حقيقة الزهد في الدنيا إنما هو في الترفع عن زخارفها، وعصمة النفس من التوسع فيها مع القدرة على ذلك، لا عن تعنت وتحريم لما أحل الله من الطيبات، ولكن عن تنزه أن يكون الإنسان عبد أهوائه وأسير شهواته وملذاته، وهذا هو زهد الأنبياء والمرسلين، والصدّيقين والصالحين. أما عدم التمتاع والتوسع فيها عن عجز وفاقة فلا يسمى زهدا.
وقد كان زهد رسول الله في الدنيا زهد القادر المستطيع، فقد أوتي مفاتيح خزائن الأرض، وأحلّت له الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبله، وفتح عليه في حياته بلاد الحجاز واليمن، وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجلب إليه من أخماسها وجزيتها وصدقاتها ما لا يحصى، وهاداه جماعة من الملوك، والأمراء، فما استأثر بشيء منه، ولا خرج عن طبيعته من التقشف والتقلّل في المأكل والمشرب، والملبس، والمسكن، إلى غير ذلك مما لا يعتبر التوسع فيه فضيلة.
روي عن عائشة: (أنه ربما يمر بهم الهلال والهلالان ولا يوقد لهم نار في بيت، وليس لهم طعام إلا الأسودان: الماء، والتمر) «1» . (وخرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وما أكل خبزا مرقّقا حتى مات) «2» .
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) رواه البخاري.
ومع هذا فقد كان يأكل اللحم، ويؤتى له بالشاة المصلية- المشوية- فيجتز منها بالسكين، ويحب الحلواء والعسل، ويذهب إلى بئر عذبة لأبي طلحة فيشرب منها، بل كان يستعذب له الماء من بيوت السّقيا على أميال من المدينة، وكان يلبس الغليظ والخشن من الثياب، ومع هذا يلبس البرود اليمنية، والجبب الشامية، وكانت له حلّة حسنة يستقبل بها الوفود ويحضر بها الأعياد والجمع.
وكل ذلك من غير سرف ولا مخيلة، فقد كان الغالب من أحواله التقلل والقصد، وهذه هي الفضيلة حقا، والنفوس الكبيرة هي التي تفرض سلطانها وإراداتها على الحياة، وتأبى أن يكون لشيء في الدنيا سلطان عليها، والتي تجد غناها من أنفسها لا من شيء خارج عنها، وفي القمة من هؤلاء أولو العزم من الرسل ولا سيما خاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام.
ومع كثرة ما جلب إليه من الفتوح والنصر لم يتحول عن خلقه، ولم يحتجز لنفسه ولا لأهله إلا ما يقوم بالضرورة، ولم يتأثّل مالا، بل صرفه في مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وكان يقول: «ما يسرني أن لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار، إلا دينارا أرصده لديني» «1» ، وأتته دنانير مرة فقسمها، وبقيت منها ستة فدفعها لبعض نسائه فلم يأخذه نوم حتى قام وقسمها، وقال:
«الان استرحت» ، فلا تعجب إذا كان «مات ودرعه مرهونة عند يهودي نظير ثلاثين صاعا من شعير» «2» .
وهكذا زهد في التوسع في الماكل والمشارب، ليشبع الناس، ولبس الخشن والغليظ ليكتسي الناس، وسكن في حجر من الطين واللبن ليجد الناس المسكن الذي يؤويهم، ويقيهم الحر والبرد، ولو أراد أن يكون له إيوان كإيوان كسرى، أو قصور كقصور الروم بالشام، أو التبابعة باليمن لفعل ولكن كيف؟! وهو المثل
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري.
الأعلى لكل من يأتي بعده من الخلفاء والملوك والأمراء، والقدوة الحسنة لكل من يقصد العدل والفضيلة في الحكم، والرخاء للأمم والشعوب.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو القدوة- مات على ما سمعت، وها هم ملوك المسلمين ورؤساؤهم وحكامهم يعيشون عيشة البذخ والإسراف، فما بالك لو أن رسول الله توسّع ولو بعض التوسع، وترك ولو بعض المال؟! لو كان لكان الحال أدهى وأعظم، والأمر أطمّ وأمرّ.