لما انتصر المسلمون ببدر حرك هذا الأحقاد في نفوس الأعداء ولا سيما اليهود، وصاروا يرجفون بالمدينة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بالحسنى ويدعوهم إلى ترك المعاندة والدخول في الإسلام، فذهب رسول الله إلى يهود بني قينقاع، وجمعهم في سوق لهم، ثم قال: «يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» .
فقالوا: (يا محمد لا يغرّنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحروب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس) ، وتمادوا في غيهم، فأنزل الله في شأنهم محذرا قوله تعالى:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ.
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ ... الاية «1» .
يريد سبحانه فئتي المؤمنين والكافرين في بدر فلم يرعووا.
,
وتمادوا في الشر ولم يعبأوا بالقيم الخلقية، والتقاليد الكريمة العربية، ذلك أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع؛ ثم جلست إلى
__________
(1) سورة ال عمران: الايتان 12، 13.
صائغ هناك منهم، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى عمل مشين، فقد عقد طرف ثوبها إلى ظهرها وهي لا تشعر؛ فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت واستغاثت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، فتجمع اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين فغضب المسلمون ووقع الشر بينهم وبين اليهود.
ولا تنس ما لهذا العمل الدنيء من إثارة النفوس العربية التي جبلت على حماية الأعراض، وصيانة النساء من مثل هذا العبث، والاستهانة بكل شيء في سبيل الشرف والكرامة.
,
لذلك لم يجد النبي بدا من غزوهم وقد نقضوا العهد بهذه الفعلة النكراء، وأخبرهم بنقض العهد الذي كان بينه وبينهم تأدبا بأدب القران في هذا حيث يقول:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «1» .
ثم حاصرهم خمس عشرة ليلة حتى نزلوا على حكم الله ورسوله، فاستشار الرسول كبار أصحابه فأشاروا بقتلهم، وكان لهم حليفان: عبد الله بن أبيّ المنافق، وعبادة بن الصامت، فأما عبادة فقد تبرأ إلى الله ورسوله منهم وقال: (يا رسول الله، أتولّى الله ورسوله وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم) «2» . وأما ابن أبي فقال: (يا محمد أحسن في موالي) ، فأعرض عنه الرسول، ثم كرر مقالته والرسول يعرض عنه، وما زال يلح على الرسول ويقول: (إني أخشى الدوائر) ، حتى قبل شفاعته فيهم على أن يخرجوا من المدينة ولهم النساء والذرية وللمسلمين الأموال.
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 58.
(2) هذا هو الصحيح لا ما ذكره الدكتور هيكل في كتابه «حياة محمد» ، ص 274 من أنه حدث النبي بحديث ابن أبي وشفع فيهم.
ووكل رسول الله عبادة بن الصامت بإجلائهم وأمهلهم ثلاث ليال، فذهبوا إلى أذرعات على حدود الشام، وبذلك أزال الله سبحانه عن المسلمين شر شوكة من الشوكات الثلاث التي كانت في ظهورهم انذاك، وكان ذلك في أوائل سنة ثلاث وقيل في شوال سنة ثنتين للهجرة.
وفي شأن ابن أبي وموالاته لهم، وعبادة بن الصامت وبراءته منهم أنزل الله ايات كريمة، لتكون درسا للمسلمين يعلمهم من يوالون، ومن لا يوالون فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1» يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ «2» . إلى قوله تعالى:
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ «3» .
يعني عبادة بن الصامت ومن على شاكلته من المؤمنين.
__________
(1) مرض: نفاق، والمراد عبد الله بن أبي وأصحابه.
(2) سورة المائدة: الايتان 51، 52.
(3) سورة المائدة: الاية 55.