ربه، ذلك أنه لما همّ سراقة بالرجوع التفت إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى» فقال سراقة متعجبا: كسرى بن هرمز!! قال: «نعم» .
فرجع سراقة وهو في حيرة من أمر هذه النبوءة، وتواردت على نفسه شتى الهواجس والخواطر والخلجات النفسية: محمد بن عبد الله الذي خرج مستخفيا مطاردا من قومه يخشى الطلب، ويخاف الرصد، ولا يكاد يأمن على نفسه من غوائل المشركين- يعدني سواري كسرى إنه للأمر العجب!!
,
وقد وفى سراقة بما وعد، فجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده قائلا:
كفيتم هذا الوجه، فلما اطمأنّ إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وصل إلى المدينة جعل سراقة يقصّ ما كان من قصته وقصة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سببا لإسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبو جهل إليهم:
__________
(1) يريد النيل من رسول الله جهده.
(2) مانعا له، وحارسا له بسلاحه.
(3) أدم: جلد.
(4) صحيح البخاري، باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، السيرة ج 1 ص 489
بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة مستغو لنصر محمد
عليكم به ألّا يفرّق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
فقال سراقة يرد على أبي جهل:
أباحكم- والله- لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك فكفّ القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر تود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طرّا مسالمه
,
وتسير الأيام في صالح الدعوة الإسلامية بعد جهاد وكفاح وتضحية وصبر، ويدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة منتصرا، وتدول دولة الشرك والأصنام، ويقابل سراقة رسول الله مرجعه من حنين والطائف «بالجعرّانة» فيطلعه على الكتاب، فيقول له رسول الله: «اليوم يوم الوفاء والبر، ادن» قال: فدنوت منه وأسلمت.
,
ومما وقع في الطريق إلى المدينة أنه صلّى الله عليه وسلّم لقي الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر ثيابا بيضاء، رواه البخاري «2» ، وكذا روى أصحاب السير أن طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضا وهو عائد من الشام وكساهما بعض الثياب «3» .
,
ولما بلغ المسلمين بالمدينة مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة هو وصاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه، كانوا يخرجون كل غداة إلى الحرّة فينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة، فعلوا ذلك مرارا، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم،
__________
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 190.
(2) صحيح البخاري- باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
(3) فتح الباري ج 7 ص 193.
فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم «1» من اطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مبيّضين «2» ، يزول بهم السراب «3» ، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدّكم «4» الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح «5» ، فتلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرّة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف.
,
ثم أتاه رجال من بني سالم بن عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة «1» ، ويتشبثون بزمام الناقة- ناقته القصواء-، فيقول لهم: «خلّوا سبيلها فإنها مأمورة» ورسوله الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، وكلما مر بدار من دور الأنصار في الطريق عرضوا عليه أن ينزل عندهم في العدد والعدة والمنعة، فيقول لهم مثل قولته الأولى، حتى وصلت الناقة إلى موضع مسجده الشريف فبركت عنده، ورسول الله راكب عليها لم ينزل، ثم ثارت الناقة «2» ، وسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه وألقت بجرانها «3» .
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعه الملأ أيهم ينزل عليه، فقال: «إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك «4» » . ثم سأل: «أي دور أهلنا أقرب» ؟ فقال السيد الجليل أبو أيوب الأنصاري: أنا، فاحتمل رحل رسول الله إلى منزله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرا بلطف عن النزول عند غير بني النجار «المرء مع رحله» .
ثم جاء أسعد بن زرارة نقيب بني النجار ليلة العقبة الثانية، وقد فاته شرف نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، فأخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده، واعتبر هذا شرفا وكرامة له.
وكان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار السيد أبي أيوب الأنصاري منقبة عظيمة له ولبني النجار جميعا، وقد كان في المدينة دور كثيرة تبلغ تسعا، كل دار محلة مستقلة بمساكنها، ونخيلها، وزروعها وأهلها، كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا
__________
(1) العدد: الكثرة. العدة- بضم العين-: السلاح. المنعة: القوة وحماية الجار.
(2) ثارت: قامت.
(3) جرانها: مقدم عنقها.
(4) وطبعي ألايغضب أحد من أشراف المدينة، لأن أحق الناس به هم أقرباؤه وأهله، وبهذا التصرف الحكيم تخلص الرسول الكريم من هذا الموقف المحرج حقا.
في محلتهم، وهي كالقرى المتلاصقة، فاختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم دار بني مالك بن النجار تكريما لهم لخؤولتهم لرسول الله.
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع دور الأنصار، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير» ، فقال سعد بن عبادة: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضّل علينا، فقيل: قد فضلكم على كثير، وفي رواية أخرى عن أبي حميد الساعدي عن النبي، وزاد فيه فقال أبو أسيد لسعد بن عبادة: ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيّر الأنصار فجعلنا اخرا، فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خيّرت دور الأنصار فجعلتنا اخرا؟ فقال: «أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار» وإنها لكياسة في الجواب لن تكون إلا من صاحب العقل الكبير، والصدر الرحيب، والقول الفصل البليغ.
,
وكان يوما مشهودا في تاريخ الدنيا يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة راكبا ناقته القصواء وأبو بكر الصديق ردفه «1» ، وملأ بني النجار حوله متقلدين سيوفهم يرهبون بها أعداء الله ورسوله، ومن تسوّل له نفسه من اليهود والمشركين أن ينال من رسول الله، وليعلموهم أنه إذا كان ترك أهله ووطنه إلى الله، فلا يزال في عزة ومنعة من أخواله وأتباعه وأنصاره، إنه لمشهد معبّر يغني عن الكلام والخطب!!.
وخرجت المدينة كلها بشبابها وشيبها، وصبيانها ونسائها وولائدها، لتشارك في استقبال القادم الكريم، وليملأوا عيونهم من هذا الذي أصبح ذكره على كل لسان، وأنصاره في كل بيت.
__________
(1) ردفه يعني خلفه، وقد كانت للصديق ناقة، ولكن رسول الله أراد ذلك تكريما للصديق، وليرى الناس في هذا اليوم المشهود منزلة الصديق منه.
روى الإمام أحمد- في وصف هذا المشهد الحافل- عن أنس بن مالك قال: (إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، قال حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر، فكمنّا في بعض خراب المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار، انطلقا امنين مطاعين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق «1» لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو، فما رأينا منظرا شبيها به. قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض، فلم أر يومين شبيها بهما) .
وخرجت جوار «2» - بنات- من بني النجار يضربن بالدفوف وهنّ يقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتحببنني» ؟ فقلن: إي والله يا رسول الله فقال: «وأنا والله أحبكم» ثلاثا. وفي صحيح البخاري ومسلم في حديث الهجرة: «وخرج الناس حين قدما المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء رسول الله» «3» .
__________
(1) العواتق: جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك.
(2) جوار: جمع جارية وهي الشابة أمة كانت أو حرة.
(3) أما ما يذكره بعض كتّاب السيرة من أنهم قالوا:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
فقد خالفه المحققون كابن القيم، والحافظ العراقي، والحافظ ابن حجر، وقالوا: إن ذلك كان مرجعه من تبوك، وذلك لأن ثنية الوداع من جهة الشام لا من جهة مكة [شرح المواهب ج 1 ص 434] .
,
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب معزّزا مكرّما سبعة أشهر، حتى بنى المسجد وبنيت دور أهله ونسائه فانتقل إليها، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما نزل في سفل دار أبي أيوب، وقد الم أبا أيوب أن يكون رسول الله في السفل، وألحّ عليه أن يكون في العلو، حتى بيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك أرفق به وبمن يأتيه من المسلمين والزائرين، فقد كانت دار أبي أيوب منتدى يجتمع فيه المسلمون.
وبالغ أبو أيوب في إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت تطيب نفسه أن يأكل حتى يأكل رسول الله، فكان يهيىء الطعام ويرسله إلى النبي، فإذا عادت القصعة سأل عن موضع أصابع النبي فيأكل حيث أكل. وفي ذات مرة صنع طعاما وكان فيه ثوم لم تذهب رائحته، فسأل عن موضع أصابع الرسول فقيل له: لم يأكل منه، ففزع وذهب إليه وقال: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنني أكرهه، فإني أناجي من لا تناجي» «1» يريد الملائكة، وهي تتأذّى مما يتأذّى منه بنو ادم.
وفي مرة أخرى كسرت لأبي أيوب جرّة فيها ماء، ففزع أبو أيوب والسيدة أم أيوب زوجه، وأسرعا إلى قطيفة لهما كانا يعتزّان بها، فأخذاها وصارا يجففان بها الماء خشية أن يسيل الماء إلى أسفل البيت فيتأذى منه رسول الله أو زوّاره.
وقد بلغ من أدب أبي أيوب وأهله- لما امتنع الرسول أن يصعد إلى العلو- أنهم كانوا لا ينزلون في المكان المسامت لرسول الله من العلو استحياء من الله ورسوله، وهكذا فليكن الأدب، والقيم الروحية العالية، ومع اعتذار رسول الله عن الصعود إلى العلو لم يزل به أبو أيوب، يرجوه ويلح في الرجاء، حتى قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون في العلو، إذ قد خف الزوار ولم يعد هناك من حرج.
__________
(1) رواه الشيخان.
وتسابق الأنصار في إكرام وفادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما من ليلة إلا وتجد على دار أبي أيوب القصاع والجفان يأكل منها من يشاء، ويدع من يشاء، وكذلك تسابقوا في إيواء المهاجرين وإكرامهم، وعرضوا عليهم أن يقاسموهم دورهم وأموالهم، بل وأعز شيء لديهم وهو التنازل لهم عن بعض أزواجهم كي ينكحوهن إذا رغبوا، ولكن المهاجرين أبوا واكتفوا منهم بالارتفاق والمواساة، وقد ضرب الأنصار في مواساة إخوانهم المهاجرين مثلا عليا تذكر بالإعظام والإكبار، وسنوفيهم حقهم فيما يأتي إن شاء الله.
وقد صارت دار أبي أيوب التي حظيت بهذا الشرف الرفيع إلى مولاه أفلح بعد وفاته، فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار، وأصلح ما وهى من بنيانها، ووهبها لأهل بيت فقراء.
وقد ذهبت إلى هذه الدار وأنا بالمدينة في زيارة رسول الله ومسجده، وهي بالقرب من المسجد النبوي، وأهاجت الدار الذكرى، وحركت لواعج الشوق والحب لأهلها الأخيار، فلله أنت يا دار أبي أيوب.
,
وهو يوم كانت فيه موقعة عظيمة بين الأوس والخزرج، وقتل فيه خلق كثير من أشرافهم وكبرائهم، ولم يبق فيه من شيوخهم إلا القليل، وقد كان الغلب فيه للأوس على الخزرج.
وقد شاء الله سبحانه أن تكون هذه الوقعة العظيمة قبيل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة لتتهيّأ النفوس لقبول الإسلام والإيمان بالنبي، وليظهر فضل الإسلام
__________
(1) بعاث على وزن غراب وهو بالعين المهملة: موضع بقرب المدينة، وصحفه بعضهم فجعله بالغين المعجمة.
على الأنصار؛ فقد جمعهم بعد الفرقة، وغرس في قلوبهم المحبة بعد العداوة، والوئام بعد الشقاق، روى البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «كان يوم بعاث يوما قدّمه الله لرسوله، قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وقد افترق ملأهم «1» ، وقتل سراتهم» «2» .
__________
(1) الملأ: رؤساء الناس ومقدّموهم الذين يرجع إلى قولهم.
(2) ساداتهم وأشرافهم.