وقد فتر الوحي بعد ذلك فترة، وقد اختلف في مقدارها فقيل: كانت أياما، روى هذا ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس، وروي أن أقصاها أربعون يوما، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سنتان ونصف، وقيل: ثلاث سنين، ونسب هذا إلى ابن إسحاق، والذي في السيرة لابن هشام عن ابن إسحاق عدم التحديد بمدة «3» .
والذي أرجّحه وأميل إليه هو الأول، وأن أقصاها أربعون يوما، ويليه القول الثاني، وأما القولان الأخيران فإني أستبعدهما، فالفترة إنما كانت ليسترد النبي صلّى الله عليه وسلّم أنفاسه مما حدث له من ضغط جبريل، وما عراه من الهول والفزع لأول لقاء بين بشر وملك، وليحصل للنبي الشوق إلى لقاء جبريل بعد هذه الفترة.
أما أن يقضي النبي ثلاث سنين أو سنتين ونصف سنة من عمر الدعوة الإسلامية من غير وحي ودعوة فهذا ما لا تقبله العقول، ولا يدل عليه نقل صحيح، وفي هذه الفترة كان النبي يداوم الذهاب إلى حراء، وإلى ما جاوره
__________
(1) بقطعة من حرير فيها كتاب أي شيء مكتوب.
(2) البداية والنهاية ج 3 ص 13.
(3) السيرة لابن هشام ج 1 ص 241.
من الجبال عسى أن يجد هذا الذي جاءه بحراء حتى وصل جبريل ما انفصم، وعاد الوحي وتتابع.
,
وفي بعض روايات صحيح البخاري «1» : «ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما بلغنا «2» - حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدّى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك» .
وهذه الرواية ليست على شرط الصحيح لأنها من البلاغات، وهي من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف، والبخاري لا يخرج إلا الأحاديث المسندة المتصلة برواية العدول الضابطين، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي، الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة.
ولو أن هذه الرواية كانت صحيحة لأوّلناها تأويلا مقبولا، أما وهي على هذه الحالة فلا نكلف أنفسنا عناء البحث عن مخرج لها.
وأيضا فإن ما استفاض من سيرته صلّى الله عليه وسلّم يرد ذلك، فقد حدثت له حالات أثناء الدعوة إلى ربه أشد وأقسى من هذه الحالة، فما فكر في الانتحار بأن يلقي نفسه من شاهق جبل أو يبخع نفسه، وسترى فيما يأتي أنه لما عرض عليه عمه أن يكف عن قريش، ويبقي عليه وعلى نفسه، وكان عمه هو ناصره الوحيد من
__________
(1) كتاب التعبير- باب أول ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة.
(2) قال الحافظ في الفتح: «ثم إن القائل فيما بلغنا هو الزهري، ومعنى الكلام أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه القصة، وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا» قال الكرماني: وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور (فتح الباري ج 16 ص 12 ط الحلبي) .
أهله قال هذه القولة: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته» !! ونحن لا ننكر أنه صلّى الله عليه وسلّم قد حصلت له حالة أسى وحزن عميقين على انقطاع الوحي خشية أن يكون ذلك عدم رضا من الله، وهو الذي كان يهون عليه كل شيء من لأواء الحياة وشدائدها ما دام ذلك في سبيل الله، وفيه رضا الله، وهو القائل في ساعة من ساعات الكرب، والضيق، والشدة، لما ناله ما ناله من سفهاء ثقيف مخاطبا ربه: «إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي!!» .
كان يمكننا أن نقول: إنّ ظن حدوث غضب الله وسخطه تجوّز للمخلصين من عباد الله أن يهلكوا أنفسهم ويذهبوها ترضية لله، وخوفا منه، ولكنا لا نرى هذا لأن حالة الرواية كما سمعت، ولأنها تخالف المعروف المشهور من سيرته صلّى الله عليه وسلّم.
والتعليل الصحيح لكثرة غشيانه صلّى الله عليه وسلّم في مدة الفترة رؤوس الجبال وشواهقها، أنّ الإنسان إذا حصل له خير أو نعمة في مكان ما فإنه يحب هذا المكان، ويتلمس فيه ما افتقده، فلما انقطع الوحي صار صلّى الله عليه وسلّم يكثر من ارتياد قمم الجبال، ولا سيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل في حراء، فليجده في غيره، فراه راوي هذه الزيادة وهو يرتاد الجبال، فظن أنه يريد هذا، وقد أخطأ الراوي المجهول في ظنه قطعا.
وليس أدل على ضعف هذه الزيادة وتهافتها من أن جبريل كان يقول للنبي كلما أو فى بذروة جبل: «يا محمد إنك رسول الله حقا» وأنه كرر ذلك مرارا، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفي في تثبيت النبي وصرفه عما حدّثته به نفسه كما زعموا، وقد نحا إلى ما نحوت بعض كتاب السيرة المحدثين المسلمين «1» .
__________
(1) حياة محمد ورسالته، ص 70، 71.