لم يختلف أصحاب السير أنها كانت سنة ست قبل الحديبية وإن اختلفوا في شهرها، وجزم الإمام البخاري بأنها كانت قبل خيبر بثلاث ليال على ما ثبت عنده من أحاديث صحيحة، وقد رجّح الحافظان ابن كثير وابن حجر ما ذهب إليه البخاري «2» ، ولذلك اثرت ذكرها هنا تبعا لما في الصحيح.
أغار عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري في جماعة من قومه غطفان على لقاح «3» النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة، وعلى اللقاح رجل من غفار ومعه امرأته، فقتلوا الرجل واستاقوا اللقاح وأخذوا معهم المرأة، وكان أول من سمع بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع، فقد لقيه غلام لعبد الرحمن بن عوف فأخبره، فتوشح سيفه، وتنكّب قوسه، وأخذ نبله وصعد على جبل فراهم، فصاح واصباحاه «4» (ثلاثا) وخرج يشتد في اثار القوم، وكان عاديا لا يسبقه أحد حتى لحق بهم، فجعل يرميهم بالنبل ويقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرّضّع «5»
__________
(1) بفتح القاف والراء وحكي الضم فيها، وهو ماء على نحو بريد من بلاد غطفان.
(2) فتح الباري، ج 7 ص 37.
(3) جمع لقحة بكسر اللام وفتحها: الإبل ذوات اللبن.
(4) كلمة تقال عند استنفار الغافل.
(5) الرضع: جمع راضع وهو اللئيم، أي يوم هلاك اللئام.
فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع صياح ابن الأكوع فنادى في المدينة: «الفزع. الفزع» فترامت الخيول إلى رسول الله، فأمر عليهم سعدا وقال: «اخرج في طلب القوم حتى ألحقك» . منهم المقداد بن الأسود، وعبّاد بن بشر، وسعد بن زيد، وعكاشة بن محصن، وأبو قتادة.
وما زال سلمة يكر ويفر، حتى استنقذ منهم اللقاح، واستلب منهم أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا، ألقوها متخففين منها، وهم يظنون أنه ما فعل ذلك إلا ومعه كمين أو وراءه مدد.
ولما أدركهم الفرسان المسلمون حمل أبو قتادة على عبد الرحمن بن عيينة فقتله، وقتل عكاشة رجلا وابنه، وقتل من المسلمين محرز بن نضلة، وأخذ المشركون في السير هربا، ولم يلبث رسول الله أن جاء في خمسمائة من أصحابه وأقام على ذي قرد يوما وليلة، فقال سلمة: يا رسول الله لو سرحتني ومائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم، فقال العفوّ الكريم: «يا سلمة ملكت فأسجح «1» ، إنهم الان ليغبقون في غطفان» «2» أي فاتوا ووصلوا إلى بلادهم.
وقسم النبي الغنيمة عليهم وأعطى سلمة سهمين: سهم الراجل وسهم الفارس، تقديرا له، وأردفه على ناقته العضباء، وهم عائدون إلى المدينة، وقال: «خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة» وعاد المسلمون بعد أن لقنوا غطفان درسا لن ينسوه.
,
وكانت امرأة الغفاري قد غافلت المشركين، وركبت ناقة من إبل النبي حتى قدمت عليها المدينة، وكانت نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنّها،
__________
(1) أي إذا قدرت فاعف.
(2) ليغبقون: يشربون لبن العشي، والغبوق- بفتح الغين- ما يشرب بالمساء.
فلما أخبرت الرسول تبسم وقال: «بئسما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك بها، ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية، ولا فيما لا تملكين، وإنما هي ناقة من إبلي» .
,
وإن هذه القصة لترينا حسن العهد، وغاية الوفاء اللذين كان يتخلق بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الوفاء الذي شمل بني الإنسان والحيوان، وقد كان هذا درسا علمه رسول الله هذه المرأة ليكون عبرة للأجيال، إن صاحب الخلق العظيم يعلمنا أن نقابل الإحسان بالإحسان، والجميل بالجميل، والنعم بالشكر، لا بالجحود والكفران، وأن الوفاء لازم حتى للحيوان. وبعد أن بيّن لها الرسول الكريم أن هذا وإن كان لا يليق خلقا ومروءة، فهو لا يجوز شرعا، إذ لا نذر في معصية ولا فيما لا يملكه الإنسان.