وكان مالك بن عوف قد سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، فأعدوا أنفسهم، وكمنوا في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى نزلوا بالوادي في عماية الصبح، وإنهم لكذلك إذ شدت عليهم قبائل هوازن وثقيف شدة رجل واحد، وخرج من كان مستترا في شعاب الوادي ومضايقه، وأمطروهم بالسهام، فاختلط أمر المسلمين وأذهلتهم المفاجأة، فلووا أعنة خيلهم وأزمة إبلهم متقهقرين لا يلوون على أحد حتى وصلت فلول المنهزمين إلى مكة.
,
«1» في جمادى الأولى من عام ثمان الموافق سنة 629 م جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا للقصاص ممن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول الله إلى أمير بصرى، داعيا له إلى الإسلام، وقيل: إن النبي كان أرسل سرية إلى ذات الطلح على حدود الشام يدعون إلى الإسلام، فكان جزاؤهم القتل، ولم ينج منهم إلا رئيسهم بعد أن ظنوا أنه مات. وأمر على الجيش زيد بن حارثة، وقال:
«إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة» ، وسار الجيش وعدته ثلاثة الاف من المهاجرين والأنصار بعد أن ودعهم المسلمون قائلين: صحبكم الله، ودفع عنكم؛ وردكم إلينا سالمين.
وخرج رسول الله يشيّعهم ويوصيهم قائلا: «اغزوا باسم الله؛ قاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة ولا صغيرا، ولا شيخا فانيا، ولا تقطعوا شجرا، ولا تهدموا بناء....» .
ثم مضوا في سبيل الله حتى وصلوا (معانا) من أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل (ماب) في أرض الشام في مائة ألف من الزوم وانضم إليهم مائة ألف أخرى من متنصّرة العرب من: لخم وجذام والقين وبهراء وبلي.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على (معان) ليلتين وقالوا: نكتب إلى رسول الله نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره
__________
(1) مؤتة: مهموزة الواو، وحكى غير الهمزة، قرية من أرض البلقاء بطرف الشام.
فنمضي له، فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة.
فتشجع الناس وقالوا: صدق ابن رواحة، وسار الجيش الإسلامي تحدوه الرغبة في إعزاز دين الله وحب الشهادة، حتى التقوا بجموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء (مشارف) فانحاز المسلمون إلى مؤتة وتحصنوا بها.
,
والتقى الجمعان غير المتكافئين عددا وعدة، وقاتل المسلمون قتال الأبطال، وصمدوا أمام هذا الجيش العرمرم، وقاتل زيد بن حارثة حامل اللواء حتى استشهد، فولي القيادة جعفر بن أبي طالب وحمل اللواء؛ وكان على فرس له شقراء، فنزل عنها وعقرها، وتقدم يقاتل وهو يحمل اللواء ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إن لاقيتها ضرابها
وكان جعفر يحمل اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى ضربه رجل من الروم ضربة فقطعته نصفين، فاستشهد وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة بعد أن خط في كتاب البطولة الإسلامية سطورا مشرقة، وكان جزاؤه من ربه أن أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، ولما التمس في القتلى وجد به بضع وتسعون جرحا. وكان ابن عمر إذا حيّ ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
فأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم تقدم بها في جموع الروم وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد وهو يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... لتنزلنّ أو لتكرهنّه
إن أجلب الناس وشدوا لرنّة ... مالي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنّه «1»
ويقول:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
وما زال يتقدم باللواء ويقاتل حتى قتل شهيدا رضي الله عنه.
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، فقال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد المخزومي، فلما أخذ الراية قاتل قتال الأبطال حتى اندقت في يده تسعة أسياف، وما صبرت معه إلا صحيفة يمانية، واستعمل دهاءه وحنكته الحربية حتى انحاز بالجيش، وأنقذه من هزيمة منكرة كادت تقع، وكان الليل قد أقبل، فانتهز خالد هذه الفرصة وغير نظام الجيش، فجعل المقدمة ساقة، والساقة مقدمة، والميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، وصف صفا طويلا وراء الجيش، فلما أصبح الصباح أنكرت الروم ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وسمعوا من الجلبة، وقعقعة السلاح، ما قد ظنوا معه أنهم جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا، وما زال خالد يحاورهم ويداورهم، والمسلمون يقاتلونهم في أثناء انسحابهم بضعة أيام حتى خاف الروم أن يكون هذا استدراجا لهم إلى الصحراء، فتحاجز الفريقان وانقطع القتال.
,
وقد أبلى البطل خالد وأصحابه الأبطال بلاء حسنا في هذا اليوم، وبفضل ثباتهم وشجاعتهم تبدلت هزيمتهم نصرا، وأيّ نصر يرجى أكثر من صمود جيش تعداده ثلاثة الاف أمام جيش تعداده مائتا ألف، وانسحابهم وهم موفور والعدد محفوظو الكرامة، وإنه لشيء نادر في تاريخ الحروب أن يقف جندي واحد أمام
__________
(1) أجلبوا: صاحوا. الرنة صوت ترجيع شبه البكاء. النطفة: الماء القليل الصافي. الشنة: السقاء البالي، فيوشك أن تهراق أو ينخرق السقاء، وضرب ذلك مثلا لنفسه في جسده.
سبعين من الجنود المدججين بالسلاح، ولكنه الإيمان الذي يصيّر من الجبناء شجعانا، ومن الشجعان أبطالا، ولعل مما يثير العجب أن جميع من استشهد من المسلمين في مؤتة ثمانية، وقيل اثنا عشر.
,
وأطلع الله سبحانه رسوله على ما جرى فقام على المنبر فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم» «1» . ومن يومها قد عرف خالد بسيف الله المسلول، وفي رواية ابن إسحاق:
«ولقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى» ، ويا لها من عبرة!! فإذا كان بعض التردد من الشجاع المغوار ابن رواحة قد جعله في منزلة دون صاحبيه، فما بالك بمن ينكص على عقبيه مؤثرا الحياة على الشهادة، طمعا في جاه أو مال أو عرض من أعراض الحياة؟!! إن مثله لا يقام له عند الله وزن وإن عرض عند سواد الناس جاهه، وبذّ مال قارون ماله.
,
وخرج الرسول والمسلمون للقاء الجيش، فجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون لهم يا فرّار، فررتم في سبيل الله، ولكن الرسول العليم ببواطن الأمور، والمقدّر لموقف الجيش قال لهم: «ليسوا بالفرّار، ولكنهم الكرّار إن شاء الله» .
,
ومع منافحة الرسول عن أصحاب مؤتة قد اعتزل بعض المسلمين في بيته خشية سماع هذه الكلمة الثقيلة على أسماع المؤمنين الشجعان «يا فرّار» . روى
__________
(1) رواه البخاري.
ابن إسحاق عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت:
ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرّار، فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته ما يخرج. وهذا يدل على مبلغ ما وصل إليه الخلق الإسلامي انئذ من حب البطولة وإيثار الشهادة في سبيل الله على الفرار، والاستحياء من المثالب والمساوىء، وتقدير للقيم الخلقية، والمعاني الأدبية.
,
لما أصيب جعفر دخل رسول الله على أسماء بنت عميس فقال: «ائتني ببني جعفر» ، فأتت بهم فشمّهم وقبلهم وذرفت عيناه، فقالت أسماء: أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: «نعم، أصيبوا هذا اليوم» ، فجعلت تصيح وتولول فقال النبي: «لا تغافلوا عن ال جعفر أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» ، وهذا هو الأصل في صنع الطعام لأهل الميت لا ما يصنعه بعض الناس اليوم بقصد التفاخر والمقابلة بالمثل، وقد لا يصيب أهل الميت منه شيء.
ولما قارب الجيش المدينة تلقّاهم الصبيان يشتدون ورسول الله مقبل مع الجيش على دابة له فقال: «خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر» ، فأتي بعبد الله فحمله بين يديه، وبعد ثلاث دخل على أسماء وقال لها: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي» ، فجيء بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق فحلق لهم رؤوسهم ثم قال: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي» ، ثم أخذ بيمين عبد الله وقال: «اللهمّ اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه» ، (ثلاثا) . ولما ذكرت له أمهم يتمهم وضعفهم قال لها: «العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والاخرة» رواه الإمام أحمد.
وهذا غاية ما ينتظر من تكريم أبناء الشهداء، وبذلك وضع الرسول الكريم الأساس الصالح لهذا التقليد الشريف.
,
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن فأتاه رجل فقال: أي رسول الله، إن نساء جعفر- وذكر بكاءهن- فأمره أن ينهاهن، فذهب الرجل ثم أتى فقال: والله لقد غلبننا، فقال رسول الله: «فاحث في أفواههن من التراب» .
,
ورثت أسماء زوجها فقالت:
فاليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتى ... أكرّ وأحمى في الهياج وأصبرا
فلما انقضت عدتها خطبها الصدّيق رضي الله عنه فتزوجها فأولم عليها، وكان في الناس علي بن أبي طالب، فلما ذهب الناس استأذن عليّ أبا بكر في أن يكلم أسماء من وراء الستر فأذن له، فلما اقترب من الستر نفحه ريح طيبها فقال لها- متباسطا معها-: من القائلة:
فاليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فقالت: دعنا منك يا أبا الحسن فإنك امرؤ فيك دعابة. فولدت للصديق ابنه محمدا، ثم لما توفي الصدّيق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، فولدت له أولادا رضي الله عنهم أجمعين.