410- هذه حال فردية ولكنها ذات صلة بسير الحروب، بين أهل مكة المشركين والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما كان يقوم به اليهود في هذه المعارك آحادا وجماعات من تحريض للمشركين وتخذيل للمؤمنين، وبث روح التردد والهزيمة في أهل المدينة المنورة، وإثارة الحروب في مكة المكرمة، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله سبحانه وتعالى.
وكان كعب بن الأشرف يقوم في ذلك بأعمال خطيرة، تؤجج النيران ضد المؤمنين، وكعب من طييء، وأمه من بنى النضير، وظاهر حاله أنه لم يدخل في عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يقف من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا المؤمنين موقف المسالة، أو يعتزل، فلم يكن مع هؤلاء وأولئك، بل أظهر العداوة، وعمل تحت سلطانها، وبدا ذلك فيما يأتى:
(أ) أنه لما علم بمقتل المشركين من أهل بدر، أعلن غضبه على المؤمنين، قال: «لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها» ، وبذلك أعلن العداوة المكنونة في نفسه، وماذا يصنع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع عدو أظهر عداوته، ولم يكن له عهد مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(ب) أنه كان يهجو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويشدد في الهجاء، غير ملاحظ كرامة، ولا حرمة، بل كان منخلعا من كل عهد، ومن كل فضيلة، وكان كالذين آذوا موسى من إخوانه اليهود، وهو متحلل من كل مروءة.
(ج) أنه قدم المدينة المنورة يعلن عداوته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويجاهر بها، ويحرض اليهود على المؤمنين، ويلقى بالشر والفتنة بين المؤمنين من غير حريجة من خلق أو دين أو عهد، وجعل يشبب بنساء المؤمنين، ويشيع قالة السوء عن فضليات هؤلاء النساء.
(د) وكان يحرض يهود على أن تنقض عهدها مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه كان بأفعاله يجرئ كل من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام على الخروج عليه، وشن الحرب، ولم يترك بابا من أبواب الكيد إلا دخل إليه، وليس له أهل يرد عليهم فيمنعوه، بل هو منفرد بأعماله مقيم فى حصن، لا ينتمى إلى بنى النضير إلا من جهة أمه، ولا تسرى عليه عهودهم.
(هـ) أنه لم يقف عمله عند العداوة والبغضاء، وإشاعة الفساد، وتحريض يهود، بل إنه تجاوز ذلك، إذ ذهب إلى مكة المكرمة، واستعدى قريشا، فنزل على الذين أوذوا في غزوة بدر، وأخذ يحرضهم على قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وربط حباله بحبالهم، ونفسه بنفوسهم، حتى لقد قال له أبو سفيان من فرط ما امتزجت نفوسهم به: «أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه، وأينا أهدى في رأيك، وأقرب إلى الحق، إننا نطعم الجزور الكوماء، ونسقى اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال» فقال له كعب اليهودى الكتابى: أنتم أهدى سبيلا، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (النساء- 51: 54) .
وهكذا قد بدت العداوة من أفواههم، والتحريض من أعمالهم، وإرادة الفساد، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين من تصرفاتهم، وكان كعب المثل الواضح في ذلك، وكان يقول القصائد محرضا المشركين على المؤمنين ويقول في شعره محرضا قريشا:
طحنت رحى بدر لمهلك أهله ... ولمثل بدر تستهل وتدمع
ويقول في التحريض من هذه القصيدة:
ويقول أقوام أسر بسخطهم ... إن ابن أشرف- قل- كعبا يفزع
نبئت أن بني المغيرة كلهم ... خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبه ... ما نال مثل المهلكين وتبع
نبئت أن الحارث بن هشامهم ... في الناس يا بني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما ... يحمى على الحسب الكريم الأروع
وهكذا يحرض على القتال، ويرثى القتلى بعبارات تؤجج نيران الحقد ليدفعها إلى الثأر.
411- هذا ما يفعله الرجل اليهودى المنطلق من كل العهود والمواثيق، أيسكت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو المحارب الحذر الذى يهجم على مداخل الأذى قبل أن يلج منها العدو، أم يعلنها على قومه أو من ينتمى إليهم من بنى النضير، وأكثرهم لم ينالوا المؤمنين بمثل ما نال، ولا تزر وازرة وزر أخري، والنبى عليه الصلاة والسلام لا يعلن الحرب إلا على من أعلنها، ولما يعلنوها.
أم يسكت ويترك الشر يستشري، ويحاكيه في أفعاله بقية يهود، لا شك أن آخر الدواء الكي، إنه لابد أن يجتث الداء في موضعه، ولا يتركه حتى يفسد الجسم كله، ولا منجاة حينئذ، لم يبق إلا أن يقتل كعبا حسما لمادة الفساد، وما السبيل لدفع شره غير القتل، إنه لا سبيل إلا هو، وأن يقضى على الداء، أن يعلن عليه النبى عليه الصلاة والسلام الحرب، وهل تعلن الحرب على واحد، لقد قلنا أن من ينتمى إليهم لم يكن منه مثل ما فعل.
فلم يبق إلا أن يقتل، وأن يدعو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يتولى قتله في مأمنه، وقد اتخذ حصنا يأوى إليه، فحرض عليه الصلاة والسلام من يقتله من غير ضجة، ولا إزعاج لأحد من الآمنين، ولقد انتدب لذلك من رأى في نفسه القدرة من الصحابة، واستأذنوا الرسول في أن يخدعوه بالقول فأذن.
ولقد وجدنا من الغربيين الذين يكتبون في تاريخ الإسلام من أثاروا زوبعة حول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وكيف يأمر بالقتل غيلة، وهو نبى مرسل، قالوا ذلك، ونسوا أنه نبى محارب لا يدعو إلى الاستسلام للشر، بل يقاومه، ويحتاج لحماية الناس من الضرر، وأنه بمقتضى حكمة النبوة يجب أن يدفع الضرر الكثير بالضرر القليل، وإنه في سبيل أن تحقن الدماء في القتال يجب منع أسبابها، وأن
الذى كان يثير الحرب جذعا هو واحد وقتل واحد شرير خير من قتل جماعة في ميدان الحرب، فهو كان يحرض على الحرب.
قالوا إن القتل كان غيلة، ونحن نقول في ذلك إن الرجل جاهر بالعداوة، وشبب بنساء المسلمين، وحرض اليهود على الانقضاض على المؤمنين ونكث العهود. ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى مكة المكرمة، وأثار الأحقاد ودعا إلى أن يقاتلوا محمدا عليه الصلاة والسلام.
فعل كل ذلك جهارا نهارا، فإذا لم يتوقع من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه يتربص به الدوائر الدائرة، وأنه يريد أن يقضى عليه، لأنه مادة الشر ولسانه، إذا لم يقدر ذلك فهو أبله، ولم يكن كذلك فمحمد عليه الصلاة والسلام أمر بقتله في وقت كان هو يتوقع ذلك، أو ينبغى أن يتوقع ذلك ولا يعد القتل غيلة لمن يتوقع القتل، إن قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يشبه من يعلن عن شرير بأنه ارتكب آثاما كثيرة، وأن من أحضره حيا أو ميتا، فله جزاء.
إننا فرضنا أن الحكمة والعدالة والأخلاق توجب التخلص منه، وإذا لم يجز التخلص منه بالطريقة التى حدثت وهى الخديعة، فكيف كان يمكن التخلص، أيحضره من ينتمى إليهم فيقدمونه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إنهم لا يفعلون ذلك، ولم يوجد من يتحمل تبعة عمله وما يفعل، وإذا لم يكن ذلك أيأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإحضاره بين يديه والحكم عليه بالقتل ويتولى قتله، وما الفرق بين هذا، وبين ما كان من حيث المعنى.
إن قتله كان أمرا لابد منه لما قام به، ويقوم به رئيس الدولة العادلة التى يحكمها ذلك الحاكم العادل، فإنه لا سبيل لدفع فساده وإفساده إلا بقتله بأى طريق كان القتل، وكل ما فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أباح دمه، جزاء ما ارتكب، ومنعا لاستمراره في غيه، فقد كان يقوم بجريمة مستمرة غير متحرج، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان مخيرا بين أمرين إما أن يقتله، وإما أن يتركه يرتع في جريمته، فاختار أسلم الأمرين، اللذين لا مناص من اختيار أحدهما.
وإن أولئك الذين يثيرون الشك حول أعمال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وحول رسالته السماوية التى كانت رحمة للعالمين- يقولون إن الرسالة السماوية تتنافى مع القتل غيلة، بل تتنافى مع أصل القتل، كما كان من عيسى عليه السلام الذى يروون أنه قال: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» .
ونقول في الجواب عن ذلك، إن قمع أعداء الدعوة الدينية لا يتنافى مع الرسالة، فموسى عليه السلام وهو من أولى العزم من الرسل، قد قتل بيده، وقاتل، ودعا بنى إسرائيل إلى القتال، وما تنافى ذلك مع رسالته الإلهية التى نزلت بها التوراة، وهى كتب العهد القديم المقدسة عند اليهود والنصارى معا.
ويحسبون أن الرحمة النبوية تمنع القتل والقتال، ونقول في ذلك إن القتل المشروع يكون بباعث من الرحمة، فليست رحمة النبوة انفعالة رعناء تكون على موضع البرء والسقم، إنما رحمة النبوة تكون بالكافة، ومن الرحمة بالكافة أخذ المذنب بذنبه، ومنع الفساد في الأرض، قال الله سبحانه وتعالى:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة- 251) والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة» ، وملحمته نابعة من مرحمته، وكثير من العفو يكون مشتملا على أقسى العذاب، وهو العفو عن الجانى الذى لا رجاء في صلاحه.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد اشتملت شريعته على العفو في الأمور التى لا يعود العفو فيها بالشر على الجماعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل- 126) . فالصبر عن أخذ الجانى بجريمته إنما يكون في الاعتداء على الآحاد الذى لا يتعدى الأمر فيه إلى الجماعة، وقول الله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ إنما هو في الأمور الشخصية التى لا يعود ضررها على الكافة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت- 34: 36) وهذا واضح أنه في الأمور التى تمس الشخص ولا تصل إلى الجماعة، وكلام النصارى الذى ينسبونه إلى المسيح عليه السلام إنما هو في الأمور التى لا تمس إلا الشخص. وإذا فهموه على أوسع من ذلك، فلكل شرعة ومنهاج، والله ولى الرشاد.