,
لقد انجابت الغمة، وأزال الله الكربة عن بني هاشم والمطّلب والرسول والمؤمنين بشق الصحيفة الظالمة، وعادت الأمور كما كانت، ولكن حدث حادثان سبّبا للنبي صلّى الله عليه وسلّم غاية الحزن:
أحدهما: موت عم النبي وناصره، ومانعه من قريش أبي طالب بن عبد المطلب «1» ، ولما اشتكى أبو طالب، وثقل به مرضه مشى إليه أشراف من قريش: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في اخرين، فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه؛ ليكف عنا، ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك، وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم كلمة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم» ، فقال أبو جهل: نعم وأبيك- وعشر كلمات، قال: «تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه» فصفّقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الالهة إلها واحدا؟
إن هذا لعجب!!
__________
(1) اسمه: عبد مناف، وأما ما قيل من أن اسمه عمران فباطل كما قال ابن تيمية.
ثم قال بعضهم لبعض: إنه- والله- ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين ابائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا، فقال أبو طالب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا!! فأنزل الله في ذلك قوله:
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) «1» .
,
وقد ورد في الصحيحين وغيرهما أن الله سبحانه وتعالى سيخفف العذاب عن أبي طالب، لمناصرته لرسول الله، وتأييده له في الدعوة إلى الإسلام، روى الإمام البخاري في صحيحه، بسنده عن العباس- رضي الله عنه- أنه قال
للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أغنيت عن عمك؟ فو الله كان يحوطك، ويغضب لك، قال:
«هو في ضحضاح «1» من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» «2» .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال- وذكر عنده عمه أبو طالب-: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، فيغلي منه دماغه» وهي نوع من شفاعاته صلّى الله عليه وسلّم بتخفيف العذاب عمن يستحقه، ولو كان من المخلّدين فيه.
,
ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا، فدخل رسول الله بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تزيل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لها: «لا تبكي يا بنية؛ فإن الله مانع أباك» .
وكان يقول: «ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» بل كان بعض جيرانه من ذوي رحمه يأتي بالقذر فيطرحه في برمته، أو في فناء داره، فيأخذه على العود فيقف به على بابه، ثم يقول: «يا بني عبد مناف أي جوار هذا» ؟! ثم يلقيه في الطريق.
ومع كل هذا فقد مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لدعوته لا يلوي على شيء، ولا يصده إيذاء مهما بلغ، وكان يمكنه أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ولكن كان كثيرا ما يقول: «اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون» .
,
أما الحادث الثاني الذي ترك حزنا عميقا في نفس النبي فهو موت السيدة الجليلة المهيبة في قومها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى، وكانت له
__________
(1) الضحضاح من الماء: ما يبلغ الكعبين، وقد استعير للقليل من النار.
(2) صحيح البخاري- باب ما ورد في أبي طالب.
وزيرة صدق، كما كانت نعم الزوجة الصالحة العاقلة، يجد فيها سكن النفس وطمأنينة القلب وراحة الروح، فكان كلما ناله من قريش أذى عاد إليها فتزيل عنه اثار الأذى بيديها، وتسرّي عن نفسه بقلبها وحنانها وحديثها المؤمن المستطاب.
وكانت وفاة أبي طالب في السنة العاشرة من النبوة، وتوفيت بعده في شهر رمضان بقليل، قيل بأيام، وقيل بشهر، فلا عجب وقد فجع الرسول بهاتين الفجيعتين إذا كان سمي هذا العام «عام الحزن» .
ولما قالت له خولة بنت حكيم: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلّة «1» لفقد خديجة قال: «أجل، كانت أم العيال، وربة البيت» وكانت إقامتها معه خمسا وعشرين سنة على الصحيح، وقد أفنى زهرة الشباب، وميعة الكهولة، ولم يشأ أن يتزوج عليها؛ وفاء لها وتقديرا لخدماتها، وحرصا على عدم تكدير خاطرها، وإيلام نفسها بإدخال ضرّة عليها مهما كانت، فقد هيأت له صلّى الله عليه وسلّم كل أسباب الراحة النفسية، والبدنية، والمالية، والمعيشية، فكان صنع رسول الله معها ردا للجميل بمثله أو بأكثر منه.
,
وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن، والالام النفسية والجسمانية توجه الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيمانا ويقينا، ورضى بما ناله في الله، واسترضاء لله، والذي لم أقف على مثيل له فيما قرأت، قال:
«اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟! أم إلى عدو ملّكته أمري؟! إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك. لك العتبى «2» حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه ابن إسحاق.
__________
(1) أهل الزوج وأقاربه وهو جمع حمو.
(2) العتبى: الاسترضاء.
قصة عدّاس النصراني
فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي النبي- ولعلهما سمعا دعاءه- تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى هذا الرجل فقل له: كل، فلما وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه يده قال: «بسم الله» وفي رواية: «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم أكل، فنظر عدّاس في وجهه مستغربا، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد!! فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن أي البلاد أنت يا عدّاس، وما دينك» ؟ قال: نصراني، وأنا من أهل نينوى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى؟ فقال له عداس:
وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك أخي، كان نبيا، وأنا نبي» .
فأكب عدّاس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل رأسه، ويديه، وقدميه!! فقال أحد ابني ربيعة لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل، ويديه وقدميه؟! قال:
يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا!! لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عدّاس، لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.