,
بقي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بالمدينة يترقبون قدوم العير العظيمة التي أفلت بها أبو سفيان، وكانت تبلغ ألف بعير، فيها معظم أموال قريش، وهي التي خرج للقائها في غزوة العشيرة التي مرّ الحديث عنها انفا.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين من أصحابه هما: طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى «الحوراء» على البحر الأحمر، وهي محطة من محطات القوافل التي تسير بين الحجاز والشام ولابدّ للعير أن تمر بها يترصدانها، وقد تمكن الرجلان من أن يستميلا قبيلة جهينة، وأقاما يتسقّطان الأخبار، حتى تأكدا من موعد مبارحتها الشام، فعادا إلى الرسول يبلغانه الخبر، ويقال إن الرسول لم ينتظر قدوم الرسولين من مهمتهما وقرر الخروج إلى طريق الشام، خشية أن تفوته العير في إيابها كما فاتته في ذهابها ولا سيما أنه قوّم ما فيها بخمسين ألف دينار.
,
ندب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الخروج قائلا: «هذه عير قريش، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها» «1» فخفّ لدعوته أقوام، وتثاقل عنها اخرون، لظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد حربا، وقوي عندهم هذا الظن أن الرسول قال:
«من كان ظهره حاضرا فليركب معنا» ولم ينتظر من كان ظهره غائبا، فخرج
__________
(1) في القاموس: نفله ونفّله وأنفله: أعطاه إياه، والنفل: الغنيمة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لثلاث وقيل لثمان ليال خلون من رمضان، وكان معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، منهم نيّف وأربعون ومائتان من الأنصار، والباقي من المهاجرين، ولم يتخلّف منهم إلا عثمان بن عفان لتمريض زوجته السيدة رقية بنت الرسول فقد اشتد عليها المرض.
واستخلف النبي عبد الله بن أم مكتوم ليصلي بالناس في المدينة، وردّ أبا لبابة الأنصاري من الرّوحاء واستعمله على المدينة، وردّ عاصم بن عدي أيضا واستخلفه على قباء والعالية، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وكان أبيض، وبين يدي رسول الله رايتان سوداوان: إحداهما مع علي بن أبي طالب، والثانية مع سعد بن معاذ، وكان معهم فرسان: أحدهما للزبير بن العوام، والثاني للمقداد بن الأسود، وسبعون بعيرا يعتقبونها، كل ثلاثة أو أربعة يتناوبون بعيرا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وأبو لبابة على بعير ولما ردّ أبا لبابة كان ثالثهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي «1» ، وضرب رسول الله مع صاحبيه غاية العدل والرحمة، ذلك أنه لما جاءت نوبته في المشي قالا له: نحن نمشي عنك فقال: «ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» . وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا. وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة «2» يتعاقبون بعيرا.
وسار الجيش القليل في عدده الكثير بروحه وإيمانه حتى وصل إلى «بيوت السقيا» خارج المدينة، وعسكر فيها واستعرض النبي من خرج معه، فردّ من ليس له قدرة على الحرب المحتملة الوقوع، وكان ممن ردّ: البراء بن عازب، وعبد الله بن عمر، ففي صحيح البخاري عن البراء قال: «استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيّفا على ستين، والأنصار نيّفا وأربعين ومائتين» » .
__________
(1) أبو مرثد اسمه كناز بن حصين ينتهي نسبه إلى قيس بن عيلان.
(2) الثلاثة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب «عدة أصحاب بدر» .
وروي عن البراء أيضا: «أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، بضعة عشر وثلاثمائة» .
وقد اختلف في هذا البضع، فقيل: ثلاثة عشر، وقيل: أربعة عشر، وقيل: خمسة عشر، ولا ينافي هذا ما ذكره ابن سعد من أنهم كانوا ثلاثمائة وخمسة رجال، وما ذكره ابن جرير من أنهم كانوا ثلاثمائة وستة؛ لأن هناك صحابة عدوا من أهل بدر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ بعضهم، استخلافا له كسيدنا أبي لبابة، أو تخلّفوا عنها لأعذار وضروريات كسيدنا عثمان، فقد تخلّف لتمريض زوجته السيدة رقية بنت الرسول، وكسيدنا الحارث بن الصمة، فقد كسرت رجله بالرّوحاء فردّه النبي صلى الله عليه وسلم «1» ، والاختلاف في مثل هذا سهل غير بعيد.
,
كان أبو سفيان على حذر أن تقع العير في قبضة المسلمين، فلما دنا من الحجاز صار يتجسس الأخبار، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك وخاف العاقبة، إذ لم يكن معه من قريش في حراسة العير إلا ثلاثون أو أربعون رجلا، وما يغني هذا العدد عند اللقاء؟.
فاستأجر ضمضم «2» بن عمرو الغفاري، فبعثه مسرعا إلى مكة ليستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فوصل ضمضم إلى مكة، وقد جدع أذني بعيره وأنفه، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، وقال:
يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة «3» . أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث.
__________
(1) فتح الباري، ج 7 ص 233.
(2) بفتح الضادين، وسكون الميم بينهما.
(3) اللطيمة: العير التي تحمل التجارة والأموال.
وما لبث أبو جهل حين سمعه أن صاح بالناس من عند الكعبة يستنفرهم، وكان أبو جهل رجلا خفيفا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر، ولم تكن قريش في حاجة إلى من يستنفرها فقد كان لكل منهم في هذه العير نصيب.
فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا. وأوعبت قريش «1» ، فلم يتخلف من أشرافها إلا أبو لهب بن عبد المطلب، فقد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة استأجره بأربعة الاف درهم كانت عليه قد أفلس بها، وكاد أمية بن خلف يتخلّف، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، ذلك أنه سمع من صديقه سعد بن معاذ- وقد ذهب إلى مكة معتمرا بعد الهجرة- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنهم قاتلوك» قال: بمكة؟
قال سعد: لا أدري. فلما حصل الاستنفار تذكر هذا وداخله رعب شديد.
ولكن الله إذا أراد شيئا هيأ له الأسباب، فلم يلبث أبو جهل- وقد علم بخبر تخلفه- أن جاءه ومعه عقبة بن أبي معيط، ومع عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبي جهل مكحلة ومرود، فوضع عقبة المجمرة بين يديه وقال له:
يا أبا علي استجمر فإنما أنت مثل النساء، وقال أبو جهل: اكتحل أبا علي فإنما أنت امرأة، فلم يجد بدا وقد استثارا حميته بهذا الكلام الجارح لرجولته إلا أن قال لهم: ابتاعوا لي أجود بعير بمكة، وخرج معهم وفي نيته أن يرجع بعد قليل متسللا، ولكن منيته ساقته إلى حتفه رغم أنفه، وهكذا لم يتخلّف بمكة قادر على القتال، غير بني عدي فلم يخرج منهم أحد.
,
وكانت قريش تتخوف إذا خرجت إلى لقاء النبي وصحبه أن يأتيهم بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة من خلفهم، لما كان بينهم من ثارات وقتل في الجاهلية، حتى كاد ذلك يثنيهم عن الخروج لولا أن جاء سراقة بن مالك بن
__________
(1) يقال: أوعب القوم إذا خرجوا جميعا إلى الغزو.
جعشم «1» المدلجي- وكان من أشراف بني كنانة- فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فزالت مخاوفهم وأجمعوا على المسير.
فخرجوا بجمعهم بطرين أشرين، وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى هذا بقوله:
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ «2» .
وكان مثله ومثلهم:
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ «3» .
وكان تعداد جيش المشركين تسعمائة وخمسين رجلا، معهم مائة فرس وسبعمائة بعير يعتقبونها، وأمامهم القينات يغنين بهجاء المسلمين، وساروا يحدوهم البطر، ويملؤهم الزهو والغرور حتى كانت عاقبة أمرهم هلاكا وخسرا.
__________
(1) وقيل إن إبليس جاء في صورة سراقة وقال: إني جار لكم وسار معهم، حتى لما كانت الموقعة ونزلت الملائكة نكص على عقبيه.
(2) سورة الأنفال: الايتان 47، 48.
(3) سورة الحشر: الايتان 16، 17.
,
أما أبو سفيان فقد ساحل بالعير خارجا عن الطريق المعتاد، فنجا، وأرسل إلى قريش وقد خرجت عن بكرة أبيها يعلمهم بذلك، ويشير عليهم بالرجوع قائلا: (إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا) ، ورأى رأي أبي سفيان من قريش عدد غير قليل، لكن أبا جهل ما لبث حين سمع هذا الكلام أن صاح قائلا: (والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم عليها ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا) .
وقال الأخنس بن شريق «1» - وكان حليفا لبني زهرة وكان فيهم مطاعا-: (يا بني زهرة قد نجّى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم- مخرمة بن نوفل- فارجعوا، فاتّبعوا مشورته ورجعوا، فلم يشهد بدرا زهريّ، وكذلك لم يشهدها أحد من بني عدي، وكان بين طالب بن أبي طالب- وكان في صفوف المشركين- وبين بعض قريش محاورة فقال له: والله لقد عرفنا يا بني هاشم- وإن خرجتم معنا- أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، ومضت جموع قريش في خيلها وخيلائها حتى وصلت وادي بدر، فنزلوا عدوته القصوى عن المدينة في أرض سهلة لينة.
,
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد سار وأصحابه في الطريق إلى بدر، وكان لا يزال شائعا بين صفوف المسلمين أن عير أبي سفيان ستمر بها في طريقها إلى مكة، ولم يكن عليه السلام عارفا بما فعله أبو سفيان من إفلاته بالعير، ولا بما قامت به قريش
__________
(1) شريق: بفتح الشين المعجمة وكسر الراء.
(2) بدر: مكان بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، سمي باسم بئر هناك. وكان به سوق تقام كل سنة ثمانية أيام وبه قرية الان.
من جمع جموعها والتوجه إلى بدر حتى بلغ واديا يقال له «ذفران» «1» أو «الروحاء» ، وهناك أتاه الخبر عن قريش ومسيرهم في جيش كبير لمنع العير وحمايتها.
وحينئذ تغيّر وجه الأمر، ولم يصبح الأمر مقصورا على اللحاق بالعير والاستيلاء عليها، فها هي قريش خرجت بجموعها الكثيرة، وبذلك ترجحت كفة القتال والمناجزة، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كبراء الجيش وقال لهم: «أيها الناس إن الله وعدني إحدى الطائفتين أنها لكم: إما العير، وإما النفير» ، فتبيّن له عليه الصلاة والسلام أن البعض يريد العير، ولا يرغب في لقاء النفير، وقال بعضهم: هلّا ذكرت لنا القتال فنستعد؟ ولكن الأكثرية كانت تريد لقاء النفير، وقد ذكر الله سبحانه هذا في قوله:
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ «2» .
وإذا أراد الله شيئا هيّأ له الأسباب، وإن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا.
,
وقد كانت هذه الاستشارة بمثابة اختبار لإيمان المسلمين، وصلابة عقيدتهم، ومقدار استعدادهم للقتال والتضحية في سبيل الإسلام، وقد أسفر الامتحان عن نجاح باهر، ودلّلوا بحق على أنهم أهل لحمل الرسالة المحمدية والجهاد في سبيل تبليغها للناس كافة.
__________
(1) ذفران: بفتح الذال المعجمة وكسر الفاء: واد قرب وادي الصفراء.
(2) سورة الأنفال: الايتان 7، 8. والمراد بالطائفتين: العير أو النفير يعني الجيش. ومعنى الشوكة: السلاح. فغير ذات الشوكة هي العير. وقد صار مثلا أن يقال: فلان لا في العير ولا في النفير لمن لا خطر له ولا يؤبه به.
استشار النبي أصحابه في القتال، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن الكلام، وقام الفاروق عمر فقال وأحسن الكلام، ثم قام المقداد بن الأسود «1» فقال: (يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون- وفي رواية البخاري في صحيحه: «ولكن نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك وخلفك» - فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد «2» لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه) ، فقال له رسول الله خيرا ودعا له.
ثم قال رسول الله: «أشيروا عليّ أيها الناس» ، وإنما يريد الأنصار لأنهم لما بايعوه ليلة العقبة بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم ما دام بين أظهرهم، ولم تكن المبايعة على قتال خارج المدينة، وإنها لمشورة حقة ممن كان أصدق الناس بالوعود، وأوفاهم بالعهود، وأبعدهم عن التوريط والخداع، وقد فطن لهذا السيد الجليل سعد بن معاذ فقال: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله) ؟ قال «أجل» فقال: (لقد امنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب. صدق «3» عند اللقاء. لعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر على بركة الله) فسرّ الرسول وأشرق وجهه، ثم بشّر القوم بالنصر قائلا: «سيروا
__________
(1) هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي، كان أبوه ترك بلاد قومه إلى حضرموت، وهنالك تزوج وولد لهم المقداد، فلما كبر المقداد تلاحى هو ورجل اخر، فضربه بالسيف وهرب إلى مكة، فحالف الأسود بن عبد يغوث الزهري، فتبنّى المقداد، فكان يعرف به، فلما أبطل الإسلام ذلك كان يقال له: المقداد بين عمرو، ولكن بقيت شهرته ابن الأسود.
(2) برك: بفتح الباء، الغماد بكسر الغين موضع على خمس ليال من مكة في طريق اليمن.
(3) صبر: بضم الصاد والباء جمع صبور، صدق: بضم الصاد والدال جمع صدوق.
وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الان أنظر إلى مصارع القوم» .
وكيف لا يسر الرسول بهذه المواقف المشرفة التي مبعثها الإيمان الصادق الذي لا يعرف الضعف ولا الاستخذاء، والذي ظهرت ثمراته في كلمات طيبة مؤمنة، والتي كشفت عن معدن العرب المسلمين الأصيل، وأبانت الفرق الشاسع ما بين موقف اليهود من نبيهم موسى عليه السلام وموقف المسلمين من نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وإنها لمقارنة صادقة حقة في هذا الموقف الدقيق، تشف عن نفاسة معدن العرب، وبطولتهم، وعن خبث معدن بني إسرائيل ونذلتهم.
تسنّط أخبار قريش
وارتحل المسلمون من «ذفران» ، حتى إذا كانوا على مقربة من بدر ركب رسول الله وصاحبه الصّديق حتى وقفا على شيخ من العرب يقال له: سفيان الضمري، فسأله الرسول عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه من أخبارهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول الله:
«إذا أخبرتنا أخبرناك» فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: «نعم» ، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به قريش، فلما فرغ قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله:
«نحن من ماء» «1» !! ثم انصرفا عنه فقال الشيخ: ما من ماء؟ أمن ماء العراق «2» ؟
ثم رجع رسول الله وصاحبه إلى أصحابه. فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء
__________
(1) هذا من التوريات البديعة، وهو يحتمل معنيين: أحدهما قريب وهو المكان المعروف بهذا الاسم، والثاني بعيد وهو الماء الذي خلق منه كل كائن حي، وهو مراد النبي.
(2) يعني أمن المكان الذي بالعراق أم من غيره؟
ببدر يتسقطون له الأخبار، ويتجسسون على قريش، فأصابوا راوية «1» لقريش فيهما غلامان لهما: غلام لبني الحجاج، وغلام لبني العاص بن سعيد، فأتوا بهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم الماء فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلما أوجعوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، فلما فرغ رسول الله من صلاته قال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا- والله- إنهما لقريش» ، ثم قال لهما: «أخبراني عن قريش» فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: «كم القوم» ؟ قالا: كثير، قال: «ما عدّتهم» ؟ قالا:
لا ندري، قال الرسول: «كم ينحرون كل يوم» ؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة والألف» «2» . فقال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش» ؟ فذكرا: عتبة بن ربيعة، وشيبة، وأبا جهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو في اخرين من صناديد قريش، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قائلا: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» !!.
,
وكما عاد سيدنا علي ومن معه بالغلامين وبخبر قريش معهما، عاد رجلان اخران ذهبا يتعرفان أخبار العير، حتى عرفا من جاريتين تتنازعان على حقّ لإحداهما على الاخرى على ماء لهم أن العير ستقدم غدا أو بعد غد، وأخبرا الرسول بما سمعا.
وكان أبو سفيان قد سبق العير يتسقّط الأخبار حذرا أن يكون المسلمون قد سبقوه إلى الطريق، فلما ورد الماء وجد عليه مجدي بن عمرو، فسأله هل رأى أحدا؟ فأجابه بأنه لم ير إلا راكبين أناخا إلى هذا التل، وأشار إلى حيث أناخا،
__________
(1) الراوية: الإبل يستقى عليها الماء.
(2) هذا من حصافة الرسول، وألمعيته النادرة، وحدسه الصائب الذي لا يخطىء.
فأتى أبو سفيان مناخهما فوجد في روث بعيريهما نوى، عرفه من علائف يثرب، فأسرع إلى أصحابه، وعدل بالسير عن الطريق المعهود متبعا ساحل البحر، مسرعا في سيره حتى نجا بالعير كما قدمنا، وأصبح الغد والمسلمون في انتظار مرور العير بهم، فإذا الأخبار تصلهم أنها فاتت، وأن قريشا بجموعها تعسكر بالقرب منهم، وهكذا أفلتت العير، ولم يبق إلا النفير وتعيّن القتال.
,
وسار المسلمون حتى نزلوا بعدوة الوادي الدنيا «1» بعيدا عن الماء في أرض سبخة، لا تثبت عليها الأقدام، فأصبحوا عطاشا، وبعضهم جنب، وبعضهم محدث، ووجد إبليس وأعوانه مجالا للوسوسة، وإلقاء الريب والشكوك في النفوس، فهجس قائلا: ما ينتظر المشركون منكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويذهب قواكم، فيتحكموا فيكم كيف شاؤوا.
,
ولكن الله عز شأنه أبطل كيده، ومنّ عليهم بأن أرسل عليهم السماء مدرارا فشربوا، وتوضأوا واغتسلوا، وملأوا الأسقية، ولبّد المطر الأرض من تحت أقدامهم، فسّهل لهم السير، على حين كان نقمة على المشركين، فقد وحل الأرض تحت أقدامهم، حتى لم يعودوا يقدرون على الارتحال، وصدق الله حيث يقول:
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ «2» .
وسار جيش المسلمين حتى نزل أدنى ماء من بدر.
__________
(1) العدوة: جانب الوادي. الدنيا: القريبة من المدينة، أما العدوة القصوى فهي البعيدة عنها.
(2) سورة الأنفال: الاية 11.
,
لما نزل النبي بالمسلمين هذا المنزل قال الحباب «1» بن المنذر الخزرجي وكان معروفا بجودة الرأي والدربة في الحروب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» ، فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من الابار، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله: «لقد أشرت بالرأي» ، ونفّذ ما أشار به الحباب.
وقد دلّل النبي بهذا على تأصل روح الشورى في نفسه الشريفة فيما لم ينزل فيه وحي، وأنه على جلالة قدره، ووفور عقله، وبعد نظره لا يستبد برأيه، ولا يأنف من الرجوع إلى الحق، كما هو شأن الكثيرين من القادة والزعماء والسياسيين، فإن الواحد منهم قد يودي بأمة في سبيل التشبث برأي قد يكون خطأ، وما ذلك إلا لأنه نبي يتبع ما يؤمر به، وصدق الله:
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «2» .
ومن المشورات الصائبة، مشورة سعد بن معاذ الأوسي، فقد قال:
(يا نبي الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعدّ عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الاخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشد حبّا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك ويجاهدون معك) . فأثنى عليه النبي خيرا، ودعا له بخير، ثم بني
__________
(1) الحباب: بضم الحاء المهملة وفتح الباء المواحدة المخففة.
(2) سورة ال عمران: الاية 159.
للرسول عريش على تل مشرف على ميدان القتال، فكان فيه ومعه صاحبه الصدّيق يحرسه.
وهذه الفكرة التي أشار بها سعد هي من أدق فنون الحرب، فالقائد ينبغي أن يكون بمنأى عن ميدان القتال، حتى يكون قادرا على التوجيه والإشارة بما يراه من أساليب القتال. وحتى لا يصاب فينفرط بإصابته عقد الجيش، فيكون ماله الفشل والهزيمة، وقضى الرسول في ذلك العريش ليلته ومعه الصّديق، وأقام سعد بن معاذ على مدخل العريش بسيفه، ونام المسلمون نوما عميقا استراحوا فيه من وعثاء السفر.
تصافّ المسلمين
وفي الصباح صف النبي جنوده للقتال صفوفا متراصة، لا خلل فيها ولا اعوجاج، حسبما أشار إليه القران في قوله سبحانه:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ «1» .
وارتحلت قريش حين أصبحت، فلما راها رسول الله تنحدر من وراء الكثيب إلى الوادي قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم «2» الغداة» ، ووقف الجيشان وجها إلى وجه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر قال: «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا» .
,
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه- ليلة اليوم الذي التقى فيه الجيشان- المشركين قليلا عددهم، كي يجرؤوا عليهم ولا يهابوهم. قال سبحانه:
__________
(1) سورة الصف: الاية 4.
(2) الحين: بفتح الحاء الهلاك، أي أهلكهم وأمتهم.
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «1» .
وكذلك شاء الله أن يقلّل المشركين في أعين المسلمين، ويقلّل المسلمين في أعين المشركين كي يتجرأ الجيشان، وتقع الواقعة، فيكون النصر والعزة للمسلمين، والهزيمة والذلة للمشركين، والله سبحانه إذا أراد شيئا مما يجري بين الخلق يسّر له الأسباب، ووفّر له الدواعي. قال عز شأنه:
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «2» .
وروي عن ابن مسعود قال: لقد قلّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى إني لأقول للرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة!!
وكان ذلك عندما تراءى الفريقان، فلما التحم الجيشان، وأمدّ الله المسلمين بالملائكة تعينهم وتثبت قلوبهم، وتلقي الرعب في قلوب أعدائهم، وتكثّر عددهم، راهم المشركون مثليهم، وعلى هذا ينزّل قول الحق تبارك وتعالى:
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «3» .
فإن المعنى على أصح القولين أن الفئة الكافرة رأت الفئة المؤمنة مثلي عدد الكافرة على الصحيح أيضا «4» .
__________
(1) سورة الأنفال: الايتان 43، 44.
(2) سورة الأنفال: الايتان 43، 44.
(3) سورة ال عمران: الاية 13.
(4) انظر تفسير ابن كثير، والبغوي، ج 4 ص 73، وتفسير الالوسي، ج 3 ص 96.
,
لما نزلت قريش منازل القتال بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا له:
احزر- قدّر- لنا أصحاب محمد، فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: (ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت- يا معشر قريش- البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم) «1» .
,
ثم سعى بعض العقلاء في الحيلولة بين قريش والحرب، فقد مشى حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى ألاتزال تذكر فيها بخير إلى اخر الدهر؟ قال:
وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت. هو حليفي علي عقله- دينه- وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية- أبا جهل- فإني لا أخشى أن يجسر أمر الناس غيره.
ثم قام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلّوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون.
فانطلق حكيم إلى أبي جهل، فأرغى وأزبد، واتهم عتبة بالجبن، والتخوف على ابنه أبي حذيفة الذي كان في صفوف المسلمين وأوعز إلى عامر
__________
(1) فروا: أمر من رأى وصل بواو الجماعة.
ابن الحضرمي أن ينشد مقتل أخيه؛ فقام عامر مكتشفا وصرخ: واعمراه، واعمراه، فانتصر الشر على محاولات الخير، ولم يعد من الحرب مفر.
,
وقبل أن تقوم الحرب خرج من صفوف المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وقال: (أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم، أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه) ، وتقدم نحو الحوض فعاجله أسد الله حمزة بضربة قطع بها نصف ساقه، فوقع على الأرض وصار يزحف نحو الحوض إبرارا لقسمه حتى اقتحمه، فثنّى عليه سيدنا حمزة بضربة أخرى قضت عليه، وحينئذ ثار الدم في العروق، وأهاج منظر الدم النفوس، وأوشكت رحى الحرب أن تدور، ووقف رسول الله بين أصحابه ينفخ فيهم من روحه، ويشحذ عزائمهم بصدق إيمانه وسحر بيانه، فكان مما قال: «وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرّج الله به الهم، وينجّي به من الغم» .
,
وابتدأت الحرب بالمبارزة، فخرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم فتية ثلاثة من الأنصار، فقالوا من أنتم؟
قالوا: رهط من الأنصار «1» ، فقالوا: أكفاء كرام، ولكن أخرجوا إلينا أكفاءنا من بني عمنا. وذكر بعض محقّقي كتّاب السيرة «2» أن النفر من الأنصار لما خرجوا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لأنه أول موقف واجه فيه الرسول أعداءه، فأحب أن يكون أولئك من أهله وذوي قرباه، فأمر الأنصار بالرجوع وقال: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» »
، فبارز عبيدة- وكان أسنّ
__________
(1) هم: عوف ومعوذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة الأنصاريون.
(2) البداية والنهاية، ج 3 ص 273.
(3) عبيدة هو ابن الحارث، بن المطّلب، بن عبد مناف، وقد أخطأ قلم بعض كتّاب السيرة فظن أنه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب مثل المرحوم الشيخ الخضري في «نور اليقين» ، وعلى هذا فيكون المتبارزون اثنين من بني هاشم وواحدا من أبناء عمومتهم، وبنو هاشم والمطلب سواء في الجاهلية والإسلام كما قال الرسول الكريم.
الثلاثة- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فأما حمزة وعلي فقتل كل منهما صاحبه، وأما عبيدة وعتبة فاختلفا بضربتين كلاهما أصاب الاخر، فكرّ حمزة وعلي فأجهزا على عتبة، واحتملا صاحبهما وجاا به إلى رسول الله، فأفرشه قدمه، فوضع خده عليها وقد طاب نفسا بذلك، ثم قال:
يا رسول الله، وددت والله أن أبا طالب كان حيا ليعلم أنّا أحقّ منه بقوله:
ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل «1»
ثم لم يلبث عبيدة أن توفي بعد من جراحته، فقال رسول الله: «أشهد أنك شهيد» . وفي شأن هذين الفريقين المتبارزين نزل قوله تعالى:
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «2» .
,
وبعد المبارزة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جيش المسلمين يعدل من صفوفه بقضيب في يده، فمر بسواد بن غزية «3» حليف بني النجار وهو خارج عن الصف، فطعنه في بطنه بالقضيب وقال: «استقم يا سواد» ، فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني- يعني مكني من نفسك حتى أقتص- فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه راضيا وقال: «استقد يا سواد» ، فاعتنقه سواد وقبّل بطنه!! فقال النبي: «وما حملك على هذا يا سواد» ، قال:
يا رسول الله حضر ما ترى- يعني موطن الشهادة- فأردت أن يكون اخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له الرسول بخير!!
__________
(1) من قصيدة أبي طالب اللامية المشهورة التي يقسم فيها ألايسلم لهم رسول الله أبدا حتى يموتوا دونه. والحلائل: الزوجات. وقبل هذا البيت:
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولمّا نطاعن دونه ونناضل
نبزى: نسلمه ونغلب عليه، والكلام على حذف «لا» أي لا نبزى ولا نسلمه، وفي رواية «لا نبزى محمد» بالرفع.
(2) رواه البخاري ومسلم. والاية من سورة الحج رقم 19.
(3) سواد بتخفيف الواو، غزية كفنية.
وإن لنا هنا لوقفة ترينا كيف يبلغ السمو النفسي والخلقي بصاحبه، وترينا كيف قبل النبي على جلالته عن طيب خاطر أن يقتصّ أحد المسلمين من نفسه، وهو غاية ما يطمع فيه من عدل في هذه الحياة، وترينا أيضا كيف بلغ حب هؤلاء الصحابة للرسول وتكريمه وتقديسه في نفوسهم، قداسة لا تخل بدين ولا عقيدة، فهذا سواد وقد حضر موطن الشهادة يريد أن يحظى بلمسة من جسد الرسول، لأنه يرى فيها ثلج الصدر، وطمأنينة القلب وغذاء الروح!!
,
وتزاحف الناس من الفئتين، ودنا بعضهم من بعض، وأخذت جموع المشركين الغفيرة تنحدر نحو معسكر المسلمين، والمسلمون ثابتون في مكانهم، وذلك عملا بنصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال لهم: «لا تحملوا حتى امركم، وإن اكتنفكم القوم فانضحوهم بالنبل، ولا تسلّوا السيوف حتى يغشوكم» ، وقد بلغ النبي الغاية في السياسة الحربية بهذه الخطة الحكيمة، إذ أن معسكر المسلمين يكاد يكون خلوا من الخيل التي لابدّ من وجودها في الهجوم، هذا إلى قلة عددهم وكثرة عدد عدوهم، فكان لابدّ من اتباع خطة الدفاع بدل الهجوم.
,
وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العريش ومعه صاحبه الصدّيق، وسعد بن معاذ على باب العريش شاهرا سيفه، وكان رسول الله أشد ما يكون إشفاقا على المسلمين وهم قليل، وأخوف ما يكون من مصير هذا اليوم الذي له ما بعده، واتجه النبي بقلبه وصدق إخلاصه إلى ربه، مناشدا إياه ما وعده، ومستنزلا النصر والمدد لأصحابه، قائلا: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدا» ، وما زال يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر فرده على منكبيه ثم قال:
(يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك) .
وأخذت النبي سنة وهو في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، فقد
أتاك نصر الله، هذا جبريل اخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع» ، وصدق الله حيث يقول:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «1» .
,
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوف المسلمين يحرضهم على القتال، ويعدهم بالخلود في جنات النعيم بمثل قوله: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة. ومن قتل قتيلا فله سلبه» «2» ، وقوله: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض» ، فسمع ذلك عمير بن الحمام الأنصاري «3» فقال: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض!؟ قال: «نعم» قال: بخ بخ «4» !! فقال له رسول الله:
«ما يحملك على قول: بخ بخ؟» قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها» .
وكان معه تمرات في يده يأكل منهن، فقال: لئن أنا حييت حتى اكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة!! فرمى بما بقي معه ثم قاتل وهو يقول:
ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد ... وكلّ زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
وما زال يقاتل حتى قتل شهيدا رضي الله عنه وأرضاه «5» .
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 9.
(2) السلب: بفتح السين واللام ما على المقاتل من سلاح وثياب وقيل من سلاح.
(3) عمير: بالتصغير. الحمام: بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم.
(4) كلمة رضا واستحسان.
(5) الإصابة في تاريخ الصحابة ج 3 ص 31.
وقال عوف بن الحارث وهو ابن عفراء: يا رسول الله ما يضحك الربّ من عبده؟ قال: «غمسه يده- أي سيفه- في العدو حاسرا» ، فنزع درعا كانت عليه فقذفها، وصار يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه.
,
وأخذ رسول الله كفا من الحصا بيده، ثم خرج واستقبل القوم فقال:
«شاهت الوجوه» ثم رماهم بها وقال لأصحابه: «شدّوا» فشدّوا.
والتحم الجيشان، واشتد القتال، وحمي الوطيس، وتعانقت السيوف، وتخاطبت الأسنة بدل الألسنة، وتوالت الإمدادات الإلهية بجند الله من الملائكة تثبت قلوب المؤمنين، وتزفّ لهم البشرى، وتلقي الرعب في قلوب المشركين، وتشارك في القتال أحيانا، وصدق الله:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «1» .
وأظهر المسلمون بطولات فائقة، وعرفت الدنيا أن القوى الروحية لا تقهرها القوى المادية، وأن النفس البشرية إذا امتلأت بالإيمان وحب الشهادة تضاءلت أمامها شم الجبال الراسيات، فما بالك بالنفوس الخاويات، والقلوب الفارغات؟ وأن الله القوي القاهر يمد عباده المؤمنين بنصر من عنده إذا صدقوا الإيمان، وأخلصوا له في الجهاد، وانتصروا على شهواتهم وأنفسهم، واتقوا الله حق تقواه.
وكان شعار المسلمين يوم بدر «أحد. أحد» ، وما هي إلا ساعة حتى انجلت المعركة عن نصر حاسم للمسلمين، وهزيمة منكرة للمشركين، فقتل سبعون من صناديدهم، وأسر سبعون، ومن أفلت من القتل أو الأسر سارع إلى الهرب وقال: النجاء النجاء!!.
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 12.
ولم تزد خسارة المسلمين يومئذ عن أربعة عشر شهيدا: منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. ولا عجب فقد كانت يد الله فوق أيديهم، وقوته معهم، وكأنما كانت الحصى التي رمى بها الرسول سهاما صائبة ونارا محرقة؛ وصدق الله:
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» .
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «2» .
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «3» .
وكان هذا النصر المبين في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان يوم الفرقان الذي فرّق الله فيه بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وهو يوافق اليوم الذي ابتدأ الله فيه نزول القران على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يتعبّد في غار حراء، وبين التاريخين أربع عشرة سنة قمرية، بدئت بالقران، وتوّجت بيوم الفرقان.
,
ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء والتحريض على الجهاد، فقد شارك في القتال. روى الإمام أحمد بسنده عن علي قال: (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله وهو أقربنا من العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا) . وروى البخاري بسنده عن ابن عباس أن رسول الله خرج من العريش يوم بدر وهو يثب في الدرع ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ، وهذه الاية مكية قطعا، ولكن وقع مصداقها يوم بدر، وهذا ممّا سبق نزوله معناه، ولما نزلت الاية بمكة قال عمر: أي جمع هذا؟! فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ... فعرفت تأويلها يومئذ «4» .
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 17.
(2) سورة الأنفال: الاية 10.
(3) سورة ال عمران: الاية 123.
(4) الإتقان ج 1 ص 36.
الصدّيق والقتال
وكان الصدّيق في بدر ملازما للرسول في العريش وخارجه، وبيده السيف يذب به عنه. روي عن علي رضي الله عنه أنه خطب ذات يوم فقال: (يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر. إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا، فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله، لا يهوي إليه أحد من المشركين إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس) . ثم قال: (ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يحادّه، وهذا يتلتله، ويقولون: أأنت جعلت الالهة إلها واحدا؟ فو الله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجاهد هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أو مؤمن ال فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن ال فرعون: ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه) «1» .
,
اتفق العلماء قاطبة على إمداد الله سبحانه للمسلمين يوم بدر بالملائكة، وذلك لقوله سبحانه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «2» ، وقوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ... إلى قوله: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ «3» . وقد حصل هذا الإمداد على مرات بألف أولا، ثم بثلاثة الاف، ثم بخمسة الاف، وبذلك تكمّل الايات بعضها بعضا.
__________
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 271.
(2) سورة الأنفال: الايتان 9، 10.
(3) سورة ال عمران: الايات 124- 127.
ولكنهم اختلفوا، أحصل قتال من الملائكة أم لا؟ فذهب الكثيرون إلى حصول القتال فضلا عن البشرى والتثبيت بإبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المسلمين، وذلك لقوله سبحانه:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «1» .
واستدلوا أيضا بالأحاديث والاثار الواردة في هذا، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم- اسم فرس هذا الملك-، فنظر إلى المشرك أمامه فخرّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه، كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة» .
وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: (لم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون) «2» ، وابن عباس وإن لم يكن حضر الموقعة يومئذ لصغره وعدم هجرته، فلابد أن يكون سمع ذلك من رسول الله فيما بعد، أو من مشيخة المهاجرين والأنصار.
وذهب بعض العلماء إلى أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر، وإنما كانت عونا ومددا، تثبّت القلوب، وتبشّر بالنصر، وتكثّر العدد، واستدلوا بقوله سبحانه:
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ «3» ، وقوله: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ «4» . فقد ذكر الله هاتين الايتين بعد ايات
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 12.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج 12 ص 85.
(3) سورة الأنفال: الاية 10.
(4) سورة ال عمران: الاية 126.
الإمداد، وقالوا: إن الخطاب في قوله سبحانه: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ.. إنما هو حكاية لما أمر الله الملائكة أن يلقوه إلى المسلمين يوم بدر «1» .
والذي نراه- والله أعلم- أن الإمداد بالملائكة حصل قطعا لتكثير العدد، وتثبيت القلوب، وإلقاء البشرى، وأن بعضهم قاتل لا كلّهم، وأن الجهد الأكبر في القتال إنما هو للمسلمين، وبذلك لا نكون تعسّفنا في التأويل، وخرجنا عن ظواهر بعض الايات بغير داع، ولا نرد الأحاديث الصحيحة الدالّة على حصول قتال من بعض الملائكة، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وقد يقول قائل: إن صيحة من جبريل أو انتفاضة منه كانت تكفي للقضاء على قريش وإبادتها في لمحة عين، فلم كل هؤلاء الملائكة؟.
وجوابنا عن ذلك أن الله جرت سنته مع الأمة المحمدية ألايأخذها بما أخذ به الأمم السابقة من عموم العذاب والاستئصال، وترك إهلاكهم للسنن العادية التي أجراها الله في عباده، بدفع الكافرين بالمؤمنين، والمبطلين بأهل الحق، والظالمين بالعادلين، فأراد الله سبحانه أن يكون هلاك الكفار بأيدي المؤمنين، ليكون ذلك أنكى لقريش، وأذلّ لها، وأشفى لنفوس المؤمنين، وفي الوقت ذاته أمدّهم بالملائكة تثبت وتؤيد، وتبشّر وتخوف، وتكثر العدد، ولا حرج أن يشارك البعض في القتال كما ذكرنا، وقد أشار الحق إلى هذه الحكمة في قوله:
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ.
إلى قوله:
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «2» .
__________
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 279- 281.
(2) سورة التوبة: الايات 14- 16. انظر تفسير ابن كثير والبغوي.
,
لمّا حرّض النبي المؤمنين على القتال، واستحث عزائمهم، لم ينس وصيته بأناس خرجوا مكرهين إلى القتال بحكم العصبية الجاهلية، وكانت لهم مواقف مشكورة في منع النبي وحمايته، أو مساع حميدة في ردّ الظلم والطغيان، فقال لأصحابه يومئذ: «إني قد عرفت رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا مكرهين، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرها» .
ولا تحسبنّ أن الرسول بهذه الوصاة أراد أن يحابي أهله وذوي قرباه، فقد كانت نفسه الشريفة أسمى من ذلك وأرفع، وإنما ذكر لبني هاشم منعهم له ثلاثة عشر عاما، وانحيازهم لأجله في الشّعب ثلاثة أعوام حتى جاهدوا وأكلوا ورق الشجر، وذكر لعمه العباس موقفه المشرّف في بيعة العقبة الثانية وقوله للأنصار: (إن محمدا لا يزال في عزة ومنعة من قومه) ، وذكر لأبي البختري أنه كان له ضلع كبير في نقض الصحيفة الظالمة، وهي حسنات لا ينساها الإسلام قط، وقد كان من خلق رسول الله أن يردّ الجميل بخير منه، وليس أدل على ذلك من أن أبا البختري ليس من بني هاشم، ولا تربطه بالنبي قرابة قريبة، وإنما هو السمو الخلقي والإنساني.
وفي ثورة من الحمية والغضب بدرت بادرة من رجل من خيار المسلمين وهو أبو حذيفة بن عتبة، فقال: (أنقتل اباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس؟
والله لئن لقيته لألحمنّه «1» بالسيف) ، فبلغت مقالته رسول الله فقال لعمر:
«يا أبا حفص أيضرب وجه عمّ رسول الله بالسيف» ، فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق، ولكن الرسول أبى وغفر له ما بدر بحسن نية وصدق وإيمان.
__________
(1) لألحمنّه: أي لأضربنه بالسيف.
ولقد بقيت الكلمة التي قالها أبو حذيفة شبحا مخيفا يتراءى له أمام عينيه، يقلق عليه راحته النفسية وطمأنينته القلبية كلما ذكرها، حتى لقد كان يرى أن لا مكفّر لها إلا الشهادة في سبيل الله، فكان يقول: ما أنا بامن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة. وقد قتل يوم اليمامة شهيدا فرضي الله عنه وأرضاه.
,
من المثل العليا الإيمانية الرائعة في غزوة بدر ما حدث من بعض المسلمين، فقد التقى المسلم الصادق أبو عبيدة بالأب المشرك عبد الله بن الجراح، وقد كان الأب يتصدّى لابنه يريد قتله، وابنه يحيد عنه رعاية لحق الأبوة، ولكن الأب ما زال يتصدّى للابن يريد قتله، فلم يكن بدّ لأبي عبيدة من قتله. وفيها دعا الصديق أبو بكر ابنه عبد الرحمن إلى المبارزة وقال: دعني يا رسول الله أكن في الرعلة «1» الأولى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «متّعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر» . وفيها قتل الفاروق عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة، وقتل حمزة وعلي أبناء عمومتهم من قريش «2» ، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير «3» .
وهكذا ضرب المسلمون في بدر مثلا عليا لصدق الإيمان، وأنهم اثروا رضاء الله ورسوله على حب الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا تعجب إذا كان الله سبحانه أشاد بهذه المواقف الصادقة وأمثالها في قوله سبحانه:
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
__________
(1) في القاموس: والرعلة- بفتح الراء-: القطعة من الخيل كالرعيل أو مقدمتها أي في مقدمة المجاهدين والمستشاهدين.
(2) تفسير الألوسي ج 28 ص 37.
(3) تفسير القرطبي ج 17 ص 307.
وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» .
,
لقد قتل في بدر من صناديد قريش وأشرافهم ما يربو على السبعين، منهم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد، وأبو جهل بن هشام، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوّذ «2» ابن عفراء فتيان من الأنصار «3» ، ثم أدركه عبد الله بن مسعود وبه رمق، فوضع رجله على عنقه، فقال أبو جهل له: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، فاجتزّ ابن مسعود رأسه وجاء به إلى رسول الله.
وأمية بن خلف وكان هو الذي يعذب بلالا على الإسلام، فلما راه بلال قال: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، وكان أمية وابنه قد وقعا أسيرين في يد عبد الرحمن بن عوف، فدرأ بلالا عنهما، فقال بلال: لا نجوت إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا فأحاطوا به وبابنه حتى قتلوهما.
والعاص بن هشام بن المغيرة، وعبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة، وحنظلة بن أبي سفيان، ونوفل بن خويلد الأسدي، وأبو البختري بن هشام، وكان رسول الله قد أوصى المسلمين به خيرا كما أسلفنا ولكنه أبى إلا أن يترك هو وزميل له، فقالوا له: ما أمرنا رسول الله إلا بك واحدك، قال: لا والله إذا لأموتنّ أنا وهو جميعا. وغيرهم كثير.
__________
(1) سورة المجادلة: الاية 22.
(2) بضم الميم وفتح العين وكسر الواو المشددة، وقيل: تفتح. وعفراء أمه.
(3) وقيل اشترك في قتله معاذ، ومعوذ ابنا عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، انظر صحيح البخاري- كتاب فرض الخمس- باب من قتل قتيلا فله سلبه، وكتاب المغازي- باب قتل أبي جهل، وفتح الباري في الموضعين.
,
ولما تمّ النصر أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشّرين قبل مقدمه المدينة: عبد الله بن رواحة لأهل العالية»
، وزيد بن حارثة لأهل المدينة راكبا على ناقة رسول الله، فدخلا وهما يرفعان عقيرتهما إعلاما بالنصر للمسلمين، والقتل والهزيمة للمشركين، فتلقاهم الرجال والصبيان والولائد، وطافوا بالمدينة وضواحيها يهلّلون ويكبّرون الله على هذا النصر العظيم.
__________
(1) القليب: البئر التي لم تطو، أي لم تبن جوانبها بالطوب فانهارت.
(2) رواه الدارقطني في سننه.
(3) العالية: قرى ظاهر المدينة ومنها قباء.
وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا بالمدينة، وزعموا أن النبي قد قتل وأن المسلمين هزموا، فلما جاء المبشّران شرقوا بريقهم، ورأوا أنهم قد ذلّوا وهانوا حتى قال أحد زعماء اليهود: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها بعد أن أصيب أشراف الناس وساداتهم، وملوك العرب وأهل الحرم الامن.
وقد جاءت البشرى والمسلمون منصرفون من دفن السيدة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان تركها مريضة لمّا خرج لبدر، وخلف معها زوجها عثمان، فخفّف من هول المصاب ما منّ الله به على المسلمين من نصر مؤزر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا مثلا لإيثار مصلحة الإسلام والمسلمين على الأهل والولد.
,
لما أراد المسلمون أن يقتسموا الغنائم التي غنموها في بدر اختلفوا، فقال الشباب الذين خرجوا يتعقبون الكفار: نحن الذين نفينا عنها العدو، ولولانا لما أصبتموها، وقال الرجال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونافحوا دونه: نحن خفنا على رسول الله أن يصيب منه العدو غرة، فاشتغلنا به عن جمع الغنائم، وقال الذين جمعوا الغنائم: نحن الذين استحوذنا عليها وليس لأحد فيها نصيب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجمع الغنائم حتى يحكم الله حكمه فيها، فأنزل الله سبحانه قوله:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» .
وقد ذهب بعض كتّاب السيرة كابن إسحاق وبعض العلماء كأبي عبيد القاسم بن سلّام إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بين المجاهدين بالبواء يعني بالسواء، ولم يخمّسها، وهؤلاء يرون أن هذا الحكم كان في مبدأ الأمر، ثم نسخ فيما بعد بقوله سبحانه:
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 1.
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الاية «1» .
وذهب كثير من العلماء من المحدّثين وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمّسها، فأخذ الخمس لنفسه ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وقسم أربعة الأخماس الباقية بين المجاهدين. ويرى هؤلاء أن سياق الايات قبل اية الخمس وبعدها في غزوة بدر وقصتها، وهو يقتضي أنها نزلت كلها جملة واحدة في وقت واحد غير متأخر بعضها عن بعض حتى يقال بالنسخ، قال ابن كثير في بدايته: (وهو قول البخاري وابن جرير وغيرهما وهو الصحيح الراجح) .
وقال هؤلاء: إن ما ورد في رواية ابن إسحاق من أن الغنائم قسمت بالبواء، أي ساوى فيها النبي بين الذين جمعوها وبين الذين ثبتوا تحت الرايات مع الرسول لم يخصّ بها فريقا دون الاخر، ولا ينفي هذا تخميسها وصرف الخمس في مواضعه، ويشهد لهم أيضا ما رواه البخاري في صحيحه من قصة الشارفين «2» اللذين كانا لعلي رضي الله تعالى عنه، فجبّ حمزة رضي الله عنه أسنمتهما، وبقر بطنهما، وهو ثمل وذلك قبل أن تحرم الخمر، ففيها أن أحدهما كان من نصيبه في غنائم بدر، والاخر كان من الخمس الذي أفاء الله به على رسوله من بدر «3» ، ومهما يكن من شيء فقد حسم الله الخلاف، وبذلك زال الانقسام، وحل الوئام وعاد الصفاء.
وقد أسهم النبي لبعض من لم يحضر الموقعة لعذر، وهم: أبو لبابة الأنصاري لأنه كان مخلّفا على أهل المدينة، وعاصم بن عدي لأنه خلّفه الرسول على أهل قباء والعالية، والحارث بن حاطب لأن الرسول خلّفه على بني عمرو ابن عوف، والحارث بن الصمة وخوّات بن جبير لأنهما كسرا بالروحاء فلم يتمكنا من السير، وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد لأنهما
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 41.
(2) الشارف: الناقة المسنة.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 302؛ وتفسير ابن كثير والبغوي، ج 3 ص 94.
أرسلا يتجسسان الأخبار فلم يرجعا إلا بعد انتهاء الحرب، وعثمان بن عفان لأن رسول الله كان خلفه على السيدة رقية ليمرضها.
وكذلك أسهم الرسول لمن استشهد ببدر، فأعطى ذلك لورثتهم وهم أربعة عشر مسلما: ستة من المهاجرين، منهم: عبيدة بن الحارث الذي جرح في المبارزة الأولى، ثم مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن «بالصفراء» ، وثمانية من الأنصار، وما فعله النبي هو غاية العدل والإنصاف، وقد سبق به إلى رعاية أسر الشهداء وذويهم وضمان عيشة كريمة لهم بعد وفاة عائليهم قبل أن يعرف العالم الحديث ذلك.
,
وصل الرسول المدينة قبل قدوم الأسارى بيوم، وكان قد فرقهم بين أصحابه وقال: «استوصوا بهم خيرا» . وهذا غاية الرحمة والإنسانية حيث أوصى بأناس طالما عذّبوه وأصحابه، وحاولوا فتنتهم عن دينهم، وقد نفّذ الصحابة وصية رسول الله بأمانة، وكانوا سمحاء كرماء معهم، فهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يقول: (كنت في رهط الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي فأردها، فيردها عليّ ما يمسها) .
وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، وكان قد مرّ به أخوه مصعب ورجال من المسلمين فأسروه فقال له: (شدّ يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك) ، فقال له أبو عزيز: (يا أخي، هذه وصاتك بي؟!) فقال له مصعب: (إنه أخي دونك) . فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي، فقيل لها أربعة الاف درهم، فبعثت بها فداء له، وكان أخا شقيقا لمصعب، وقد أسلم أبو عزيز بعد وحسن إسلامه، وروى الحديث «1» .
ولما قدم المسلمون بالأسارى كانت السيدة سودة بنت زمعة زوج النبي عند ال عفراء في مناحتهم على عوف ومعوّذ ابني عفراء- وهما من شهداء بدر- وذلك قبل أن يضرب الحجاب، فلما أخبرت بقدوم الأسارى رجعت إلى بيتها ورسول الله فيه، فإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو «2» مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما ملكت نفسها حين رأته كذلك أن قالت: (أي أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما؟!) قالت: فو الله ما أنبهني إلا قول رسول الله من البيت: «يا سودة أعلى الله وعلى رسوله تحرّضين» ؟! فقالت: والذي بعثك بالحق، ما ملكت نفسي أن رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت، فقبل النبي اعتذارها.
,
وبينما كان النبي والمسلمون في طريقهم إلى المدينة أمر بقتل أسيرين:
أحدهما النّضر بن الحارث، والثاني عقبة بن أبي معيط، وكانا من شرّ عباد الله، وأكثرهم كفرا وعنادا وبغيا وحسدا وإيذاء للنبي والمسلمين، وهجاء للإسلام وأهله، ولم يأمر النبي بقتل أحد من الأسرى غيرهما.
ذلك أنه لما بلغ النبي في مرجعه «الصفراء» عرض عليه الأسرى، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى النضر نظرة رأى فيها الموت، فلما رأى ذلك قال لمصعب بن عمير
__________
(1) الروض الأنف، ج 2 ص 78؛ الإصابة، ج 4 ص 133.
(2) هو سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ- ابن عم والد السيدة سودة، وهو زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ.
- وكان أقرب من هناك به رحما-: كلّم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابه، فهو والله قاتلي إن لم تفعل، فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله وفي نبيه كذا وكذا، وكنت تعذّب أصحابه، فقال النضر: لو أسرتك قريش ما قتلتك أبدا وأنا حي، قال مصعب: والله إني لأراك صادقا، ثم إني لست مثلك، فقد قطع الإسلام العهود!.
وكان النضر أسير المقداد بن الأسود، وكان يطمع أن ينال في فدائه مالا كثيرا، فلما همّوا بقتله صاح: النضر أسيري، فقال النبي لعلي بن أبي طالب:
«اضرب عنقه، واللهمّ أغن المقداد من فضلك» .
أما عقبة بن أبي معيط فقد قتل «بعرق الظبية» ، ولما أمر النبي بقتله قال: فمن للصبية يا محمد؟ قال: «النار» ثم قال: أتقتلني من بين قريش؟
فقال النبي: «نعم» ثم التفت إلى أصحابه وقال: «أتدرون ما صنع هذا بي؟
جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي، وغمزها، فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران «1» ، وجاء مرة بسلا «2» شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي» .
وهذه القصة الثانية رواها البخاري ومسلم، فقد كان النبي يصلي عند الكعبة ورؤساء الشرك جالسون، فقالوا: من يذهب إلى سلا جزور بني فلان فيأتي به، فإذا سجد محمد وضعه على ظهره؟ فقال عقبة هذا: أنا، فذهب وجاء به ومعه فرث «3» ودم، فوضعه على ظهر النبي ورأسه، فصاروا يتضاحكون، ومكث النبي على هذا خشية أن يقوم فيقع في المسجد الحرام فيقذره، حتى انطلق أحد الناس فأخبر ابنته فاطمة- وكانت صغيرة السن- فجاءت، ونحّت القذر عن أبيها، وقلبها يكاد يتفطر مما رأت، وعيناها مغرورقتان بالدموع، ثم
__________
(1) ستندران: ستخرجان من مكانهما.
(2) السلا: الكيس الذي يكون فيه الجنين في بطن أمه «المشيمة» .
(3) الفرث: ما يكون في الكرش من قذر.
التفتت إلى القوم، فسبّتهم، ووبختهم على هذا العمل، وقد قتله علي بن أبي طالب، وقيل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
ولما قتل النضر بن الحارث رثته أخته قتيلة بنت الحارث، وكان مما قالت:
أمحمد يا خير ضنء «1» كريمة ... من قومها والفحل «2» فحل معرق
ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
قال ابن هشام: يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: «لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه» «3» وليس هذا بعجيب من الرؤوف الرحيم الذي وسع خلقه الناس جميعا محسنهم ومسيئهم. أما باقي الأسارى فلم يكن الرسول وأصحابه قد اتفقوا على رأي بالنسبة إليهم، أيقتلون أم يفادون؟
,
ولما استقر المقام للمسلمين بالمدينة بعد بدر استشار النبي أصحابه فيما يصنعون بالأسارى، فقال الصدّيق أبو بكر- وكان رحيما رقيقا-:
يا رسول الله قومك وأهلك، وإني أرى أن تأخذ منهم الفداء، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهداهم الله فيكونوا لنا عضدا، فقال رسول الله:
«ما ترى يا ابن الخطاب» ؟ فقال عمر- وكان صلبا في الحق شديدا-: والله ما أرى رأي أبي بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم، وأئمتهم، وقادتهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا.
__________
(1) الضنء: بفتح الضاد وكسرها: الولد.
(2) تريد الأب، أي إنه كريم الأبوين.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 305.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئا، ومكث ساعة ثم خرج والصحابة ما بين قائل برأي أبي بكر، وقائل برأي عمر، وقائل برأي ابن رواحة، فقال: «إنّ الله ليليّن قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
وكمثل عيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً وكمثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أنتم اليوم عالة «1» ، فلا يفلتنّ أحد إلا بفداء أو ضربة عنق» .
فقال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فإني قد سمعته يذكر الإسلام، فسكت النبي، قال عبد الله: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ حجارة من السماء من ذلك اليوم، حتى قال النبي: «إلا سهيل بن بيضاء» فسرّي عنه، وهكذا رجّح النبي صلى الله عليه وسلم رأي الصدّيق لما جبل عليه قلبه من الرأفة والرحمة، ولما فيه من التخلّق بصفة من صفات الرب جل وعلا، حيث قال:
«سبقت رحمتي غضبي» .
,
على حين كان المسلمون فرحين بنصر الله وما أفاء الله عليهم من الغنائم، كان الحيسمان بن عبد الله الخزاعي يحثّ الطريق إلى مكة، حتى كان أول من دخلها، وأخبر أهلها بالهزيمة، وقتل الكثيرين من صناديدهم وأشرافهم وأسر الكثيرين منهم، وقد تشكّكوا أول الأمر، ثم لم يلبثوا أن استيقظوا لما توالت عليهم النذر، فكأنما نزلت عليهم صاعقة من السماء.
وكان أشدهم غيظا وكمدا أبو لهب بن عبد المطلب، ولم يمكث إلا بضع
__________
(1) عالة: فقراء في حاجة إلى المال.
ليال حتى رماه الله بمرض العدسة فقضى عليه، وكانت قريش تتّقي هذا المرض، فتركه ابناه بعد موته ثلاثا حتى أنتن، فقال لهما رجل من قريش:
ألا تستحيان، إن أباكما قد أنتن في بيته، ألا تدفنانه؟ فقالا: إنا نخشى عدوى هذه القرحة، فقال: انطلقا وأنا أعينكما عليه، فغسلوه قذفا بالماء من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلا مكة فأسندوه إلى جدار ثم ردموا عليه الحجارة. وهكذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يموت هذه الميتة الشنيعة لعداوته للرسول ومناهضته للإسلام، وعدم رعايته للرحم حرمة.
ومكثت قريش تنوح على قتلاها مدة، ثم تواصوا فيما بينهم وقالوا:
لا تفعلوا، يبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم. وكذلك تواصوا ألايسرعوا في بذل الفداء، وقالوا: لا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، لا يأرب «1» عليكم محمد وأصحابه في الفداء، وكان هذا من تمام ما عذّب الله به أحياءهم في ذلك الوقت، فإن البكاء مما يبل فؤاد الحزين، ويخفف من لوعة الحزن وهول المصاب، وكان الأسود بن المطلب قد أصيب في ثلاثة من ولده: زمعة، وعقيل، والحارث، فقال لغلام له: هل بكت قريش على قتلاها لعلّي أبكي على ولدي، فإن جوفي قد احترق.
,
ولم تطق قريش الصبر على ما اتفقوا عليه من عدم التسارع إلى الفداء، وانسلوا واحدا وراء الاخر، وقد كان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه» ، فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم، قال المطلب بن أبي وداعة: صدقتم لا تعجلوا، وكان هو أول من نقض هذا، فانسل من الليل وقدم المدينة، وفدى أباه بأربعة الاف درهم، وكان هذا أول أسير فدي، ثم بعثت قريش في فداء أسراهم.
__________
(1) قال في النهاية في تفسير هذا الخبر: أي يتشدّدون عليكم في طلب الفداء.
فقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان سهيل رجلا أعلم «1» من شفته السفلى، فقال عمر بن الخطاب لرسول الله: (دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو فيدلع «2» لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا) ، فكان جواب النبي هذا الجواب البالغ السمو في الرحمة والإنسانية: «لا أمثّل، فيمثّل الله بي، وإن كنت نبيا وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه» . وقد صدقت نبوءة الرسول، فإنه لما جاور الرفيق الأعلى أراد بعض أهل مكة الارتداد كما فعل غيرهم من الأعراب والمنافقين، فقام سهيل هذا خطيبا وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله:
(أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ألم تعلموا أن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، ثم قال: والله إني لأعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها، فلا يغرنّكم هذا يريد أبا سفيان «3» - من أنفسكم، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومقر دينه، وقد جمعكم الله على خيركم يعني أبا بكر- وإن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه) فتراجع الناس عما كانوا عزموا عليه، فكان معجزة من معجزات النبوة.
ومن الأسرى: عمرو بن أبي سفيان بن حرب، فقالوا له: افد عمرا ابنك فقال: لن يجتمع علي دمي ومالي، قتلوا حنظلة وأفدي عمرا؟ دعوه في أيديهم فيمسكوه ما بدا لهم. فبينما هو كذلك خرج سعد بن النعمان، - وكان شيخا مسلما- إلى مكة معتمرا، فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو،
__________
(1) أعلم: مشقوق الشفة.
(2) يخرج عند الكلام.
(3) لم يثبت أن أبا سفيان كان له موقف سيّىء بعد وفاة رسول الله، ولقد أسلم الرجل وحسن إسلامه، وأبلى في فتوح الشام بلاء حسنا (الناشر) .
فمشى قوم سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا صاحبهم به، فأعطاهم إياه فأرسلوه إلى أبي سفيان، فخلّى سبيل سعد.
ومن الأسرى: العباس بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق:
لما أمسى رسول الله يوم بدر والأسارى محبوسون بالوثاق بات النبي ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: مالك لا تنام يا رسول الله؟ فقال: «سمعت أنين عمي العباس في وثاقه» ، فأطلقوه فسكت، فنام رسول الله «1» .
وروى الحاكم في المستدرك عن ابن عمر قال: لما أسر العباس فيمن أسر يوم بدر أوعدته الأنصار أن يقتلوه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه» ، فقال عمر:
أفاتيهم؟ فقال: «نعم» فأتى عمر الأنصار فقال لهم: أرسلوا العباس، فقالوا:
لا والله لا نرسله، فقال عمر: فإن كان لرسول الله رضا؟ قالوا: فإن كان له رضا فخذه، فأخذه عمر، فقال له: يا عباس أسلم فو الله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك.
ومع أن النبي تألّم لألمه وهو في الأسر فقد أبى إلا أن يأخذ منه الفداء، وقد فدى نفسه وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وحليفه عتبة بن عمرو أحد بني الحارث بن فهر بمائة أوقية من الذهب، ولما قال للنبي: إنه لا مال له قال له: «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، وقلت لها: إن أصبت في سفري فهذا لبنيّ: الفضل، وعبد الله، وقثم» ، فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما أعلمه إلا أنا وأم الفضل!!!
ولما قال: إنه خرج مستكرها وإنه كان قد أسلم قال له النبي: «أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك وسيجزيك» ، وكذلك أبى أن يتنازل له الأنصار عن الفداء. روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: إن
__________
(1) السيرة مع فتح الباري، ج 7 ص 248 ط بولاق.
رجالا من الأنصار «1» استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا «2» العباس فداءه، فقال: «لا والله، لا تذرون له درهما» «3» .
وهذا غاية العدل والإنصاف في المعاملة، فرسول الله مع رحمته بعمه وشفقته عليه وتخوفه أن يقتل وهو يرجى من ورائه للإسلام خير كثير، تأبى عليه نفسه السامية أن يفرّق بينه وبين الأسارى في الفداء، أو أن يقبل أن يمن عليه الأنصار خشية أن يكون عملهم هذا لمكانه من رسول الله وقرابته، مع أنه صلى الله عليه وسلم منّ على بعض الأسارى دون فداء، وهذا ليس بعجيب ممن كان خلقه القران.
ومن الأسرى: أبو عزّة الشاعر، كان فقيرا ذا عيال، فقال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله، وأخذ عليه ألايظاهر عليه أحدا، فتعهّد بذلك ومدح الرسول بشيء من شعره.
ثم لم يلبث أن أغراه المشركون بهجاء النبي والمسلمين، ففعل بعد أن تمنّع، وصار يؤلب على المسلمين لأجل أحد، وقد حضر الموقعة فأسر، فسأل النبي أن يمنّ عليه فقال له: «لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين» ، ثم أمر به فضربت عنقه، وقيل: إن الرسول قال له: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ، قيل: إن هذا من الأمثال التي لم تسمع إلا منه عليه الصلاة والسلام «4» .
ومن الأسرى: الوليد بن الوليد، افتداه أخواه خالد وهشام، فلما افتدي ورجع إلى مكة أسلم، فقيل له: هلّا أسلمت قبل الفداء، فقال: خفت أن
__________
(1) هم بنو النجار، وقد كان وقع في أسرهم، ولعل الذين أرادوا أن يقتلوه غير بني النجار، أو بعض اخر منهم، فلا تنافي بين هذه الرواية والسابقة.
(2) هم أخوال أبيه عبد المطلب لأن أمه سلمى بنت عمرو من بني النجار ففي الكلام تجوز.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 299.
(4) المرجع السابق، 313.
يعدوا إسلامي خوفا، ولما أراد الهجرة إلى المدينة منعه أخواه، فبقي بمكة حتى فرّ إلى النبي في عمرة القضاء.
ومن الأسرى: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته زينب رضي الله عنها، وهو ابن أخت «1» السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وكان تزوجها قبل النبوة، فلما دعا النبي إلى دين الله مشى رجال من قريش إلى أبي العاص فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأي امرأة من قريش شئت، فقال: لا والله إذا لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش!!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه في صهره كما ثبت في صحيح البخاري ويقول: «حدّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي» ، وكان أسر ببدر، فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت السيدة زينب بنت الرسول في فداء زوجها بمال، وفي المال قلادة كانت للسيدة خديجة رضي الله عنها، فأهدتها إليها وأدخلتها بها على أبي العاص، فلما راها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة، وأهاجت في نفسه ذكرى السيدة الجليلة التي واسته بنفسها ومالها خديجة، فقال لأصحابه: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا» ، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردّوا عليها قلادتها.
وكان النبي قد أخذ عليه أن يخلّي سبيل ابنته زينب فوفى بالعهد وأرسلها، فبقيت عند أبيها إلى ما بعد الحديبية، فأسر أبو العاص مرة أخرى، ففر إلى المدينة واستجار بزوجته زينب- وكان الإسلام قد فرّق بينه وبينها- فأجارته، فأقر المسلمون إجارتها له، ورجع إلى مكة ومعه ماله، فأدّى الأمانات إلى أصحابها، ثم عاد إلى المدينة مسلما، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه بعقد ومهر جديدين على الصحيح.
__________
(1) الروض الأنف، ص 81، 83؛ الإصابة، ج 4 ص 122؛ والاستيعاب (على هامش الإصابة) 4 ص 125- 129.
ومن الأسرى: وهب بن عمير بن وهب الجمحي، وكان أبوه شيطانا من شياطين قريش، شديد الإيذاء للرسول وأصحابه بمكة، جلس يوما بعد الحرب مع صفوان بن أمية يتذاكران مصاب بدر، فقال عمير: والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد فأقتله، فإن ابني أسير عنده. فاغتنمها صفوان بن أمية فقال له: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم علي، قال: سأفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له، وسمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، وما أكرمهم الله به، إذ نظر إلى عمير بن وهب وقد أناخ بعيره على باب المسجد متوشحا سيفه، فقال: هذا عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرّش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل على رسول الله فأخبره فقال له: «أدخله علي» .
فأقبل إليه عمر فأخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبّبه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: أدخلوه على رسول الله، فلما راه وعمر اخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، أدن يا عمير» فدنا فقال له: «فما جاء بك يا عمير» ؟ قال:
جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه. قال: «فما بال السيف في عنقك» ؟ قال: قبّحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئا؟ قال: «اصدقني ما الذي جئت له» ؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك» .
فقال عمير: أشهد أنك رسول الله!! قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«فقهوا أخاكم في دينه وعلموه القران، وأطلقوا أسيره» ، ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله ورسوله وإلى الإسلام، لعل الله يهداهم، وإلا اذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم.
فأذن له رسول الله فلحق بمكة، وكان صفوان حين حرج عمير يمنّي نفسه الأماني، ويقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الان في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان يخرج فيتلقّى الركبان يسألهم عن عمير ليتأكد من نجاح المؤامرة، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فسقط في يده، وحلف ألايكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا، أما عمير فلما قدم مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام ويؤذي من خالفه أذى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير، وهكذا خرج كافرا جاهدا على قتل النبي، فإذا به يعود مؤمنا صادق الإيمان!!.
,
وكانت قيمة الفداء يومئذ ما بين الأربعمائة والأربعة الاف درهم، كما رواه أبو داود في سننه، ومنهم من أخذ منه أربعون أوقية من ذهب عن نفسه كالعباس رضي الله عنه، ومن لم يكن له مال ويعرف القراءة والكتابة أعطوه عشرة من غلمان المدينة يعلمهم القراءة والكتابة. روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، فجاء غلام يبكي إلى أمه، فقالت: ما شأنك؟ فقال: ضربني معلمي، فقالت: الخبيث يطلب بدخل بدر، والله لا تأتيه أبدا «1» . ومن لم يكن يعرف القراءة والكتابة منّوا عليه كأبي عزة الشاعر، والمطّلب بن حنطب المخزومي، أسره بعض بني الحارث بن الخزرج، فترك في أيديهم حتى خلّوا سبيله فلحق بقومه «2» .
وقبول النبي صلى الله عليه وسلم تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في هذا الوقت الذي
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 338.
(2) المرجع السابق ص 312.
كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال يرينا سموّ الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة وإزالة الأمية، وليس هذا بعجيب من دين كان أول ما نزل من كتابه الكريم:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «1» .
واستفاضت فيه نصوص القران والسنة في الترغيب في العلم وبيان منزلة العلماء، وبهذا العمل الجليل يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أول من وضع حجر الأساس في إزالة الأمية وإشاعة القراءة والكتابة، وأن السبق في هذا للإسلام.
,
وقد وعد الله سبحانه الأسارى من امن منهم وأسلم وحسن إسلامه بالعوض عما أخذ منهم في الدينا والاخرة، قال عز شأنه:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» .
وهو ترغيب لهم في الإيمان، وعدة لهم بالعوض في الدنيا والغفران في الاخرة، وكان العباس رضي الله عنه ممن ناله هذا الوعد الكريم، فكان يقول:
أبدلني الله من ذلك عشرين عبدا- وفي رواية أربعين- كلهم تاجر بمالي، وأعطاني زمزم- يريد السقاية- وما أحب أنّ لي بها جميع أموال أهل مكة.
وكان يقول بعد ما ناله من الخير حتى رضي: وأنا بعد أرجو المغفرة التي وعدنا الله جلّ ثناؤه.
__________
(1) (الذي علم بالقلم) إشارة إلى العلم الكسبي، (علّم الإنسان ما لم يعلم) إشارة إلى العلم الوهبي الذي يهديه الله لأنبيائه وأوليائه، والايات هي: 1- 5 من سورة العلق.
(2) سورة الأنفال: الاية 70.
,
وقد عاتب الله سبحانه النبي والمسلمين على اختيارهم الفداء على القتل الذي أشار به الفاروق رضي الله عنه، وأنزل في ذلك قوله سبحانه:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» .
ولما نزلت الايتان جاء عمر من الغد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان، فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما!! فقال رسول الله: «للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، وقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة» ، لشجرة قريبة منه، وأخبره بما نزل من الايات، وهذا يدل على أن جمهرة الصحابة كانوا على رأي أخذ الفداء.
ولما نزلت الايتان كفّ الصحابة أنفسهم عن الانتفاع بما أخذوا من الفداء، وأسفوا لهذا العتاب، فأنزل الله سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
__________
(1) سورة الأنفال: الايتان 67، 68. تفسير الايتين: أسرى: جمع أسير، الإثخان في الشيء: المبالغة فيه والإكثار منه، والمراد المبالغة في تقتيل الكفار. عرض الدنيا: الفداء. لولا كتاب من الله سبق: يعني لولا ما قدّره الله في الأزل وجرى به تقديره الحكيم من أنه لا يؤاخذ من اجتهد وبذل الوسع، وإن لم يصادف الصواب، وقيل: من أنه لا يؤاخذ أهل بدر بما صنعوا، وقيل: من أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم الحلال من الحرام، وما ينبغي مما لا ينبغي، يعني لولا هذا لنالكم عذاب شديد بسبب إيثاركم عرض الدنيا على ثواب الاخرة، وهذا درس تربوي عظيم، وبهذا الدرس وغيره أنشأ الله خير جيل عرفته الدنيا قديما وحديثا، وهم الصحابة الكرام، والاية الثانية بمثابة الترضية والإعذار لهم بعد العتاب.
,
يقف غير واحد من المستشرقين والمبشّرين عند أسارى بدر، وقتل أسيرين من سبعين أسيرا، ويزعمون زورا وكذبا تعطش الدين الجديد للدماء، ويرون أنه كان الأحسن أن يمنّ المسلمون على الأسرى وبحسبهم ما نالوا من غنيمة، قالوا هذا وتغافلوا عما قام به هذان القتيلان، وما قام به معظم هؤلاء الأسرى من تعذيب وإيذاء للنبي والمسلمين، وصدّهم للناس عن الإسلام ثلاثة عشر عاما، ولم يكفهم ما فعلوا بالمسلمين بمكة، فهاهم لا يزالون يحاربون الإسلام والمسلمين، ويحاولون القضاء عليهم في موطنهم الجديد، وها نحن قد سمعنا عتاب الله للمسلمين أن قبلوا الفداء، ولم يثخنوا فيهم قتلا، ولو أنهم فعلوا لما عوتبوا، ولحظوا بالثناء من رب العالمين.
يقولون هذا ويتجاهلون ما قام به المسيحيون باسم الصليب تجاه المسلمين من حروب دامية دامت حقبا من الزمان، وحاولوا أن يغتصبوا جزا عزيزا من أرض المسلمين في فلسطين، بل وأن يقضوا على الإسلام والمسلمين، ويتناسوا ذلك لولا ما قيّض الله للإسلام والمسلمين من أمثال صلاح الدين الأيوبي البطل المسلم، فهزمهم وألقى بهم في البحر، وطردهم شر طردة.
ويتناسون ما قام به المسيحيون ضد المسلمين في الأندلس، وأيضا المجازر الكبرى التي قامت باسم المسيحية تجاه إخوانهم المسيحيين مثل مجزرة (سان بارتلمي) ، هذه المجزرة التي تعتبر سبة في تاريخ المسيحية لا شيء مثلها قط في تاريخ الإسلام، هذه المجزرة التي دبرت بليل وقام فيها الكاثوليك يذبحون البروتستانتييين في باريس وفي فرنسا غدرا وغيلة، بل في أحط صور الغدر وأبشع صور الغيلة «1» .
وتجاهلوا أيضا ما حدث في أثناء الثورة الفرنسية والثورات المختلفة التي وقعت وتقع في أمم أوروبا المختلفة، من تقتيل وتذبيح للالاف، وما قامت
__________
(1) حياة محمد لهيكل، ص 268.
وتقوم به الدول المسيحية في العصر الحديث باسم قمع الثورات في بلاد يحكمونها على كره من أهلها، قصد استغلال خيراتها، وامتصاص دماء بنيها.
وما رأيهم فيما تقوم به الدول المتحضرة اليوم في الشرق والغرب، وما جرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية من قتل الأسارى قتلا جماعيا والتنكيل بهم تنكيلا جاوز حدود الإنسانية؟ فلماذا أغمضوا عن هذا عيونهم، وأصموا اذانهم؟ وفتحوها لقتل أسيرين حفلت حياتهما بالمساوىء والجرائم تجاه النبي والمسلمين؟ فأين هذا مما صنعه المسلمون مع الأسارى في بدر من إحسان إليهم حسب وصاة نبيهم لهم، حتى كانوا يؤثرونهم على أنفسهم بالطعام والشراب؟!
إن ما جرى في بدر وفي غير بدر من المسلمين في مغازيهم وفتوحاتهم إنما هي رحمة وعدل من اثار هذا الدين، دين الرحمة والعدل، ولقد لهج بذلك رجل لا يمت إلى الإسلام بصلة، وهو المؤرخ الكبير (غوستاف لوبون) حيث قال:
(ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب) «1» .
وإليكم أيها المستشرقون والمبشرون هذه الحكمة: (من كان بيته من زجاج فلا يرشق بيوت الناس بالحجارة) .
,
لا تعجب وقد سمعت ما سمعت عن أهل بدر، وما قدّموه من التضحيات راضية بذلك نفوسهم، وما كان لهذه الغزوة من أثر بعيد في نشر الإسلام وظهوره على الأديان كلها- أن جعل الله سبحانه لأهل بدر من المنزلة والمكانة في الدنيا والاخرة ما ليس لغيرهم، حتى صار من الماثر والمفاخر أن يقال: فلان بدري.
روى البخاري في صحيحه عن حميد قال: سمعت أنس بن مالك رضي
__________
(1) الوحي المحمدي، ص 129.
الله عنه يقول: أصيب حارثة «1» يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الاخرى ترى ما أصنع، فقال: «ويحك، أو هبلت- أي ثكلت- أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس» وفي رواية: «إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» .
قال الحافظ ابن كثير: وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا لم يكن في حومة الوغى، بل كان من النظّارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب»
وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس الذي هو أعلا الجنان، ومنه تفجّر أنهار الجنة، والتي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها، فإن كان هذا حاله فما ظنك بمن كان واقفا في نحر العدو، وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عددا وعددا!
وروى الشيخان في صحيحيهما قصة حاطب بن أبي بلتعة، وبعثه الكتاب إلى أهل مكة عام الفتح يخبرهم فيه بعزم رسول الله على قصد مكة، وأن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه، لأنه قد خان الله ورسوله، فقال له الرسول: «أليس من أهل بدر؟ لعلّ الله اطّلع إلى أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
والمراد عدم مؤاخذتهم عما عسى أن يبدر منهم بعد ذلك من الزلات والتجاوز عن سياتهم، كفاء ما قدموا للإسلام من مخاطرة بالنفس في هذه الغزوة، وما أظهروه من إيمان وبطولة، وليس المراد أن الله سبحانه أباح لهم أن يفعلوا أي شيء أرادوه من المعاصي والاثام كما يتوهم ذلك، وقد كان صحابة رسول الله ولا سيما أهل بدر أشد الناس تقوى لله وخوفا من الله، على كثرة ما وعدهم من المغفرة والرضوان والنعيم المقيم في الاخرة.
__________
(1) هو حارثة بن سراقة من بني عدي بن النجار الأنصاري وأبوه سراقة له صحبة واستشهد يوم حنين، وأمه هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك.
(2) أي أتاه من حيث لا يدري، فإن الذي رماه قصد غرته فرماه وحارثة لا يشعر به.
وكانوا يغلّبون الخوف على الرجاء، وقد كان الصدّيق على منزلته يشمّ من فيه رائحة الكبد المشوي من شدة الخوف من الله، وكان الفاروق عمر على زهده وعدله يقول: ليت أمي لم تلدني، وكان أبو الحسن علي يقوم في محرابه بالليل فيبكي بكاء الثكلى، ويتململ تململ السليم- اللديغ- من خوفه وخشيته لله، إلى غير ذلك من المثل الكثيرة التي زخرت بها سير الصحابة الكرام.
وروى مسلم في صحيحه بسنده عن جابر: أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا ويقول: ليدخلنّ حاطب النار، فقال رسول الله:
«كذبت لا يدخلها، إنه شهد بدرا والحديبية» . وروى البخاري في صحيحه أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة «1» .
وقد عرف الخلفاء الراشدون لأهل بدر منزلتهم وقدمهم في الإسلام دينا ودنيا، فقد جعل سيدنا عمر عطاء أهل بدر لكل واحد خمسة الاف «2» ، وقال:
لأفضلنّهم على من بعدهم، وكذلك عرف لهم العلماء منزلتهم لما تكلموا في فضل الصحابة وجعلهم طبقات، حتى إن بعضهم جعل الطبقة الأولى أهل بدر، وهذا عرفان منهم بالفضل لذويه «3» .
,
1- كانت من نتائج غزوة بدر أن قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا مرهوبين في المدينة وما جاورها، وأضحى من يريد أن يغزو المدينة، أو ينال من المسلمين يفكر ويفكر قبل أن يقدم على فعلته، وإلا نزل به ما نزل بقريش على عددها وعدتها.
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 328.
(2) الباعث الحثيث إلى علوم الحديث، ص 333.
(3) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب فضل من شهد بدرا.
2- أنها تركت بنفوس أهل مكة المشركين كمدا وأحزانا والاما بسبب هزيمتهم ومن فقدوا أو أسروا، فهذا أبو لهب لم يلبث أن أصيب بالعلة ومات، وهذا أبو سفيان فقد ابنا له وأسر له ابن اخر، وما من بيت من بيوت مكة إلا وفيه مناحة على قتل عزيز أو قريب، أو أسر أسير، فلا عجب أن كانوا صمموا في أنفسهم على الأخذ بالثأر، حتى إن بعضهم حرم على نفسه الاغتسال «1» حتى يأخذ بالثأر ممن أذلوهم، وقتلوا أشرافهم وصناديدهم، وانتظروا يترقبون الفرصة للقاء المسلمين والانتصاف منهم، فكان ذلك في أحد.
3- أن النصر المبين في بدر حرك ما كمن في نفوس اليهود والمنافقين والمشركين من أهل المدينة. فهذا الذي وفد عليهم فارا مهاجرا يزداد سلطانه ونفوذه يوما بعد يوم، ويكاد يكون صاحب الكلمة في المدينة كلها لا في أصحابه واحدهم، وكان اليهود قد بدأ تذمرهم من قبل بدر، وبدأوا يحيكون الدسائس والمؤامرات لتفريق واحدة المسلمين، ولولا عهد الموادعة الذي كان بينهم وبين المسلمين لوقع الصدام السافر بين الفريقين، لذلك ما كاد المسلمون يعودون من بدر منصورين حتى جعلت طوائف اليهود والمنافقين تتغامز، وتستخف بالنصر الذي أحرزوه زاعمين أنهم لقوا أغمارا «2» في الحرب، ولئن وقعت بينهم وبين المسلمين الحرب فسيرى المسلمون أنهم هم الناس «3» !! وبدأوا يتحرشون بالنبي والمسلمين، وما كان النبي ليخفى عليه شيء من ذلك، وإنما كان يراقبهم عن حذر ويقظة، حتى استخفوا بالمقررات الخلقية، والحرمات التي يعتز بها المسلمون، واستعلنوا بالعداوة، فلم يكن بدّ من حربهم وإجلائهم عن المدينة، كما سنفصل ذلك فيما بعد إن شاء الله.
__________
(1) هو أبو سفيان بن حرب، كان نذر بعد بدر ألايمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أغار على المدينة في رجال من قومه، ولكن لم ينل مأربا، فخرج إليه النبي في جماعة من أصحابه، ولكنه فر هاربا، وكان ذلك في «غزوة السويق» .
(2) لا خبرة لهم بالحروب وفنونها.
(3) يعنون أنهم أهل الخبرة والدربة في الحروب.
,
إن في بدر لعبرا وايات يستجليها ذوو البصائر النيرة، والقلوب المؤمنة، والعقول الفاحصة المتحررة، وصدق الله حيث يقول:
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «1» .
من هذه العبر والايات:
1- أثر القوى الروحية والمعنوية: وأساس هذه القوى هو الإيمان:
الإيمان بالله وأنه ذو قوة لا تغالب، وأن بيده النصر والموت والحياة، وأن الموت في سبيل الله خلود. والإيمان بالرسول، وأنه لا ينطق عن الهوى، وأن حبه إيمان، وتفديته بالنفس فريضة، وأن كل مصاب دونه هين ويسير. والإيمان باليوم الاخر، وأن هناك حياة أخرى خيرا من هذه الحياة يوفّى فيها كل عامل جزاءه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وأن الجنة للمتقين المجاهدين والنار للكفار والمتقاعسين عن نصرة الأنبياء والمرسلين.
والإيمان بالرسالة المحمدية، وأنها الشريعة العامة الخالدة التي يجب أن تسود الدنيا وأن يستظل بها البشر، فقد ناط الله بها كل سعادة، وربط بها كل هدى وحق وخير. والإيمان بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم الأمة الوسط الشاهدة على الأمم كلها بعقيدتها وشريعتها، وعلمها وعملها، وأخلاقها وسلوكها، وعلى الأمة الإسلامية أن تنشىء أبناءها على هذا الإيمان اليوم، وحينئذ ستسترجع عزتها وسلطانها.
هذا الإيمان العميق الجذور، المتشعب الفروع، هو سر الانتصار في هذه الموقعة وغيرها من مواقع الإسلام وأيامه المشهورة، وهو سر الأسرار وعبرة
__________
(1) سورة ال عمران: الاية 13.
العبر، وإنا لنلمسه جليا في مقالة السادة: أبي بكر، وعمر، والمقداد، وسعد بن معاذ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ أيها الناس» ونلمسه أيضا في مقالة عمير بن الحمام لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض» فرمى بتمرات في يده كان يأكلها قال: إني إن حييت حتى اكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة!!
ونحس هذا الإيمان المثالي في طلب الصدّيق أن يبارز ابنه عبد الرحمن، وفي قتل الفاروق لخاله العاص بن هشام، وقتل أبي عبيدة لأبيه، ومصعب بن عمير لأخيه، وفي مقالة أبي حذيفة لما رأى أباه عتبة وقد مات على الكفر ... إلى غير ذلك من المواقف المشرّفة، والمثل الإيمانية العليا.
2- من العبر أن النصر من عند الله، وأن لله جنودا كثيرة منها الملائكة، وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ والله سبحانه وتعالى قد أمرنا في صريح الكتاب الكريم بإعداد العدة، وأخذ الأهبة للأعداء، وقد بلغ النبي والصحابة المدى في هذا، فلم يدعوا وسيلة من وسائل القوة والنصر مما يقع تحت أيديهم وفي استطاعتهم إلا اتبعوها، فضربوا بالسيوف والحرب، ورموا بالسهام والنبال، وحفروا الخنادق، وصنعوا الدبابات بما يلائم عصرهم، وتدربوا على فنون القتال، وتعلّموا الكر والفر، ومع هذا كانوا على صلة وثيقة بالله، وتوكل عليه، وهم على صلاح واستقامة، لم يغتروا بعدد ولا عدّة، وإنما يستنزلون النصر من عند الله.
ولذلك كان النبي كثيرا ما يلجأ إلى الدعاء عند حضور المواطن، بل ويبالغ فيه كما حدث في بدر ليثبت في نفوسهم هذا المعنى الكريم، ولذلك لما عرض الله سبحانه في الكتاب الكريم لإمداد المسلمين بالملائكة ختم ذلك بقوله:
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «1» .
__________
(1) سورة ال عمران: الاية 126.
وقوله:
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «1» .
وإنه لدرس عظيم يجب أن يعيه المسلمون في كل قطر، فما أجدرهم أن يأخذوا أنفسهم بتقوى الله والاستقامة على شريعته، وأن يصلوا حبالهم بحبال السماء، وإلا كانوا هم والأعداء في المعاصي سواء، وإن لا يكن لنا عليهم فضل بالدين والاستقامة والطاعة فضلونا بالعدد والعدّة، وإذا تخلّى الله سبحانه وتعالى عنا، ووكلنا إلى أنفسنا واغترارنا عزّ علينا استنزال النصر من الله، وصارت الغلبة لمن هم أكثر عددا وعدّة.
3- احترام النبي صلى الله عليه وسلم لمبدأ الشورى في الحرب ولو كانت من فرد واحد، وهو تقرير لهذا المبدأ التي يعتبر من مبادىء الإسلام، وذلك مثل ما حدث من أخذه برأي الحباب بن المنذر في تخيّر مكان نزول الجيش، ورأي سعد بن معاذ في بناء العريش؛ واستشارة أصحابه في القتال، لما علم بخروج قريش في جموعها، وفي الأسارى أيقتلون أم يفادون؟.
وليس هذا بعجب ممّن نزل عليه قول الله سبحانه:
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «2» .
4- إنسانية الرسول الفائقة: إنسانية مبعثها الرحمة التي امتلأ بها قلبه الكبير، والعظمة النفسية التي تسمو عن أن تؤاخذ كل مذنب بذنبه، وإنما تعفو وتسمح، وتتسامى وتصفح، وإنا لنلمس هذا في الأمر بدفن القتلى، وفي أمر أصحابه بالإحسان إلى الأسرى، وفي إبائه على سيدنا عمر أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 10.
(2) سورة ال عمران: الاية 159.
حتى لا يقوم ضد النبي خطيبا، وقوله هذه المقالة: «لا أمثّل فيمثّل الله بي وإن كنت نبيا» !! وفي موقفه لما سمع رثاء قتيلة لأخيها النضر بن الحارث وقوله:
«لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه» .
5- مواهب النبي صلى الله عليه وسلم السياسية: هذه المواهب التي تفجّر بها القلب المستنير الذي أشرق بالإيمان، وامتلأ بالفيوضات الإلهية والتجليات الربانية التي أفاض الله بها عليه، والعقل الكبير الذي تربّى على التأمل والنظر في الكون، وترعرع في حياطة الله ورعايته، وتمرّس بايات الوحي والحكمة، فوسع العقول جميعا، ولو وزنت به العقول كلها لرجحها.
وإنا لنلمس هذه المواهب في استشارة أصحابه لمّا ترجّح جانب القتال بخروج جيش قريش، فقد كان هذا بمثابة اختبار لإيمان القوم، وتعرّف مبلغ استعدادهم لنصرة الإسلام خارج المدينة. وقد نجحوا في هذا الاختبار أيما نجاح، وأبانوا بما قالوا عن معدنهم الأصيل تجاه نبيهم محمد، الذي يختلف عن معدن بني إسرائيل معدن الجبن والخور والنذلة تجاه نبيهم موسى.
كما نلمس هذا أيضا حين بدأت المبارزة، فقد أخرج النبي- كما رجّحنا- للثلاثة القرشيين ثلاثة من ألصق الناس به وذوي قرباه: اثنين من بني هاشم وواحدا من بني المطّلب، وبنو هاشم والمطّلب سواء في الجاهلية والإسلام، وذلك ليكون إيذانا على رؤوس الأشهاد بأن أقرباء النبي الأقربين سيكونون في مقدمة المسلمين- مهاجرين وأنصارا- تضحية بالنفس، وتفدية للرسول والإسلام، وإنه لموقف معبّر دونه الخطب والكلام.
ونلمس هذه الموهبة الفائقة في موقف يعتبر من أحرج المواقف بين رأيين متعارضين، وكل من صاحبي الرأيين يعتبر وزير صدق للنبي صلى الله عليه وسلم، وانحاز إلى رأيه كثيرون، وذلك حينما استشار أصحابه في الأسرى، فقد رأى الصدّيق الفداء، ورأى الفاروق القتل، ودخل النبي بيته وفكر في الأمر، فرأى بما جبل عليه من الرحمة والتسامح رأي الصدّيق، ولكن الرأي المعارض رأي عمر،
وهو من هو في الإسلام، وصاحب الموافقات، وربما يكون في هذا غضاضة على عمر.
وفكّر الرسول ثم فكر، فتفتّق العقل الكبير عن هذا التصرف الحازم البصير، فخرج وأثنى على كلا الرجلين ثناء نابعا من طبيعة الرجلين، لا تحيّف فيه على أحدهما، ولا هضم لحقه، ولا محاباة ولا مداهنة، فشبّه الصديق بنبيين رحيمين: إبراهيم وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وشبه الفاروق بنبيين اشتد غضبهما على قومهما، بعد أن لم يدعا في قوس الصبر منزعا، وهما: نوح وموسى عليهما الصلاة والسلام، ثم رأى رأي الصدّيق، وبهذه التقدمة البارعة قضى الرسول على ما عسى أن يداخل نفس الفاروق، فإذا كان الرسول لم يأخذ برأيه فبحسبه شرفا وتقديرا أن يكون شبيها بنبيين من أولي العزم من الرسل، وإنها لأمنية تنقطع دونها الأماني، وحلم ترنو إليه أي نفس مهما بلغت من أصالة الرأي، وحسن التدبير، والاقتناع بما رأت.
ومن هذه السياسة الحكيمة إسهام النبي لكل من لم يحضر الموقعة لتخلّفه في مصلحة عامة أو خاصة، وكذلك إسهامه لمن استشهدوا في بدر وإعطاء حقوقهم لورثتهم وذويهم، وبذلك كان للإسلام السبق في تكريم الشهداء ورعاية أسرهم وأبنائهم من قرابة أربعة عشر قرنا.
6- عدالة النبي التامة في أخذ الفداء من القادرين عليه، وعدم محاباته لذوي قرباه، بل كان الأمر على خلاف ذلك، فقد أغلا الفداء على عمه العباس، ولم يقبل أن يتنازل له أخواله من الأنصار عن شيء منه، وترك أمر صهره إلى خيار المسلمين، فمنّوا عليه لمّا رأوا زوجته السيدة زينب أرسلت في فدائه بقلادتها الغالية التي تحمل في نفسها أعظم ذكرى لأمها السيدة خديجة، وفضل خديجة على الإسلام مذكور مشكور، وقد دلّل المسلمون بصنيعهم هذا على حسّ مرهف، وشعور كريم، وإنسانية فائقة، وعلى حين فعل النبي هذا مع ذوي قرباه منّ على أناس لا يمتون إليه بصلة القربى لاعتبارات تدعو إلى ذلك.
7- أن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يجتهد فيما لم ينزل فيه وحي، وأنه إذا اجتهد في أمر من الأمور وسكت الوحي عن هذا الاجتهاد كان ذلك دليلا على موافقته الصواب والحق، واكتسب صفة إقرار الوحي لما أدّى إليه الاجتهاد، لأنه سبحانه حاشاه أن يقر نبيه على أمر يخالف الحق والصواب، أما إذا اجتهد النبي ولم يصادف الصواب نزل الوحي معاتبا ومبينا، وذاك كما حدث في هذه الغزوة.
فقد نزل قوله تعالى معاتبا: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... والنبي في كلتا الحالتين مأجور، لأن الإسلام يقرر أن من اجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، وهذا يدل على مبلغ تقدير الإسلام للاجتهاد والدعوة إليه، وتكريم المجتهدين، وهذا الذي ذهبنا إليه من أنه صلى الله عليه وسلم له أن يجتهد هو ما عليه جمهور العلماء والمحققون منهم، وهو الرأي الراجح المنصور.
8- حدوث بعض المعجزات النبوية الحسية في هذه الموقعة: فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن عكاشة بن محصن الأسدي حليف بني عبد شمس قاتل يوم بدر بسيفه حتى انكسر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا «1» من حطب، فقال: «قاتل بهذا يا عكاشة» فأخذه فهزّه فصار سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان يسمى «العون» ، ولم يزل هذا السيف عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله حتى استشهد على يد طليحة الأسدي أيام حروب الردة.
وكان النبي يشيد بشجاعة عكاشة هذا فيقول: «منا خير فارس في العرب» قالوا: ومن هو يا رسول الله؟ قال: «عكاشة بن محصن» فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك رجل منا يا رسول الله، فقال: «ليس منكم ولكنه منا للحلف» «2» وبحسبه شرفا هذا التقدير الكريم.
__________
(1) الجذل: ما عظم من أصول الشجر المقطّع، وقيل: هو من العيدان ما كان على مثال شماريخ النخل وهو المراد.
(2) الروض الأنف، ص 73، الجمالية.
وروى الواقدي بسنده في مغازيه عن رجال من بني عبد الأشهل قالوا:
انكسر سيف سلمة بن حريش يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب- نخل بالمدينة رطبها جيد-، فقال: «اضرب به» ، فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد «1» .
ومن ذلك ما أعلم به النبي عمه العباس لما اشتكى الفقر، وإخباره بما ترك من مال عند زوجته أم الفضل، وقوله لها: إن هلكت فهذا المال لبنيّ.
وما حدث به عمير بن وهب لما جاء متظاهرا بفداء ابنه، وهو يريد قتل النبي باتفاق مع صفوان بن أمية، فقد أنبأه نبأ المؤامرة، فكانت سببا في إسلامه وصدق إيمانه.
وما ينبغي لأحد أن يزعم أن المعجزات الحسية لا ضرورة إليها بعد القران، فها هي قد بدت اثارها واضحة جلية في إسلام البعض، وتقوية يقين البعض الاخر، وإثبات أنه نبي يوحى إليه، فقد أخبر بمغيبات انتفى في العلم بها كل احتمال إلا أنه خبر السماء، وغير خفي ما يحدثه انقلاب عود أو عرجون في يد صاحبه سيفا بتارا في إيمانه وتقوية يقينه، وجهاده به جهادا لا يعرف التردد أو الخور، وحرصه البالغ على أن يخوض المعارك بسيف خرقت به العادة، وصار مثلا وذكرى في الأولين والاخرين.
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 290. وفي البداية أبي عبيدة وهو خطأ والصحيح أبي عبيد، وهو أبو عبيد بن مسعود الثقفي وكان عبر الفرات إلى الضفة الاخرى لقتال الفرس على جسر، فلما قتل أبو عبيد جال المسلمون جولة ثم انهزموا، فقطع رجل الجسر حتى لا يفكر أحد من الجيش في الفرار، وكانت خطيئة ترتب عليها أن قتل كثير من المسلمين وتهافتوا في الفرات، ولولا موقف المثنى بن حارثة ومعه بعض أبطال المسلمين لكانت الهزيمة ساحقة ماحقة. (الإصابة، ج 4 ص 130؛ والاستيعاب، ج 4 ص 124) .