368- قد علمت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما جاء إلى المدينة المنورة سالم الذين يقيمون فيها، وعقد معهم الأحلاف البرة من جانبه عليه الصلاة والسلام، وقد رأيت أن غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم الأولى لم يكن فيها قتال ولكن كان فيها سلم ومواثيق تؤخذ، وتأليف بين القلوب النافرة ولو استمرت على كفرها، إذ أن وراء التأليف أن تخلص النفوس بطلب الحق، فتشرق من غير أن يدخلها ظلام النفرة.
ومن القبائل من كانت تجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تلقى بالمودة من غير نفاق ولا ريبة، ومنهم قبيلة جهينة فقد روى الإمام أحمد بسنده عن سعد بن أبى وقاص، أنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة جاءته جهينة، فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا، فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا فبعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في رجب، وكنا مائة، وأمرنا أن نغير على حى من بنى كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم، وكانوا كثيرا، فلجأنا إلى جهينة، فمنعونا وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقلنا إنما نقاتل من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال بعضنا لبعض ما ترون، فقال بعضنا: نأتى نبى الله فنخبره، وقال قوم: بل نقيم هاهنا، وقلت أنا (عبد الله بن جحش) فى أناس معى، لا بل نأتى عير قريش، فنقتطعها، وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له، فانطلقنا إلى العير، وانطلق أصحابنا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبروه الخبر، فقام غضبان محمر الوجه، فقال: أذهبتم من عندى جميعا، ورجعتم متفرقين، إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة لأبعثن عليكم رجلا ليس بخير كم أصبركم على الجوع والعطش» .
هذه رواية عند الإمام أحمد، وليس في سنده من عرف الطعن فيه، وقد روى مثله مع بعض زيادة فى السند البيهقى في دلائل النبوة، وزاد في متن الحديث أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استنكر القتال في الشهر الحرام.
والحديث برواية الإمامين أحمد والبيهقى يدل على ثلاثة أمور:
أولها- ما جاء من أن جهينة آمنت إذ بدت البينات، واستعدت لنصرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وثانيا- أن المسلمين لم يقاتلوا فعلا، وإن هموا بالقتال، وترددوا عند ما نبهوا إلى الشهر الحرام.
والأمر الثالث- أنه كانت ثمة عير لقريش على أهبة القدوم، ولعل هذا هو الباعث على السرية، ومهما يكن من أمر هذه الرواية التى اتفق عليها إمامان من أئمة الحديث، فإن الأمر الذى أشارت إليه تلك الرواية هو أن السرية سارت بإمرة عبد الله بن جحش، ولكن الذين كانوا فيها على رواية ابن إسحاق كانوا ثمانية ولم يكونوا مائة، وقد عدهم بأسمائهم، وكانوا من المهاجرين، ولم يكن أحد من الأنصار، كشأن كل البعوث والغزوات التى سبق ذكرها، ولعل هذا العدد المحدود. قد قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن رأى الاختلاف، ولعل عدد المائة كان من أسبابه، وكلما قل العدد بعد الاختلاف، وفي الفرقة الهلاك كما قرر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. على أن النص لا يدل على قصر العدد على ثمانية، إنما يدل على أن فيهم هؤلاء المذكورين مع عدد ليس بالقليل، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتب كتابا لعبد الله بن جحش أمير السرية وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فلما ساربهم يومين فتح الكتاب، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابى. فامض حتى تنزل نخلة بين مكة المكرمة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم من الناس أخبارهم، فلما نظر في الكتاب، قال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب، وقال قد نهانى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض.
وإن هذا التخيير يدل على أن العدد لم يكن ثمانية، وإلا ما كان ذلك التخيير، فإنه لا يكون إلا في عدد كبير ولو نسبيا، ولا يمكن في العادة أن يكون في ثمانية.
ولعل ذلك التخيير، ما كان من قبل الافتراق، إذ قد يكون سببه وهنا في بعض القلوب، فأراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يسير إلا من اعتزم وأراد، واستولى على قلبه، وذهب عنه الوهن أو احتماله. سارت السرية بإمرة أميرها، سالكة طريق الحجاز.
ولكن ضل عنهم سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان وكانا من الثمانية المقدمين، وكان معهما بعير يعتقبان في ركوبه «1» .
ولكن القافلة سارت، وكان رجاء في أن يهتديا إليها.
مضى عبد الله مع من بقى من أصحابه، حتى وجد عيرا فيها من قريش ومواليهم الحضرمى ابن عبد الله بن عباد، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومى، وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولى المغيرة بن شعبة.
__________
(1) هنا كلام ناقص ولعله سقط في الطبع أثبته من كتب السيرة «فند، فتخلفا في طلبه ثم لحقا بالقافلة» ... المراجع
لما رأى السرية أصحاب العير، هابوا لقاءهم، ولكنهم رأوا عكاشة بن محصن من سرية النبوة قد حلق رأسه فأمنوا وقالوا عمّار «أى ناوون العمرة، لا بأس عليكم منهم» .
تشاور الصحابة من أهل السرية، وقد كانوا في آخر رجب، وهو رابع الأشهر الحرم التى بينها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنها ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان.
ترددوا أيقاتلون في الشهر الحرام، أم يتركونهم، هذه الليلة، وحينئذ يدخلون الحرم، فيمتنعون عليهم، ولا يمكن انتظارهم هذه الليلة الباقية، من رجب الحرام.
وانتهت الشورى بالإجماع على القتال، فرمى أحد السرية عمرو بن الحضرمى فقتله. وأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان، وأفلت من القوم، نوفل بن عبد الله.
وعادت السرية بالعير والأسيرين حتى قدموا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.