,
146- نشأ محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يتيما فقيرا، واجه الحياة بيتمه وفقره، ماتت أمه بالأبواء، بعد أن ولد يتيما من أبيه فأودع جده عبد المطلب فكفله بالرعاية، ولم يكن فى سن من يتحمل التبعة، ويقدر لمستقبله وإن كان يحس بالفقر، وإذا كان جده قد كلأه، وكفاه حاجته، وأغدق عليه بما يستطيع من خير، وأفاض عليه بمحبته التى تغذى عاطفته، ويجعله يعيش موادا غير مباغض، ولكنه عاش معه أمدا قصيرا، إذ توفى بعد سنتين من كفالته.
وبعد ذلك أخذ يواجه الحياة مع ضعف الصغر، ومع الفقر المرير، ذلك أن عمه أبا طالب الذى الت إليه كفالته كان ذا عيال، وكان مقترا عليه فى رزقه، وإن هذا الغلام الذى يعلو عقله على سنه، وإحساسه قوى يدرك ما حوله قد أدرك ما عليه حال عمه كافله ورفيقه وحبيبه، الذى أفاض عليه بمحبة غذت نفسه، فكان لابد أن يعمل عملا إن لم يغنه عن عمه، فإنه يعينه إلى حد.
__________
(1) الشفاء ج 11 ص 85.
اتجه ابتداء إلى رعى الغنم الذى تعوده وراه وهو فى بنى سعد، فرعى الغنم لبعض أهل مكة على أجرة يأخذها من لبنها، قراريط معلومة كخمس ما قدر أو نحو ذلك، وبها يستعين ويعين.
ثم كان من بعد ذلك يتجر فى قليل من المال، أو فى مال غيره حتى اشتهرت أمانته، ثم اتجر فى مال خديجة، وضاعفت له الأجر لما اشتهر به من أمانة وصدق، ولأن الربح تضاعف على يديه.
ثم كان الزواج، وكان المال الوفير، ولكنه لم يكن جماعا للمال كانزا له، فلم يعرف أنه تكونت له ثروة قط تقدر رأس مال، بل كان ينفق ما يدخر فى أوجه الخير، من صلة رحم، وإعانة محتاج، وإغاثة ملهوف، ومشاركة لذوى الحاجات فى شدائدهم ومعاونتهم على نوائب الدهر.
وبذلك يضرب محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الأمثال فى الزهد الإيجابي، وليس الزهد السلبى الذى هو زهد المحرومين، بل زهده هو زهد القادرين الذين يتخذون أسباب الكسب الطيب، ثم يزهدون فى ادخار المال إلا لحاجة بعد جمعه. وبذلك سار قبل البعثة، على ما بعثه الله تعالى من بعد ذلك بالنسبة للمال.
وبذلك نرى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى العمل الصالح فى طلب الرزق الحلال وفيرا، ولكنه لا يلهو به ولا يلعب، ولا يكنز الذهب والفضة، ولا يتفاخر بالخيل المسومة والأنعام والحرث، ولكنه ينفقها فى مصارفها من غير عبث ولا استعلاء، ولا تكاثر.
وإذا قيل أنه لم تعرف له أبواب النفقات فى حياته قبل البعثة نجيب عن ذلك بأن الكريم ينفق سرا، ولا ينفق علنا، وإن ذلك القدر المجمل عرف من ناحيتين: - إحداهما- قول خديجة أم المؤمنين فى خطابها له مطمئنة: «إنك تحمل الكل وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر، وتغيث الملهوف» وحسبنا ذلك لبيان هذا الإجمال.
الثانية- أنه لم يعرف له مدخر قط مع الاستقامة، والبعد عن الزخارف، مع كثرة الكسب، وما يدر عليه من مال خديجة أجرا له على استغلاله فى التجارة.
وإنه بهذا يتبين أن زهده قبل البعثة هو زهده من بعدها، طلب الكسب الحلال، لا ليدخر ويستكثر، بل لينفق منه فى مكارم الأخلاق، وإعانة الضعفاء، فهو يطلب ليعطى، ويكثر ليطعم غيره، وهو لا ينفق على نفسه وعلى أهله إلا القليل بالمعروف من غير خصاصة واضحة، ولا حرمان ظاهر، بل يتناول الحلال ويكتفى بأقله، ولا يحرم مما هو طيب حلال، وكذلك كانت الحال بعد أن بعثه الله تعالى نبيا.
149- إن زهد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذى وصل إليه بفطرته السليمة فى وسط الجاهلية هو أعلى درجات الزهد، ولنستعرض بعض كلام الصوفية فى الزهد الصوفى لنتعرف مقام زهد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن ينزل كتاب يرشده ويهديه، لقد قال ابن عطاء الله السكندرى فى حكمه: «للزاهد فى الدنيا علامتان: علامة فى فقدها (أى أسباب الشهوات) وعلامة فى وجودها، فالعلامة التى فى وجودها الانصراف عنها، والعلامة التى فى فقدها وجود الراحة منها، فالإيثار شكر لنعمة الوجدان، ووجود الراحة منها شكر لنعمة الفقدان» .
وزهد محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، كان أعلى من إيثار غيره بها عند وجودها، والراحة من فقدها، لأنه كان زهد العامل للحصول على أسباب اللذائذ، فإذا حصل عليها لا يختص بها، بل يؤثر غيره بها، ولا يتأتى زهد فقدانها، لأنه لا ينتظرها وجودا وفقدا، ولكن يعمل لوجودها لينفق على الفقراء وليمتاع غيره، فهو زهد إيجابى عامل، كما نوهنا. فليس زهد الحرمان الذى جاء من فلسفة الهنود، ولكنه زهد الكاسب الذى يكسب لغيره.. ويبقى لنفسه القليل الذى يقيم أوده، ويمكنه من استمرار الكسب لغيره. ولقد رتب الإمام أحمد رضى الله تبارك وتعالى عنه مراتب الزهد أدنى مراتبه ترك الحرام، والمرتبة الثانية ترك فضول الحل، بل يفطم نفسه عن بعضه، فهو يمنع عن نفسه بعض الحلال من غير تحريم، ولكن ليعودها احتمال الحرمان إن لم يجد بعض الحلال، فهو تهذييب وتربية، والمرتبة الثالثة وهى العليا ألّا يشغل نفسه عن ذكر الله تعالى بالاشتغال بالدنيا، واستغراقها لنفسه، وهو زهد العارفين.
ومحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان زهده أعلى من ذلك، لأنه كان مشغولا بذكره دائما فى كل عمل يعمله، وكل عبادة يؤديها، وكل فكرة يتفكر بها، وما كان يعمل لتعود ثمرة عمله على نفسه، بل لتعود على نفع غيره، فهو العابد فى كل حياته، ولا يعمل إلا الله، وإذا كان شغل النفس بذكر الله تعالى هو زهد العارفين، فزهد محمد صلى الله عليه وسلم أعلى منه.
,
150- كان زهد محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم امتدادا لزهده قبل البعثة، ولكنه بعد البعثة أخذ صورة أجل وأعظم، لأنه حمل أعباء الرسالة، فكان زهدا فى الاستعلاء بالسلطان، وزهدا معروفا عند كافة المؤمنين، ليكون أسوة حسنة فيما يطيقونه من زهده عليه الصلاة والسلام، وكان زهد العامل الذى يعمل فى كل ميادين الحياة، لا زهد من يعكف فى الصوامع، وكان يبث ذلك فى المؤمنين ويدعو إليه.
ولعل أظهر مظهر للزهد رفضه أن يكون ملكا كداود وسليمان وبعض الأنبياء، فقد روى ابن عباس أن الله تعالى أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل، فقال الملك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا نبيا» فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «بل أكون عبدا نبيا» (رواه البخارى) .
وكانت أوامر القران تدعو إلى الزهد فى الحرام ومنعه عن أمته كلها، ولكن الخطاب كان موجها ابتداء إليه عليه الصلاة والسلام، ولقد جاء فى كتاب البداية والنهاية لابن كثير:
«قال الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى «1» ، وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً «2» وقال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا، وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ «3» وقال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» والايات كثيرة.» . «5» .
وإن هذه النصوص كلها الخطاب فيها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه موجه إلى كل المؤمنين، ولا يختص به واحده، وهو يدل على أمرين: أولهما: الامتناع عن الحرام، وهذا زهد العوام ولذلك طولب به الناس جميعا. وثانيهما: أن الامتناع عن الحرام لا يكون بمجرد الامتناع المادى الواقعي، بل إنه لابد من البعد النفسى وتجنب أسبابه، ولذلك كان النهى متجها إلى الأسباب النفسية، فقال تعالت كلماته: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وكأن الدعوة إلى ملازمة الذين ينصرفون عن الشهوات إلى الله سبحانه وتعالى والاتجاه إليه، وألا يخالط الذين يجترحون الشهوات، فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فعشرة الذين يتجهون إلى الله تعالى فى غدوهم ورواحهم، وفى غدوتهم وعشيتهم تربى فى النفس معنى الاستبعاد عن الحرام والاتجاه إليه سبحانه وتعالى.
وإننا نجد زهد محمد عليه الصلاة والسلام يشتد كلما تمكن من المال، وكلما اتسع سلطانه، وكلما كثرت تكليفاته وكلما أقدم على الشدائد، لأنه يرى أن تحمل مصائب الحرب وشدائدها إنما يكون ابتداء بتربية للنفس وحملها على ترك اللذائذ، أو القدرة على تركها، وما كان يدعو أمته بذلك
__________
(1) سورة طه: 131.
(2) سورة الكهف: 28.
(3) سورة النجم: 29، 30.
(4) سورة الحجر: 87، 88.
(5) البداية والنهاية ج 6 ص 48.
بلسان القول، بل كان يدعو بلسان الفعل، ولسان الفعل فى هذه الحال أجدى فإنه لا يصح أن تكون الدعوة إلى التقشف اتية ممن يرفل فى الدمقس والحرير، إذ تكون حاله مناقضة لمقاله، فلا يسمع له قول، ولا يقبل منه كلام.
151- إن النبى عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة كان يحمل كل ضعفاء المؤمنين، فما يكون له من كسب من تجارته فى مال أم المؤمنين خديجة ينفقه على الضعفاء من المؤمنين، وهم أول من اتبع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد امتنع المشركون عن إطعام الضعفاء وخصوصا الذين يؤمنون، بل أرهقوهم عذابا وعسفا وهوانا، وكان يواسيهم بالعطاء وطلب الصبر، والفرج القريب إن شاء الله تعالى، لا يألو جهدا إلا بذله، وهو يكتفى بالقليل من العيش الذى يقيم أوده، ليتحمل عبء الدعوة، والقيام بحقها.
ولما هاجر إلى المدينة، وانشغل بالإسلام عن التجارة التى كانت المرتزق له، ويظهر من مجرى التاريخ أنه قد أنهاها قبل الهجرة، وربما يكون قد صفاها بعد وفاة أم المؤمنين خديجة رضى الله تبارك وتعالى عنها، وصار رزقه من بيت المال الذى يعمل فيه، إذ هو العامل الأول، وله الاستيلاء على خمس الغنائم بمقتضى الولاية العامة الإسلامية كما قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» .
عندما صارت نفقته من بيت المال، أو من الغنائم، وإنها لتكون بأشق جهد يبذله وأعظمه. علا زهده عليه الصلاة والسلام فى المال والعيش الرغيد، ولولا قيام الأود، وأنه لابد من لقيمات يقمن صلبه، لزهد حتى فى اللقمة القفار.
كان عليه الصلاة والسلام ينام على الحصير، حتى يؤثر فى بدنه الكريم، ويروى عن ابن مسعود أنه قال: «إنه عليه الصلاة والسلام نام على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه، وأقول ألا اذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك تنام عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: «مالى وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة، ثم راح وتركها» .
وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوسد بحشية من ليف، وراه عمر بن الخطاب، وهو على مثل هذه الحال، فبكي، فقال له النبى الزاهد: وما يبكيك؟ فقال عمر: ومالى لا أبكى، وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على هذه الحال التى أرى، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: يا عمر، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الاخرة، قال: بلى، قال: هو كذلك.
__________
(1) سورة الأنفال: 41.
,
152- فى الصحيحين البخارى ومسلم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «اللهم اجعل رزق ال محمد قوتا» هذه دعوة محمد عليه الصلاة والسلام إلى ربه، ولا ندرى أهى دعوة الاستجابة لها توفير القوت لال محمد عليه الصلاة والسلام، أم هى دعوة للاقتصار على القوت الضروري، وتحمل ال محمد عليه الصلاة والسلام ذلك، والصبر عليه والرضا به، والقناعة الراضية الكافية التى لا يطلب معها غيرها؟ أجيب أن الاستجابة تكون بهما، أى بتوفير القوت الضرورى وأن يلقى الله تعالى فى قلوب ال محمد عليه الصلاة والسلام من الأزواج الطاهرات، ومن يلوذ به من أسرته الرضا به، والصبر عليه، وأن تكون الأسرة كلها فى زهد ربها، تحتمل ما يحتمل، وتصبر على ما يصبر، لتكون أسوة لغيرها، ولكيلا يكون من بعضهن من يطمع فى المال الذى يساق، ويكون تصرف رب هذه الأسرة الزاهد كذلك.
ولقد كان كذلك، فقد روى الإمام أحمد أن أبا هريرة يقول: «ما شبع نبى الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا» أى أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يرى أن من التنعم أن يأكل من خبز القمح ثلاثة أيام متتابعة، بل كان الشعير غالب طعامه عليه الصلاة والسلام، وقد يكون معه التمر.
ولقد قالت أم المؤمنين عائشة: «ما شبع ال محمد عليه الصلاة والسلام من خبز، حتى قبض، وما رفع من مائدته كسرة قط» . ومن هذا الخبر يستفاد أنه ما كان يقدم له على مائدته إلا ما يكفى بلا زيادة تفضل عنه.
ولقد كان لا ينفى عن الخبز نخالته، بل كان يأكله من غير نخل، فقد قالت الصديقة بنت الصديق: «والذى بعث محمدا بالحق: ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا قط منذ بعثه الله تعالى عز وجل، إلى أن قبضه» .
وما كانوا يأدمون الطعام دائما، بل كانوا يأكلون فى كثير من الأحيان الخبز قفارا غير مأدوم، وقد قالت أم المؤمنين عائشة: فيما رواه الشيخان البخارى ومسلم عن عروة بن الزبير أنها قالت: «إن كنا ال محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد نارا، إنما هما الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله بلبن منائحهم، فيشرب، ويسقينا من ذلك اللبن» .
وهكذا نجد استجابة الله تعالى لرسوله الكريم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل رزقه واله قوتا، ولكنه من أدنى القوت ليكون قدوة للمسلمين، وليكون غذاء لفقرائهم، ولكيلا ترمض نفس بحرمان، ولكيلا يأسوا على ما يفوتهم من وفرة الرزق، وأسباب النعيم والعيش الرافغ فى هذه الحياة.
ولكن يلاحظ أنه لم يحرم على نفسه صنفا من فاكهة، أو طعاما من أطعمة أهل الترفه والنعيم، بل يقبل كل الحلال، ولكنه يكتفى بالأدنى دائما فاطما النفس عن أهوائها وملاذها، تقوية لها، ولتكون الإرادة الحاكمة بسلطان العقل هى المسيطرة، ولا تكون النفس أمة ذلولا للأهواء والشهوات بل تكون سيدة مطاعة، حاكمة عليها غير محكومة بها.
153- ومع هذه الزهادة التى التزمها، وأخذ نفسه بها ما كان يدعو الناس إليها، لأنهم لا يطيقونها، ولأنه الذى أمر المؤمنين بألا يفعلوا إلا ما يطيقون غير مسرفين على أنفسهم، إذ يقول: «إن هذا الدين لن يشاده أحد إلا غلبه ولكن سددوا وقاربوا» .. فهو عليه الصلاة والسلام يأخذ نفسه بزهد لا يأخذ به غيره لكيلا يرمض فقير بفقر، ولا ذو قل بقله.
ولقد روى أبو داود فى سننه أن سائلا سأل بلالا مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائلا: حدثنى كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ما كان له شيء من ذلك إلا أنا الذى كنت ألى ذلك منه منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي، فكان إذا أتاه المسلم فراه عائلا يأمرنى فأنطلق، فأشترى له البردة، والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضنى رجل من المشركين، فقال لى: «إن عندى سعة، فلا تقترض إلا منى ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك فى عصابة من التجار، فلما رانى قال لى «يا حبشى» قلت: يا لبيه، فتجهمني، وقال قولا عظيما غليظا، وقال: أتدرى كم بينك وبين الشهر! قلت: قريب. قال إن بينك وبينه أربع ليال، فاخذك بالذى لى عليك، فإنى لم أعطك الذى أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير لى عبدا، فأذرك ترعى فى الغنم كما كنت قبل ذلك. قال بلال: فأخذنى فى نفسى ما يأخذ أنفس الناس، فانطلقت، فناديت بالصلاة حتى إذا صليت العتمة، ورجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لى فقلت يا رسول الله بأبى أنت وأمى، إن المشرك الذى ذكرت لك أنى كنت أتدين منه قال كذا وكذا، وليس ما يقضى عنى ولا عندى وهو فاضحي، فأذن لى أن اتى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يقضى به عني، فخرجت حتى أتيت منزلى، فجعلت سيفى وحرابى ورمحى ونعلى عند رأسى، فاستقبلت وجهى الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت رجلا نمت حتى اتسق عمود الصبح الأول. فأردت أن أنطلق، فإذا إنسان يدعوني، يا بلال أجب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فانطلقت حتى اتيه، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فاستأذنت، فقال لى رسول الله: أبشر فقد جاءك الله بقضاء دينك فحمدت الله وقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع قلت: بلي، قال:
فإن لك رقابهن وما عليهن. فإذا عليها كسوة وطعام أهداهن إليه صاحب فدك، قال: فاقبضهن إليك، ثم اقض دينك، ففعلت فحططت أحمالهن، ثم علقتهن ثم عمدت إلى تأدية صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعى فى أذنى فقلت: من
كان يطلب من رسول الله عليه الصلاة والسلام دينا، فليحضر، فمازلت أبيع وأقضي، وأعرض حتى لم يبق على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دين فى الأرض حتى فضل عندى أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد، وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله عليه الصلاة والسلام قاعد فى المسجد واحده، فسلمت عليه، فقال لى: ما فعل الله قبلك؟ قلت: لقد قضى الله كل شيء كان على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلم يبق شيء. قال: فضل شئ قلت نعم ديناران، قال: انظر أن تريحنى منهما، فلست بداخل على أحد من أهلى حتى تريحنى منهما فلم يأتنا أحد، وظل فى المسجد حتى اليوم التالي، حتى إذا كان اخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما، وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني، فقال: ما فعل الله تعالى قبلك؟. قلت: قد أراحك الله تعالى منهما- فكبر وحمد الله تعالى شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته» «1» .
154- سقنا هذا الخبر مع طوله، لأنه يدل أولا: على زهادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم المطلقة التى لا يدخر فيها فى بيته. ويدل ثانيا: على أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يحمل أعباء العائلين من صحابته، يعينهم حتى يبعد عنهم ذل الحاجة، ويحميهم من رق الدين، ويدل ثالثا على أنه إذا لم يستطع أن يعطى أمرهم بأن يستدينوا عليه.
ويروى فى ذلك الترمذى بسنده أن رجلا جاء إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله أن يعطيه. فقال: ما عندي ما أعطيك، ولكن اذهب فابتع علي شيئا، فإذا جاءني شيء قضيته، فقال عمر بن الخطاب، يا رسول الله ما كلفك الله تعالي ما لا تقدر عليه، فكره النبي عليه الصلاة والسلام قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلي الله عليه وسلم وعرف التبسم في وجهه لقول الأنصارى.
ولقد كان ما يجرى علي النبي عليه الصلاة والسلام يجرى على نسائه، فيتحملن راضيات فى أكثر الأحيان.
ويروي أن امرأة من الأنصار دخلت علي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فرأت علي فراش رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم عباءة فانطلقت لتبعث إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك، فذهبت، وبعثت بهذا، فقال: رديه، فلم أرده، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتي قال ذلك ثلاث مرات قالت فقال: رديه يا عائشة فو الله لو شئت لأجري الله معى جبال الذهب والفضة.
__________
(1) تاريخ الحافظ ابن كثير نقلا عن الشمائل لأبى داود ص 56 ج 6.
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يدخر لغده شيئا يسارع إليه الفساد، وقد روى الإمام أحمد أنه أهديت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدية فأطعم خادمه طائرا، والظاهر أنه أكل هو طائرا، وبقى طائر، فلما جاء الغد أتى به، فقال لأنس خادمه: «ألم أنهك أن تبقى شيئا لغد» .
ولما أفاء الله على رسوله نخيل بنى النضير، كان يدخر منها فكان يعزل لأهله من تمرها، ما يكفى سنة، ثم يكون الباقى مما ينفق فى الخيل والجمال مما يعد للحرب، وفى السلاح الباقي، صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام لا يدخر ذهبا ولا فضة حتى أنه كان وهو مريض مرض الموت عنده سبعة دنانير أو ستة، فما زال بأهله حتى تخلص منها. وروى أنه كان له فى مرض موته قطعة ذهب صغيرة عبروا عنها بأنها ذهبية، فتصدق بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى يخرج من الدنيا، وليس له شيء، ولا عليه شيء، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «نحن معشر الأنبياء لا نورث» .
155- كان ال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه يحملهن ما يحتمل، لأنهن اله، والسعة عليهن قد تعود بالسعة عليه، فسدا للذريعة كن يتحملن ما يتحمل.
ولكن يظهر أنهن طالبنه مرة بما ليس عنده، وضاق بهن ذرعا، فالى عليهن بأن حلف ألا يدخل عليهن شهرا، واعتزل عنهن، وسكن علية من داره، فدخل عليه عمر، وإذا هو مضطجع على حصير، قد أثر فى جسمه عليه الصلاة والسلام، فهملت عينا عمر، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك، فقال:
أنت صفوة الله تعالى من خلقه وكسرى وقيصر فيما هما عليه، فجلس عليه الصلاة والسلام محمرا وجهه فقال: «أو فى شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الاخرة»
وقد عتب الله تعالى على نبيه أن حرم عليه أزواجه شهرا، فقال تعالي: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما، وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ، وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ.
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «1» .
__________
(1) سورة التحريم: 1- 5.
ولقد كانت شكواهن من أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذهن بما أخذ به نفسه، وإن كان أخف ولكنه فى كلتا الحالتين دعا ربه أن يكون رزق ال محمد صلّى الله عليه وسلّم قوتا، لا يتجاوزه إلى رافغ الحياة وفاكهها، ولذلك حلف بما حلف تأديبا وتجربة، ومحبة أيضا، وبعد أن مضى الشهر الذى حلف ألا يقربهن فيه، لم يعد إليهن إلا بعد تخيير صريح يقبلن فيه أن يكون رزقهن قوتا لا نعيم فيه، إلا بالحلال، وبين أن يسرخهن بالمعروف، وذلك بأمر صريح من الله سبحانه وتعالى إذ قال سبحانه:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ، وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً، نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً. يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً
«1» .
نفذ محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه أمر ربه بالتخيير ليخترن، وابتدأ بأحب نسائه إليه ابنة صديقه وصفيه أبى بكر الصديق رضى الله عنه، عائشة، فقال لها: إنى ذاكر أمرا، فلا عليك أن تعجلى حتى تستأمرى أبويك، وتلا عليها هذه الايات فقالت: أفى هذا أستأمر أبوىّ، فإنى أختار الله ورسوله والدار الاخرة، وكذلك قال سائر أزواجه عليه الصلاة والسلام، وبذلك اخترن عيشة النبى عليه الصلاة والسلام الزاهدة، فكن جديرات بمحمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وسيد الزاهدين.