وأما الشجاعة والنجدة، والقوة والثبات في وجه الموت، فقد كان صلى الله عليه وسلم منها بالمكان الذي لا يجهل، والمنزلة التي لا تدفع، وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة ابن يزيد فصرعه، وما صرعه أحد قط، فكان هذا سبب إسلامه. وقد حضر المواقف المشهورة، وفرّ الكماة والأبطال عنه غير مرة وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، وما من شجاع إلا وقد أحصيت له فرّة، وحفظت عنه جولة «1» سواه.
ولعلك على ذكر مما ذكرناه عن ثباته في أحد، وحنين، ووقوفه في فم الموت في بدر وغيرها. عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فاستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت على فرس لأبي طلحة في عنقه السيف وهو يقول: «لم تراعوا، لم تراعوا» ) «2» .
وقال علي رضي الله عنه: (إنا كنا إذا حمي البأس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسا) «3» وأعظم بها من شهادة من مثل علي!!.
__________
(1) في القاموس: وجال القوم جولة: انكشفوا ثم كروا، فالمعنى تقهقر وانكشاف.
(2) رواه الشيخان.
(3) رواه أحمد.
وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شجاعته وبطولته الجسمانية الشجاعة النفسية والبطولة الروحية، وإنا لنلمس هذا في قوله لعمه أبي طالب وقد قال له:
(يا ابن أخي أبق علي وعلى نفسك) فظنّ أن عمه خاذله، فقال قولته المشهورة:
«والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته» وأخذت هذه العظمة النفسية بنفس أبي طالب وبهرته، فما كان منه إلا أن قال له: (اذهب فقل ما أحببت، فو الله لن أسلمك لشيء أبدا!!) وفيما قدمناه في كتابنا من شجاعة النبي وبطولته الشيء الكثير.
ومع هذه الشجاعة الفائقة قد كان رؤوفا رفيقا بالناس رحيما بهم، رقيق القلب، تجري دموعه رقة ورحمة، فقد كان إذا رأى سيدنا مصعب بن عمير، وهو يلبس خلق الثياب، مع أنه ترعرع في أحضان النعيم، ولكن اثر الشقاء مع الإيمان، على النعيم في الكفر- بكى!!.
ولما أذن الله في زيارة قبر أمه، «بالأبواء» بكى وأبكى من حوله، ولما مات ولده إبراهيم بكى وقال: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون» ، ولما قال له عبد الرحمن بن عوف، وقد راه يبكي: (وأنت يا رسول الله؟!) قال: «يا ابن عوف، إنها رحمة» !! ولما ذهب النبي وأصحابه إلى سعد بن عبادة يعوده في مرضه، وقد غشي عليه، فبكى، وبكى معه أصحابه، وقال: «إن الله لا يؤاخذ بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يؤاخذ بهذا» وأشار إلى لسانه، وقال في موقف اخر: «إنها- الدمعة- رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» «1» .
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب الجنائز- باب البكاء عند المريض، وباب يعذب الميت ببكاء أهله عليه.