535- انتصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى خيبر انتصارا مؤزرا. زال سلطان اليهود فى جزيرة العرب فقوض قوتهم العسكرية، وفل من شوكتهم، وجعل العدو يسير وراء الإسلام، ولا يواجهه، وبقى أن يعود الغرباء إلى عزة الإسلام، وقد خرجوا فرارا من إذلال المشركين؛ عادوا ليتحملوا عبء الجهاد أعزاء، بدل أن يبقوا مستضعفين، ولو كانوا ضيوفا بين قوم كرماء وملك كريم.
عاد جعفر بن أبى طالب ومعه المهاجرون الذين هاجروا إلى الحبشة، ونالوا فضل الهجرتين. لقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الرفيق ابن عمه الحبيب جعفر بن أبى طالب، فقبله بين عينيه والتزمه، وقال: ما أدرى بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر.
عندما اطمأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعزة الإسلام التى أعزه الله تعالى العلى القدير بها، بعد غزوة الأحزاب، وقد صار الإسلام يغزو أعداءه، ويخضد شوكتهم، ويدعو الناس بدعوة الحق، وهو فى أمن، وخصوصا بعد الحديبية، عندئذ أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أتباعه بعد الحديبية؛ يدعوهم إلى أن يحضروا ليجاهدوا مع إخوانهم، فهم فى غربتهم وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا عليهم، يشعرهم بأنهم منه وهو منهم.
بعث إلى النجاشى الكريم- عمرو بن أمية الضمرى، ليسهل لهم عودتهم، بعد أن أكرم ضيافتهم، فحملهم فى سفينتين، فقدم على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بخيبر.
عاد المهاجرون إلى الحبشة، وكانوا من بطون مختلفة، ومن أسر قريشية، وغير قريشية مختلفة، جمعهم الحق والإيمان والهجرة. وإن فرقت البطون والأسر.
فكان من الهاشميين جعفر بن أبى طالب، ومعه امرأته أسماء بنت عميس الخيثمية وولد له فى الحبشة عبد الله بن جعفر.
ومن بنى أمية خالد بن سعيد بن العاص، وامرأته وابنه سعيد بن خالد.
ومن بنى عبد الدار بن قصى الأسود بن نوفل بن خويلد.
ومن بنى تيم بن مرة بن كعب الحارث بن صخر وامرأته.
وهكذا من بطون قريش وقد أحصاهم ابن إسحاق عدا فكان عددهم ستة عشر رجلا، ومعهم أولادهم الصغار الذين صحبوهم أو ولدوا فى الحبشة.
كان ممن حضر أبو موسى الأشعرى، وعدد من الأشعريين، كانوا هم عم أبى موسى الأشعرى وأخاه أبا بردة.
وكان مع مهاجرى الحبشة فى السفينتين نساء من هلك من المسلمين هنالك.
وقد روى البخارى أن أبا موسى الأشعرى لم يكن من مهاجرى الحبشة، بل كان ممن آمن بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو باليمن، ولما علم بهجرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هاجر إليه، فالتقى فى الحبشة بجعفر بن أبى طالب، ولنترك الكلمة للبخارى عن أبى موسى الأشعرى قال «بلغنا مخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرجنا مهاجرين إليه ... فى ثلاث وخمسين رجلا من قومى، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشى بالحبشة، فرافقنا جعفر بن أبى طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فرافقنا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا سبقناكم بالهجرة» .
ويروى البخارى مناقشة كانت بين أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبى طالب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما. ذلك أن أسماء زارت أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها. فدخل عمر أبو حفصة وعندها أسماء.
فقال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه.
قالت أسماء: نعم.
قال عمر رضى الله عنه: «سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم وكنا فى دار البيداء والبغضاء بالحبشة، وذلك فى الله، وفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أذكر ما قلت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأسأله، لا أكذب ولا أزيغ، ولا أزيد عليه» .
ذهبت فى هذه الحماسة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالت: يا نبى الله إن عمر قال كذا وكذا وقلت كذا وكذا.
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حاكما بين هذين المؤمنين المخلصين: «ليس بأحق منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» .
هذا حديث كان يجرى بين الصحابة أيهما أسبق للهجرة أأولئك الذين هاجروا من مكة المكرمة إذ هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة المكرمة، أم أولئك الذين هاجروا فرارا من فتنة المشركين، وبسبب بعدهم وغربتهم لم يهاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بل حبسهم البعد والغربة عن أن يهاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفى ذلك الشرف والإخلاص فليتنافس المتنافسون، وفى كل فضل، فالذين هاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نالوا نعمة الجهاد فى غزوات وسرايا، فجاهدوا فى بدر وأحد، وبنى قينقاع، وبنى النضير، ثم تحملوا البلاء فى حفر الخندق، وزلزال غزوة الأحزاب فى الخندق، ثم كان لهم فضل الصبر فى الحديبية، وليس صبر القتال، ولكنه صبر النفس، وضبطها، ثم بيعة الرضوان.
وفضل مهاجرى الحبشة أنهم كانوا فى غربة معزولة، وكانوا مستضعفين فى الأرض يبغون الجهاد ولا يدركونه، حتى أنقذهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فجاؤا إليه ليحملوا عبء الجهاد كإخوانهم، ويزول عنهم بلاء الاغتراب إلى بلاء الجهاد، وعزته.