99- حمى الله تعالى محمدا فى نشأته، فكفله محبوه، فلم ترهق أعصابه، ولم يرهق فى يتمه، فنبت نبتا حسنا محبوبا أليفا مألوفا، وحمى نفسه من أن تتردى فى مهاوى الانحراف.
لقد كانت طبيعة العمل الذى اختاره الرسول، لأنه أسهل الأعمال إليه أن يختلط بصبيان من طبقات مختلفة أكثرهم من طبقات الفقراء والخدم والعبيد، فأولئك الذين كانوا يؤجرون لهذا العمل الذى لا يعد من معالى الأعمال بل يعد من صغارها، ومع أنه كان مع الخدم والعبيد والغلمان، لم تنزل نفسه عن عزتها من غير استعلاء، فكان يجذبه إلى العلا شرف نسبه وطيب محتده، وما يراه فى أسرته من سمو وعلو وسيادة، وما يكمن فى طبعه الكريم من حب لمكارم الأخلاق من غير غطرسة، ولا كبرياء، ولا استهانة أو استصغار للضعفاء، ويجذبه إلى التطامن والرضا بالقليل صغر العمل فى ذاته من غير نظر إلى ثمراته، وأثره فى تربية النفس على حسن المعاملة، والرفق بالناس.
وكان الأحداث منهم خصوصا الذين انغمس ذووهم أو أولياؤهم فى الشهوات يستولى على قلوبهم حب اللهو البريء وغير البرىء، ومنهم ينزع إلى الشر من بعد، ويكون عنصر فساد فى المجتمع إذا شدا وترعرع وبلغ أشده، وإذا كان الضعف يثير الرحمة، ويدفع إلى الحب الخالص البريء، فهؤلاء يدفعون إلى المجون، والمجون يهدى إلى سيطرة الهوى وسيطرة الهوى تهدى إلى الفساد، والصحبة تجعل السقيم يعدى البرىء، وقد تعدى الصحاح مبارك الجرب، كما يقول الشاعر العربى الحكيم.
__________
(1) الروض الأنف ج 1 ص 11 طبع المغرب.
فكان أشد ما يخشى على محمد عليه الصلاة والسلام فى صباه هو عدوى المجون، إذ هو محبب إلى نفوس الغلمان فى سن المراهقة، ومحمد عليه الصلاة والسلام كان مراهقا فى هذه السن، ولكنه تربية الله فجنبه ذلك، وأبعده، ويحكى عن نفسه عليه الصلاة والسلام والمجون يساوره، فيعصمه الله تعالى، فيقول، وهو الصادق الأمين ما روى البخارى عنه، أنه قال «ما هممت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين» .
وقد ذكر ابن إسحاق أن إحدى المرتين كان فى غنم يرعاها هو وغلام من قريش، فقال لصاحبه اكفنى أمر الغنم حتى اتى من مكة، وكان بها عرس فيه لهو وزمر، فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقى عليه النوم، فنام حتى ضربته الشمس عصمة من الله تعالي.
وفى المرة الاخرى قال لصاحبه مثل ذلك، وألقى عليه النوم كما ألقى فى المرة الأولى، وترى من هذا حماية الله تعالى له من الاسترسال فى الهوى، فهو فى الخطوة الأولى سد الطريق، لا بمجاهدة نفسية، لأن سنه لم تكن تقوى على المجاهدة النفسية، بل بأمر خارج عن إرادته، وهو النوم الغامر، وكان له نعمة، وتوالى ذلك النوم، حتى قويت إرادته، وكانت له عزيمة تمنع، وقوة إرادة، وبمقتضى النظام الفكرى، أنه لو لم يعصمه الله تعالى بالنعاس الذى منعه، ربما كان يسترسل فى اتباع الهوى، وبذلك تسيطر الشهوات، فكانت العصمة المانعة فى أول الخطوة، وأول الدفعة، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى كما قال عليه الصلاة والسلام من بعد أن منحه الله تعالى الرسالة.
,
102- قامت هذه الرحلة مشتملة على إرهاص كبير معلم بنبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيها إعلان عن البشارة بهذه النبوة والإعلام بأماراتها.
لقد كان ببصرى راهب فى صومعة، اسمه بحيرى، وكان على علم بالكتاب، وكان نزلاء هذه الصومعة ذوى علم بالتوراة والإنجيل، يتوارثون ذلك العلم كابرا عن كابر.
وكان من طبيعة بحيرى كما هو طبيعة كل الرهبان ألا يخرجوا للقاء القوافل ولا تعرف أحوالها، ولا استضافة من فيها، لأن الرهبنة تتقاضاهم العزلة وهم لا يخرجون عن سنتها، ولا ينحرفون بأنفسهم عن أحكامها، ويظهر أن قوافل العرب تعودت هذا وتعودوها من هذا الراهب خاصة ألا يلقاهم، ولا يلقوه.
ولكنه فى هذه المرة خرج من صومعته، إذ رأى من البينات ما يتفق وما عنده من التبشير برسول يأتى من بعد عيسى اسمه أحمد. فخرج من الصومعة ليلتقى بتلك القافلة ويعرف من تنطبق عليه تلك الأمارات، ويتحقق فيه التبشير. ذلك أنهم نزلوا قريبا من صومعته، وأنه رأى غمامة تظلهم تسير حيث يسيرون وتقف حيث يقفون، وأنهم إذا اووا إلى فيء شجرة، رأى أغصانها تتهصر، وتميل حتى تظل واحدا منهم هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجد هذه العلامات، ويظهر أنه لم يتبين ذلك الصبى، أو تبينه وأراد أن يعرف أحواله، وبقية الأمارات الدالة على أنه المذكور فى الإنجيل.
ولذلك أراد أن يزيد تعرفه بالقوم، فاتجه إلى إكرامهم، فأقام لهم وليمة عامة تشمل صغيرهم وكبيرهم، لا يتخلف منهم أحد، وأرسل إليهم يدعوهم، وقال فى رسالته لهم: «إنى صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعيدكم وحركم» .
لم يكن العجب من الدعوة إلى الطعام، إنما كان العجب من أنه ترك صومعته، وخرج إليهم، ولذا قال رجل من قريش «والله إن لك يا بحيرى لشأنا اليوم، ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم» .
قال بحيرى: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وأحببت أن أكرمكم، وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم. فاجتمع القوم إليه، ولم يتخلف إلا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحداثة سنه، وبقى تحت الشجرة يرعى إبلهم ويحرسها، فلما راهم لم ير الصفة التى عرف بها الرسول المنتظر فى كتبهم، فذكر لهم أنه طلب ألا يتخلف أحد منهم عن طعامه، فقالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغى له أن يأتى، إلا غلام وهو أحدثنا سنا، فتخلف فى رحالنا، قال: لا تفعلوا ادعوه، فليحضر هذا الطعام.
فقال رجل من قريش مع القافلة: واللات والعزى إن كان للؤم منا أن يتخلف محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب عن طعام من بيننا. حضر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الوليمة، واختصه الرجل بفضل من العناية فاحتضنه وأجلسه.
أخذ بحيرى يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته.
حتى إذا فرغ القوم من طعامهم، وتفرقوا قال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتنى عما أسألك. وإنما قال بحيرى ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو غلام لم يبعث: لا تسألنى باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. عدل بحيرى عن استقسامه بهما، وقال: والله إلا أخبرتنى عما أسألك عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: سلنى عما بدا لك.
جعل بحيرى يسأله عن رحلته وهيئته وأموره، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخبره، ويقول ابن إسحاق: فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، فى موضعه من صفته التى عنده.
فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب، فقال: ما هذا الغلام منك، قال: ابنى!! قال بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال أبو طالب: فإنه ابن أخى. قال: فما فعل أبوه؟ قال:
مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر من اليهود، فو الله لئن رأوه، وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده.
فخرج به عمه أبو طالب سريعا، حتى أقدمه مكة، وأنجز تجارته «1» .
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير، السيرة لابن هشام، الاكتفاء.
103- إن هذه رواية من الروايات التى رويت فى هذه الرحلة، والتقاء بحيرى الراهب. وليس فيما ذكره بحيرى، ولا فى أصل القصة غرابة؛ لأن التبشير بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت عند أهل الكتاب، وقد أشرنا إلى ذلك فى مقدمة كتابنا، وليس فى القصة أمر يستحيل تصديقه، أو يتعذر تصديقه، بل إنه خبر يتفق مع ابتداء نشأة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإظلال الغمامة له عليه الصلاة والسلام، ليس فيه غرابة أو ما يظن أنه غريب فى زعم الذين يجحدون، ومن طبيعتهم جحود ما ليس ماديا ولا محسوسا، ولكن يرد عليهم جحودهم بأن شواهد الصدق فى الخبر قائمة، فخاتم النبوة كان أمرا ظاهرا في جسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، راه الراؤن ووصفه الواصفون فإذا كانوا لا يؤمنون إلا بالمادى، فهذا أمر مادى ظاهر، وقد وجد فيه، ولم يوجد فى أحد من غيره، فكيف يمترون؟ وهناك شاهد اخر بالصدق، وهو وجود هذه الأوصاف المعروفة فى التوراة والإنجيل حتى بعد أن أصابها التحريف، وإذا كانوا قد نسوا حظا مما ذكروا به، وأفسدوا الباقى، فالبشارات تلوح معلنة وجودها، رغم أنف الجاحدين المستكبرين، فلا مجال لا رتياب مرتاب.
بقى فى كلام بحيرى أنه يخوف أبا طالب الكافل الكريم من اليهود، وفى بعض الروايات أنه يخوفه من الرومان لأنه يعرضه للأذى، والتخويف منهما معا جائز، وذلك لأن الرومان كانت الملكانية فى الطوائف المسيحية حريصة على معاداة العرب، وكل مذهب دينى غير الملكانية، ولذلك كانت العداوة شديدة اللدد بينهم وبين اليعقوبيين بمصر، وكان بينهما ما بين النصارى واليهود، بل كانوا أشد إيذاء، وحينما قربت العقيدة بين طائفتين كانت العداوة أحد، إذ كل حريص على أن يدمج الاخر فيه.
وأما اليهود فمع أنهم كانوا فى البلاد العربية يستفتحون فى يثرب على الذين كفروا بالنبى الذى ان أوانه، كانوا يكرهون أن يكون من بنى إسماعيل، لأن حسدهم يجعلهم يستكثرون أن يكون نبى من غير ذرية إسحاق عليه الصلاة والسلام.
وخاتم النبوة الذى كان فى ظهر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو لحم ناتيء بين كتفى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نسق ليس فيه تشويه للمنظر، قيل إنه كتفاحة، وقيل إنه كرقبة العنزة، وإن كثرة التشبيهات ممن رأوه فى جسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليست اختلافا فى أصله، ولكنه اختلاف فى عبارة الذين رأوا، والتشبيه من حيث حجمه، ونظر الذى وصفه. والرواية التى ذكرناها، هى أقصر الروايات عبارات.
وقد روى الترمذى رواية أخرى أطول، وقد جاء فيها أن بحيرى قال عندما أخذ بيد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
«هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: من أين علمك، قال إنكم حين أشرفتم لم يبق لشجر، ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه، ثم رجع فصنع لهم طعاما» «1» .
104- عاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من تلك الرحلة التى يبدو من ثناياها أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) أراد فيها أن يعرف الشام وأحواله، والتجارة، والصفق فى الأسواق، وبدت فيه تلك البشائر النبوية، وعلم الأشياخ من قريش مكانة ذلك الصبى، وهو المحبوب بينهم كثيرا كأبيه، حتى أنه لما نبههم بخيرى إلى أنه لم يكن بينهم ويجب أن يكون بينهم، تنبهوا، وقال قائلهم، إنه للؤم إذ لم يكن بيننا، وناداه واحتضنه، شعورا بالمحبة الشديدة المخلصة، وإشعارا بالندم على ما كان عندما رأوا هذه الحال.
وأخذ عمه أبو طالب بنصيحة الراهب، وقفل به راجعا مسرعا، خشية عليه مما خشى الراهب، من أن يغتاله اليهود، أو الرومان، فعاد به إلى قومه.
وإنه فى هذه الرحلة التجارية التى رغب فيها محمد صلّى الله عليه وسلّم واستجاب له أبو طالب شفقة ورقة وملاطفة، وهو يحسب أنها من رغبات الصبيان، وأجابه محبة وتدليلا، يحسب أنه لا جد فيها، ولا غاية، ولكن الصبى يظهر أنه كان يريد منها الجد، فيريد منها الاستعداد لعمل يعتمد فيه على نفسه، ولا يكون كلا على عمه المحدود فى الرزق، فهو يريد الكسب من عمل يده.
وإذا كان اليتم لم يقهر محمدا صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه، إذ أعزه الله تعالى، وأكرمه، ولم يمكن أحدا من قهره فكان اليتيم العزيز المحبوب، فإن محمدا صلّى الله عليه وسلّم استفاد من اليتم الجد فى طلب الرزق غير معتمد على أحد غير ربه، فنال من اليتم محاسنه، ولم ينل اليتم منه بمساوئه.
ذلك أن الثابت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ الاعتماد على نفسه من بعد، وقد رأينا أنه ابتدأ يرعى الغنم صبيا، فلما تجاوز الصبا إلى المراهقة اتجه إلى صناعة أشراف مكة، وهى التجارة، ولم يذكر التاريخ فى أى سن ابتدأ التجارة، ولكن الأمارات تصور لنا أنه ابتدأ فى سن مبكرة.
أولا- لأنه رغب رغبة شديدة فى أن يسافر إلى قافلة التجارة، ولا نفرض أنه طلب ذلك لمجرد متعة السفر، فإنه كان صبيا جادا، ولم يكن ممن يميلون إلى المتاع.
وثانيا: لأنه كان لا يمكنه أن يعتمد على ثراء أحد. إذ كان كافله الذى كفله، وهو أبو طالب فقيرا.
__________
(1) الروض الأنف ج 1 ص 219.