279- هذه تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم للعام الذى توفى فيه شيخ البطحاء أبو طالب ابن عبد المطلب، وأم المؤمنين خديجة رضى الله تعالى عنها، وقد كانت أبر زوج لأكرم زوج، فسمى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك العام عام الحزن، لأنه فقد فيه حبيبين، ولم ير بعد موتهما من يعوضه عنهما من ذوى قرابته وصهره.
فقد كانا يواسيانه، ويشدان أزره، ويمنعان عنه الأذى أن يؤثر فى نفسه، ويرى فيهما المثابة إلى الاطمئنان والسكن، فأبو طالب ينصره، ويذود عنه، ويتحمل الأذى فى سبيل مرضاته، ويعمل على أن تقر عينه دائما، وقريش تضايق العم الشيخ فيتحمل ضيق قومه على أن يكون منه ما يجعل ابن أخيه فى ضيق، ويتحمل الملامة هو على أن توجه ملامة لابن أخيه، وأشهد ويشهد كل قارئ لسيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ما وجد أب أحنى على ولده من أبى طالب على ابن أخيه، وهو يخالفه فيما يدعو إليه، ولا يستجيب لما ينادى به، كما يقولون خشية سبة قريش، وإن ذلك الأمر يعلمه الله تعالى، وهو فى جملته يتعلق بالدعوة المحمدية المواحدة، وتخفيف الأذى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن امن معه.
ونحسب أن أبا طالب لو امن بالدعوة المحمدية كما امن حمزة، وعلى وعثمان، وغيرهم من بنى عبد مناف ما استطاع أن يذود عن محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، كما ذاد عنهم، ولا أن يصد قريشا كما صدهم، إذ أنهم يدخلونه فى ضمن من يناوئون، وحينئذ يفقد سلطانه الكامل على البطحاء إذ ينكرون سيادته، فلا يستطيع أن يكفكف حدتهم، ولا أن يكون الدرع الواقية، كما كان الأمر فى ذلك وهو على دينهم ظاهرا، أما الباطن فعلمه عند الله تعالى.
ولو أن لنا أن نأخذ بالقرائن أو بالأمارات على ما يستكن فى القلوب، لقلنا إنه مؤمن، وليس بكافر، ولكن يعارض هذه الظواهر أنه دعى إلى الإيمان بالقول فلم يستجب، ومهما يكن فهو فى الحالين عظيم حتى فى شركه.
هذه إشارات إلى ما كان من أبى طالب فى حمايته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى أنه عليه الصلاة والسلام ليقول: إن قريشا ما نالت منى فى حياة أبى طالب ما نالته من بعده.
وأما خديجة أم المؤمنين، والزوجة الحانية كالأم أو أشد، فقد كانت السكن إذا ادلهمت الأمور، ولقى من مناوأة قومه أشد ما يلاقى داع إلى الحق، يشتد الكفر وتشتد العداوة، ثم يعود إلى بيته مجهودا
مشنوا، فيلاقى الزوج البرة، ولسان حالها يقول له، كما قالت أولا: «والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، فيطمئن فؤاده، وتسكن جوارحه، وتقر نفسه الجائشة» .
وإن عاطفة الزوج المخلصة تلهمها بأطيب القول وأحكمه فى أشد الأوقات التى تتضافر فيها أسباب الضيق النفسى والقلق، وهى بحق التى تسمى السكن، وكما قال الله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً «1» .
هذا العام كان قبل الهجرة بثلاث سنين، كما يحقق الرواة، وهو قبل فرض الصلوات الخمس، كما يقول المحققون، وهو بناء على ذلك قبل الإسراء والمعراج، ولذلك ذكرنا عام الحزن قبلهما، للترتيب الزمنى أولا- ولأن الإسراء والمعراج، كانا لمواساة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأنسه بربه، ولأنهما فيما يظهر لنا فيهما إذهاب للوحشة التى نالت قلب الرسول عليه الصلاة والسلام الكريم بفقد حبيبين. فبين الله تعالى بهذا الإسراء أن الله هو الحبيب الأعظم، وهو الحامي واحده ولا حماية لأحد تقارب أو تدانى حمايته.
وإن الأكثرين ممن كتبوا فى السيرة النبوية يقدسون الكلام فى الإسراء والمعراج، لأن فيهما تكميلا لبيان الفرائض الإسلامية التى تتعلق بالتوحيد وهى الصلاة.
ويقول فى ذلك ابن كثير فى تاريخه الكبير: «قال البيهقى، وزعم الواقدى أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين، عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة. وروى عن الزهرى أنه قال: توفيت خديجة بمكة المكرمة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وقيل قبل أن تفرض الصلاة ... قلت: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وكان الأنسب أن نذكر وفاة أبى طالب وخديجة قبل الإسراء كما ذكر البيهقى وغير واحد.
,
284- كانت خديجة هى الفقيد الثانية التى أدخل موتها الحزن فى قلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكان قطعة من نفسها، وهى التى أذهبت عنه الرعب يوم جاءها يرجف فؤاده من أول لقاء بالوحى الإلهى، وهى التى كانت تأسو جراح قلبه، كلما لقى من قومه صدودا وأذى، وهى التى شاركته فى حمل ضرائه، وكانت لها المنزلة الأولى بين نسائه.
ولمكانتها فى نفسه لم يتزوج فى حياتها غيرها قط معها، ولكن تزوج من بعدها، وعدد الأزواج، وكان الحل لمقاصد، ليس منها الشهوة، بل ليؤلف بينه وبين قبائل العرب وليولى أصحابه المحبة، ويدنيهم منه وليؤدى أزواج من يموتون من أصحابه. أو يقتلون، ويتركون أزواجهم من غير عائل يعولهم ليحقق بالعمل قوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك ضياعا، فإلى، وعلى» .
وإنها لعظم منزلتها من النبى عليه الصلاة والسلام، وفى الاسلام، بشرت ببيت فى الجنة من قصب.
__________
(1) البداية والنهاية 126 ج 3.
روى البخارى بسنده عن أبى هريرة قال: «أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت بإناء، فيه إدام- أو طعام أو شراب- فإذا هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومنى، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» والقصب المراد به اللؤلؤ.
وقد قال السهيلى «إنما بشرها ببيت فى الجنة من قصب يعنى قصب اللؤلؤ، لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، ولا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولم تتعبه فى الدهر، فلم تصخب عليه يوما، ولا اذته أبدا» .
ولقد كان يذكرها دائما بالخير، يحب من كانت تحبه، ويواد من كانت توده، حتى كان ذكرها الدائم يثير غيرة بعض نسائه، حتى لقد قالت أم المؤمنين عائشة: «ما غرت من امرأة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ما غرت من خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله تعالى أن يبشرها ببيت فى الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدى فى خلائلها منها ما يسعهن «1» » .
وكان مع ذكرها يكرم ذكراها، ومن يذكره بها، ولقد استأذنت عليه هالة بنت خويلد أختها، فعرف استئذان خديجة، فارتاح، فقال: «اللهم هالة» .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: «كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء فغرت يوما، فقلت: «ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها» قال: ما أبدلنى خيرا منها، وقد امنت بى إذ كفر بى الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، واستنى بمالها، إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله ولدها إذ حرمنى أولاد النساء» .
وواضح أن ذلك قبل أن يهب الله تعالى له إبراهيم من مارية القبطية.
وإننا نرى من هذا الكلام كله مكانة أم المؤمنين خديجة فى نفس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكيف كانت المواسى، إذا ادلهمت الأمور، واشتد البلاء، وكيف كانت المؤنس إذا استوحش من الناس، وكيف كانت الهدأة والسكن إذا ارتاع من هول ما يفعل الناس، فكان حقا عليه الصلاة والسلام أن يسمى عام وفاتها ووفاة عمه الكريم عام الحزن، وقد فقد فيه الحبيبين، الحامى المكافح، والمؤنس المواسى.
وقد مات أبو طالب قبل خديجة على أصح الروايات، وقيل: كانت وفاته قبلها بثلاث ليال. ويذكر بعض الرواة أن وفاتها كانت قبل وفاته بنحو من خمس وثلاثين ليلة وأن الراجح أن وفاته كانت قبل وفاتها، ومهما يكن الأمر فى المقدم والمؤخر، فإن وفاتهما أورثت حزنا شديدا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
__________
(1) البخارى- البداية والنهاية ص 18 ج 3.
,
285- قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «ما نالت منى قريش شيئا أكرهه، حتى مات أبو طالب» ولقد لزم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الحبيبين، الحامى المكافح، والمؤنس المواسى.
ثم لما خرج وباشر الدعوة وبلغ رسالة ربه، كلبت عليه قريش، حتى كانوا يؤذونه فى بيته، فكان جيرانه جيران سوء، ومنهم أبو جهل، والحكم بن أبى العاص بن أمية، وعقبة بن معيط وعدى بن الحمراء، وابن الأصداء الهذلى، وكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى.
وقد روى مسلم عن ابن مسعود قال. «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عند البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا «1» جزور بنى فلان، فيأخذه فيضعه بين كتفى محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم. فأخذه، فلما سجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وضعه بين كتفيه فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا نائم أنظر والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه.. حتى ذهب إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت، وهى جويرية فطرحت عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صلاته، رفع رأسه، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاثا وإذا سأل، سأل ثلاثا، ثم قال. اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: اللهم بأبى جهل ابن هشام، عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبى معيط، فو الذى بعث محمدا عليه الصلاة والسلام بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر» .
اشتد أذى قريش للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن أكثر الأذى الذى نال شخص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد وفاة أبى طالب.
ولقد قال ابن كثير فى ذلك:
«وعندى أن غالب ما روى مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه، وهو يصلى كما رواه ابن مسعود.. وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له صلى الله تعالى عليه وسلم خنقا شديدا وكذلك عزم أبى جهل.. لعنه الله على أن يطأ عنقه وهو يصلى فحيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك- ذلك كله كان بعد وفاة أبى طالب والله أعلم، فذكره هاهنا أشبه وأنسب» .
__________
(1) السلا، أحشاء وخلاص الناقة، وهى الجزور.
وإن هذا الكلام له وجاهته، وعلى ذلك نذكر أن أذى المشركين أخذ دورين.
الدور الأول: ما كان قبل وفاة أبى طالب، وقد كان أذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بالاستهزاء والسخرية والسب، ولا ينالون منه بغير ألسنتهم، ويقوم بذلك سفهاؤهم كأبى الحكم بن هشام (أبى جهل) وعقبة بن أبى معيط، وغيرهما من سفهاء القوم.
وكان مع ذلك التعذيب والإيذاء البدنى للضعفاء، وغير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مما أدى إلى الهجرة إلى الحبشة مرتين، وكان فيهم كبراء كجعفر بن أبى طالب، وعثمان بن عفان، ولعل هجرتهم كانت لأذى القول والسخرية والاستهزاء.
الدور الثانى: كان بعد وفاة أبى طالب، وهنا اشتد الأذى، وكان الاعتداء بالقول والفعل حتى اضطر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أن يطلب الجوار ليدخل مكة المكرمة، فأجاره مطعم بن عدى.
وإذا كان قد فقد حماية أبى طالب، فقد عوضه الله تعالى بحمايته.