كانت خديجة- رضي الله عنها- سيدة تاجرة ذات شرف، ومال، وتجارة تبعث بها إلى الشام. وكانت تستأجر الرجال، وتدفع إليهم المال مضاربة «2» . وكانت قريش قوما تجّارا، ومن لم يكن تاجرا فليس عندهم بشيء.
وكان النبي قد ناهز العشرين من عمره المبارك، وأصبح شابا جلدا قويا، أعز الطالع، ميمون النقيبة، يزين شبابه الغض ما يتمتاع به من حلو الشمائل، وكرم الأخلاق: من أمانة، وصدق حديث، وعفة، وعزوف عما ينغمس فيه أمثاله من الشباب من لهو ومجون، فكان ذلك مما وجّه نفس السيدة خديجة إلى أن يعمل لها في تجارتها، فأرسلت إليه، فلما جاء إليها قالت له: دعاني إلى طلبك
__________
(1) المعتر: الزائر من غير البلاد.
(2) يعني يعملون لها في التجارة ولهم نصيب من الربح.
ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، فذكر ذلك لعمه أبي طالب، فقال له: إن هذا لرزق ساقه الله إليك.
وفي رواية أخرى أن أبا طالب هو الذي عرض على النبي أن يعمل لها في تجارتها، وأنها- ولا شك- ستفضله على غيره، وأن أبا طالب هو الذي سعى إليها، وقال لها: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولن نرضى لمحمد إلا بأربعة أبكار، فقالت هذه الكلمة التي تنم عن تقدير صادق، وحس مرهف، وشعور يفيض بالحب والحنان: لو طلبت هذا لبغيض بعيد لأجبتك، فكيف، وقد طلبته لحبيب قريب!!
فرجع الشيخ أبو طالب مغتبطا، وحدّث ابن أخيه بما سمع، ولا تسل عما كان لهذه الكلمات الصادقة من أثر في نفس النبي الشاب.
,
ثم خرج النبي بتجارة خديجة إلى الشام وكانت سنّه تخطو إلى الخامسة والعشرين، وكان خروجه لأربع عشرة ليلة من ذي الحجة ومعه غلام خديجة (ميسرة) ، حتى وصل سوق (بصرى) في رواية، وسوق حباشة «1» في رواية أخرى بتهامة، فنزل تحت ظل شجرة في سوق بصرى قريبا من صومعة راهب يسمى (نسطورا) «2» فقال: يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟
فقال: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة- وفي رواية بعد عيسى- إلا نبيّ!!.
ولا تسل عما غمر نفس ميسرة من حب، وتقدير، وإكبار لسيده محمد، لقد رأى تظليل الغمام له في مسيره هذا، ولمس عن كثب الكثير من أخلاقه،
__________
(1) بضم الحاء المهملة، وفتح الباء المواحدة، فألف، فشين معجمة، فتاء تأنيث، قال في الروض الأنف: سوق من أسواق العرب.
(2) بفتح النون وسكون السين، وضم الطاء وألف مقصورة.
وبره، وعطفه، وحسن معاملته، وأمانته، وسمع من نسطورا ما سمع، فلا عجب إذا كان حدّث سيدته بعد عودته بما رأى وما سمع، وما وجده منه من حسن الخلق.
وباع النبي التجارة وابتاع، وعاد بربح وفير، وعاد معه غلام خديجة، ووصل الركب في الظهيرة إلى مكة، وخديجة في علّيّة لها «1» ، فرأت النبي تكسوه المهابة والجلال، فلما دخل عليها أخبرها بخبر التجارة وما ربحت، فسرت لذلك سرورا عظيما، وخرج النبي، وترك ميسرة يقص على سيدته من شأن سيده محمد ما شاءت له نفسه أن يقص.
,
قد سمعت انفا ما قاله الراهب (نسطورا) في شأن النبي، وما قاله من قبل (بحيرى) لعمه أبي طالب، ولم تذكر الروايات الموثوق بها شيئا غير هذا، ولكن قد جرى بعض كتّاب السيرة من المستشرقين أو إن شئت فقل المبشّرين ومتابعيهم من الكتاب المسلمين أن يحمّلوا الروايات ما لا تتحمل، وأن يدسوا السم في الدسم، وأن يطلقوا لخيالهم الجامح العنان، كأنما يؤلفون رواية مسرحية، لا أعظم سيرة لنبي، توفر لها من دواعي الصدق، والثبوت، وتحرّي الحقيقة ما لم تحظ به سيرة في الدنيا!!.
فزعموا أن النبي قابل في هاتين الرحلتين: رحلته مع عمه، ورحلته لخديجة بعض الرهبان وأخذ عنهم، وأنهم جادلوه، وجادلهم في أمر عيسى وأمر غيره، وغرضهم بهذا أن يلقوا في أوهام بعض القارئين أن النبي استفاد من هؤلاء، وانطبعت في ذهنه معارفهم، ثم فاض ذلك على لسانه فيما جاء به من قران، كي يصلوا إلى أن القران من عند النبي، وأن ما زعمه وحيا هو أمر نابع من نفسه، على ما يرون من فكرة الوحي النفسي «2» .
وإذا جاز هذا التجني والدس من المبشرين والمستشرقين استجابة
__________
(1) غرفة عالية. وهي بكسر العين- والضم لغة- وكسر اللام المشددة وفتح الياء المشددة.
(2) سنعرض لإبطالها عند الحديث عن الوحي.
لعصبيتهم، وما رضعوه في ألبان أمهاتهم من صليبيتهم، فما كان ينبغي ولا يجوز أن يقلدهم في هذا بعض الكتاب المعاصرين من المسلمين!!.
وإليك ما ذكره الدكتور هيكل في كتابه: «خرج محمد مع ميسرة غلام خديجة بعد أن أوصاه أعمامه به، وانطلقت القافلة في طريق الصحراء إلى الشام مارة بوادي القرى، ومدين، وديار ثمود، وبتلك البقاع التي مر بها مع أبي طالب، وهو في الثانية عشرة من عمره، فأحيت هذه الرحلة في نفسه ذكريات الرحلة الأولى، كما زادته تأملا وتفكيرا في كل ما رأى وسمع من قبل سفره بالشام، أو بالأسواق المحيطة بمكة، فلما بلغ (بصرى) اتصل بنصرانية الشام، وتحدّث إلى رهبانها وأحبارها، وتحدّث إليه راهب نسطورا وسمع منه، ولعله أو لعل غيره من الرهبان قد جادل محمدا في دين عيسى، هذا الدين الذي انقسم يومئذ شيعا وأحزابا كما بسطنا من قبل» «1» .
وهذا الكلام الذي ذكره هيكل الباحث المسلم، وهذه الفروض والتخمينات قد اتبع فيها (در منغم) حذو النعل بالنعل «2» ، ولا أدري كيف غاب عنه أن مدين ليست في طريق الشام؟؟ ثم من هم نصارى الشام الذين تحدث إلى رهبانهم وأحبارهم؟ كنا نحب منه أن يؤيد ما يقول ويذكر لنا غير من جاءت بهم الرواية من (بحيرى) و (نسطورا) ، وما القيامة العلمية لكلمة «لعل» و «الفروض» في مثل هذا البحث الذي يتصل بحياة أعظم إنسان عرفته الدنيا؟! ثم من قال: إن النبي كان عنده علم بمذاهب أهل الكتاب وعقائدهم قبل النبوة؟.
ولو أن النبي أخذ عنهم، واستفاد منهم كما زعموا لردّوا عليه حينما عرض في صراحة لبطلان عقائدهم، وفساد مذاهبهم، ولقالوا له نحن الذين علمناك، فكيف تجحد فضلنا، وتطعن في ديننا؟.
ولا ندري أنصدق (درمنغم) ومتابعيه أم نصدق الحق تبارك وتعالى حيث قال:
__________
(1) حياة محمد، لهيكل، ص 113، 114.
(2) حياة محمد، لدر منغم، ص 125، 126.
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً «1» مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) «2» ؟!.
ثم أي نصارى الذين أخذ عنهم النبي؟ النصارى المحرّفون؟! أم النصارى المخرّفون؟! وإليك صورة للنصرانية في هذا العهد بشهادة النصارى أنفسهم، يقول مولانا محمد علي: «ولكن كيف كانت حالة النصرانية في ذلك العهد؟ فلنرجع إلى شهادات الكتّاب النصارى أنفسهم في هذا الموضوع، فقد رسم أحد الأساقفة صورة لتلك الأيام فقال: إن المملكة الإلهية كانت في اضطراب كلي، بل إن حالة جهنمية حقيقية كانت قد أقيمت على سطح الأرض نتيجة للفساد الداخلي، وقد عالج السير (وليم موير) هذا الموضوع فانتهى إلى النتيجة نفسها قال: «وفوق هذا فقد كانت نصرانية القرن السابع نفسها متداعية فاسدة، كانت معطلة بعدد من الهرطقات المتنازعة، وكانت قد استبدلت بإيمان العصور الأولى السمح صغارات الخرافة وصبياناتها» .
تلك صورة للنصرانية تمثل وضعها العام انذاك، كانت واحدة الذات الإلهية قد احتجبت منذ عهد بعيد، وكانت عقيدة التثليث قد أدت إلى نشوء تعقيدات متعددة، وتنافست الفرق والهرطقات المختلفة في قدح زناد الفكر لتفسير هذه العقيدة، وأدى ذلك إلى إنشاء جمهرة من المؤلفات أبعدت الإنسان عن هدف الدين الحقيقي» «3» .
يتبين لك أيها القارىء المنصف أن ما ذكروه لا بد وأن يكون ظنونا وتخمينات، وليس من البحث العلمي الصحيح في شيء.
__________
(1) أي حياة لأنه تحيى به القلوب، وتصلح به النفوس.
(2) الايتان 52، 53 من سورة الشورى.
(3) حياة محمد ورسالته، ص 10، 21.
الفصل الرّابع زواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بخديجة
حدثناك انفا عن سفر النبي بتجارة السيدة خديجة، وصحبته غلامها ميسرة، وطبعي أن ميسرة حدثها بكل ما رأى وما سمع، وكانت خديجة ابنة عم ورقة بن نوفل، وكان عنده علم بالكتب السابقة، فحدثته بما حدثها به غلامها، فقال لها: «إن كان هذا حقا يا خديجة فإن محمدا نبيّ هذه الأمة» !!.
ورجعت بها الذاكرة إلى حادثة تركت في نفسها أثرا، فقد روى ابن إسحاق أنها كانت بين لداتها القرشيات يوم عيد، فجاءهن يهودي، فقال:
يا معشر نساء قريش، إنه يوشك فيكن نبيّ قرب وجوده، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشا له فلتفعل، فحصبه النساء، وأغلظن له، وعضّت خديجة على قوله، ووقع في نفسها ذلك، وكان لهذا وذلك أثره البالغ في نفس خديجة. وهفا القلب العفيف الطاهر إلى الشاب الأمين المأمون، ولكن ماذا تفعل؟ أتعرض نفسها عليه؟ أم ترسل له من تتحسس الأمر وتتعرف رغبته؟.
هنا تختلف الرواية، فمن قائل «1» : أنها أرسلت إليه، وقالت له: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك «2» في قومك، وأمانتك، وحسن
__________
(1) هي رواية ابن إسحاق.
(2) شرفك.
خلقك، ومن قائل «1» : إنها أرسلت إليه نفيسة بنت منية «2» ولعل هذا هو الأقرب، وسأدع نفيسة تقص علينا القصة قالت:
كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكلّ قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك. قد طلبوها، وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت:
يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: «ما بيدي ما أتزوج به» ، قالت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال، والجمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: «فمن هي» ؟ قالت: قلت: خديجة، قال: «وكيف لي بذلك؟» ، قالت: قلت: علي، قال: «فأنا أفعل» ، فأعلمت خديجة أهلها، فوجدت منهم قبولا وترحيبا، وحدّدت للنبي وأهله موعدا يحضرون فيه، وذكر النبي ذلك لأعمامه، فخرج معه عمّاه: أبو طالب، وحمزة حتى جاؤوا بيت خديجة، فوجدوا عندها عمها عمرو بن أسد حاضرا، فخطبها منه أبو طالب لابن أخيه محمد، فوافق ورحّب وقال: هذا الفحل لا يقدع أنفه «3» ، وخطب أبو طالب خطبة الإملاك «4» ، وهي تنم عن فضائل النبي وخصائصه، وشرفه، وشرف ابائه، وهي قطعة من بليغ الكلام، وفصيح القول.
وهذا الذي ذكرناه من أن الذي ولي تزويجها هو عمها هو الذي عليه أكثر علماء السير، وهو الصحيح كما قال السهيلي، فإن أباها كان قد مات قبل ذلك.
__________
(1) هي رواية ابن سعد عن الواقدي.
(2) نفيسة: بضم النون، وفتح الفاء على صورة المصغر. ومنية بضم الميم، وسكون النون، وفتح الياء المثناة، نسبة إلى أمها، وفي بعض الكتاب: بنت أمية وهو أبوها، وهي أخت يعلى الصحابي المشهور.
(3) مثل يضرب للكفء الكريم، وأصل المثل: أن العرب كانوا إذا وجدوا الفحل- الذكر من الإبل- غير كريم ضربوا أنفه ومنعوه عن الناقة، فإن كان كريما تركوه فذهب مثلا في العرب.
(4) إعلان الزواج.
قال الواقدي: الثّبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أن أباها مات قبل حرب الفجار، وأن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها لمزيد حفظ الثبت وهو الزّهري، خصوصا وقد رواه عن صحابي من السابقين «1» ، وكذلك ذكر الطبري- وهو من ثقات المؤرخين- أن عمها عمرا هو الذي أنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن خويلدا مات قبل الفجار «2» ، ويرى ابن إسحاق أن أباها هو الذي زوجها وهو رأي ضعيف.